ورد في آخر تقرير لمنظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة FAO أنه تُهدر سنويا كميات هائلة من الغذاء، تقدر ب 1،3 مليار طن، مما يترتب عن ذلك ليس فقط خسائر اقتصادية مذهلة، وإنما يُؤدي ذلك إلى إلحاق أضرار جسيمة بالموارد الطبيعية التي يعتمدها الإنسان لسد حاجياته الغذائية، كالمناخ والأرض والمياه والتنوع البيولوجي، حيث يشير التقرير إلى أن الغذاء غير المستهلك يستنزف سنويا من المياه ما يضاهي كمية التدفق السنوي لنهر الفولغا في روسيا، ويسبب نحو 3،3 مليار طن من غازات الاحتباس الحراري في فضاء الكرة الأرضية. علاوة عن ذلك، فإن هذا التبذير الفاحش للغذاء يكلف اقتصاديات العالم خسارة مالية تبلغ 750 مليار دولار سنويا، في الوقت الذي يعاني فيه يوميا 870 مليون شخص من المجاعة!1 بهذا التشخيص الواقعي يدق هذا التقرير الدولي أجراس الخطر، وهو يتعرض لمعضلة إشكالية تضع الإنسانية على المحك، وتميط اللثام عن تناقضات عميقة يشهدها راهن الإنسان؛ تناقضات يعجز اللبيب عن استيعاب أسرارها الملغزة وتفكيك تداعياتها المبهمة، حيث العالم تتجاذبه ثنائيات متنافرة ومتضادة، كالمعرفة والجهل، الازدهار والتخلف، الغنى والفقر، العدالة والجور وغيرها كثير، وتوجهه أقطاب متعارضة ومتصارعة محكومة بما هو نفعي وأيديولوجي، وما هذه الأرقام والأخطار التي تكشف عنها اليوم منظمة الفاو إلا إحدى النتائج المنطقية والواقعية للوضعية السياسية المزرية التي آل إليها العالم، وهي وضعية يحكمها منطق السوق وعولمة الاقتصاد والنظام العالمي الجديد، ولا يمكن فهم خفاياها إلا في ضوء هذه المحددات والمفاهيم والحقائق. ولا شك أن هذا التقرير وما يحمله من أرقام مثيرة من شأنه أن يشكل مادة إعلامية دسمة للعديد من وسائل الإعلام، يختلف استيعابه من قارئ إلى آخر، فتتعدد التفسيرات بخصوص ذلك، وتنقسم إلى من يقرؤه من منظور اقتصادي محض، ومن يربطه بطبيعة السياسات المعتمدة، ومن يركز على ما هو بيئي، ومن يستحضر الرؤية الدينية والأخلاقية، ومن يوفق بين هذا وذاك. المنظور الاقتصادي: إن تحليل ظاهرة "الإهدار الغذائي" لا يمكن أن يتم مفصولا عن العامل الاقتصادي، فالإحصائيات تشير بشكل صارخ إلى مدى الضرر الذي يلحق اقتصاديات العالم من جراء هذه الظاهرة، حيث تخسر الإنسانية كل سنة مليارات الدولارات (750 مليار دولار). فإذا ما اقتصرنا على المملكة الهولندية على سبيل المثال نجد أن الهولنديين، حسب تقرير لوزارة الإسكان والتخطيط العمراني والبيئة في هولندا، يهدرون على الأقل 2،4 مليار يورو من الغذاء سنويا، بما يعادل حوالي 400 يورو لكل أسرة، حيث يبذر كل شخص ما يقارب خمسين كيلوغراما من الغذاء غير المستهلك، وهذا يعني أن 20% من الأكل مصيره مطرح النفايات!2 وتتحدد أهم المواد الغذائية المعرضة للإهدار في الحليب ومشتقاته، الخبز، الأكل الجاهز، الخضروات، الفواكه، اللحوم، الزيوت والدهون، الأسماك وغيرها. ومَردُّ إهدار المستهلِك للغذاء إلى جملة من الأسباب مثل: ميل الإنسان المعاصر إلى شراء كميات كبيرة من الأطعمة، طهي الكثير من الأكل للوجبة الواحدة، فساد الغذاء جراء حفظه لمدة أطول، فقدان الطعام لجودته بسبب نقله غير السليم إلى المنزل، عدم الرغبة في أكل الطعام المتبقي، الادخار العشوائي للطعام في الثلاجات والمخازن، وغير ذلك من الأسباب. وما يلفت النظر أن هذه الأسباب عادة ما تقترن بسوء الاختيار وتفشي ثقافة الاستهلاك وغياب الوعي. وفيما يتعلق بغياب الوعي فقد توصل البرنامج التلفزيوني التوعوي "تذوق النفايات"، الذي بثته القناة الهولندية الثانية في أكتوبر 2012 إلى ثلاثة استنتاجات جوهرية. أولها أنه كلما تقدم الإنسان في السن، اقتصد أكثر في طريقة تعامله مع الأكل، وثانيها أن الرجال أقل من النساء ميلا إلى إهدار الطعام ورميه، وثالثها أن 71% من المستهلكين يفكرون كثيرا في التخلص من الغذاء غير المستعمل.3 على هذا الأساس، يبدو أن ظاهرة إهدار الغذاء التي يستكرهها الدين والأخلاق ولا يقبلها العقل والأعراف، تنطوي في حد ذاتها على حلول ناجعة للعديد من التحديات والمعضلات، التي تعاني منها الشعوب الفقيرة والجائعة التي يقارب تعدادها المليار نسمة. ألا يمكن إذن، سد رمق مئات الملايين من فقراء الجنوب بما يُلقيه أغنياء الشمال ليس من بقايا الأطعمة، وإنما من مواد غذائية غير مستهلكة؟ إن حل هذا الإشكال ذي الطابع الاقتصادي يقتضي أولا وقبل كل شيء إرادة سياسية حقيقية وجريئة. المنظور السياسي: كما ورد في تقرير وزارة الإسكان الهولندية السابق، إن الدولة تسعى إلى حدود 2015 نحو تقليص نسبة 20% من الغذاء المهدر، الذي يشكل ضغوطا قوية على البيئة.4 وفي هذا الصدد تندرج كذلك حملة منظمة الأممالمتحدة التي تحمل شعار: فكّر، كُلّْ، وَفِّرْ.5 ويُقصد من خلالها ترسيخ قيم أخلاقية بديلة للتعامل مع الغذاء، تحثُّ على عقلنة الاستعمال وترشيد الاستهلاك وتوفير الموارد. غير أن مثل هذه الخطوات تتخذ طابعا تطوعيا يفتقد في الغالب الأعم إلى القرارات السياسية التي تلزم السلطات والحكومات على تبني إجراءات قانونية صارمة بخصوص معضلة الإهدار الغذائي، تبدأ من الشركات والمصانع العملاقة التي تستنزف احتياط المياه وتلحق الضرر بالأرض وتلوث المناخ، ويتم ذلك عبر سن قوانين لحماية الثروات الغذائية والطبيعية وعقلنة ثقافة الاستهلاك وتخصيص ضرائب لصالح الشرائح المعوزة والفقيرة، هذا على مستوى أي بلد أو جهة. أما على الصعيد العالمي، فيلاحظ أن حصة الأسد من الكميات التي تهدر من الغذاء تتم في الشمال الغني، وأن الدول المتقدمة تهدر ما يقارب ثلث طعام العالم، وتشير آخر الإحصائيات إلى أن الفرد الواحد في هولندا يضيّع سنويا حوالي 50 كيلوغراما من الغذاء غير المستهلك، في حين أن هذه النسبة لا تتجاوز أحد عشر كيلوغراما في دول أفريقيا جنوب الصحراء وجنوب شرق أسيا. فلا قياس إذن مع وجود الفارق! والغريب في الأمر، أن المنطقة العربية، حسب إحدى تقارير منظمة الفاو، تهدر 16 مليون طن من القمح سنويا، وهى كمية تكفى لإطعام ما يتراوح بين 70 و100 مليون شخص.6 وهو رقم يتجاوز عدد جياع الأمة العربية! هذا إن دل على شيء، فإنه يدل على أنه في غياب أي إجراءات وقرارات سياسية جادة وصارمة تظل مبادرات الأممالمتحدة وغيرها من المنظمات الدولية حبرا على ورق! لأنه بواسطة القرارات السياسية نكتسب السلطة التنفيذية التي تمكننا من أن نعقلن هذا القطاع عن طريق مختلف الآليات التربوية والأخلاقية والقانونية والإعلامية. المنظور البيئي: يكشف تقرير منظمة الفاو السابق عن أن الغذاء غير المستهلك يستنزف مليارات المكعبات من المياه التي تضاهي التدفق السنوي لنهر الفولغا، ويخلف نحو 3،3 مليار طن من غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي. ولعل ظاهرة الاحتباس الحراري تشكل اليوم أخطر التحديات أمام مستقبل الإنسانية، إذ يظل الإنسان عاجزا تجاهها رغم التقدم الهائل الذي تشهده العلوم الطبيعية والفيزيائية والفلكية. يُرجع خبير البيئة البريطاني نيكولاس ستيرن في بحثه الموسوم ب (اقتصاديات تغير المناخ) تصاعد كمية الاحتباس الحراري إلى الانبعاثات الغازية التي أنتجت في الماضي وتنتج في الحاضر، ويعاني الناس منها عبر جميع أنحاء العالم، وسوف تكون لها آثار كارثية محتملة في المستقبل.7 وهذا ما يحيل على ظاهرة التغير المناخي التي تتخذ مظاهر متنوعة، كارتفاع درجة الحرارة، وذوبان الجليد، والاحتباس الحراري. حسب تقرير الهيئة الحكومية الدولية لتغير المناخ IPCC لعام 2001 زاد معدل حرارة سطح الأرض في القرن العشرين بنسبة 0،6%، ويُرجح بأنها الأعلى خلال الألف سنة الماضية. كما أنه لأول مرة في التاريخ يذوب الجليد بشكل كبير ويرتفع مستوى مياه البحار والمحيطات وتهطل الأمطار بغزارة في بعض المناطق مما أدى إلى نشوء ما يعرف بظاهرة النينيو.8 ويضيف التقرير أنه منذ سنة 1750، وهي السنة الفاصلة بين المرحلة الزراعية والمرحلة الصناعية بدأت الغازات تغزو الغلاف الجوي، كثاني أوكسيد الكربون والميثان التي تركزت منها نسب هائلة في الفضاء منذ سنة 1750، لم يشهد مثلها الغلاف الجوي منذ حوالي 420 ألف سنة.9 إن الكلام على ما هو بيئي لا يمكن أن يكون مفصولا عن مسألة الغذاء، حيث إن أغلب أنشطة الإنسان محكومة بإشباع الذات والجسد، ولا يتم ذلك إلا بالأكل والتغذية المستمرة، التي تجعل الحياة تنمو وتتجدد وتتطور، غير أن ذلك ينبغي أن ينضبط إلى جملة من القوانين والمحددات والأعراف، وبمجرد ما ينتفي ذلك تسود الفوضى ويهيمن قانون الغاب، وهذا ما صارت إليه الإنسانية في عزّ ازدهارها العلمي والتكنولوجي والاقتصادي، حيث تم التركيز على ما هو مادي على حساب ما هو بيئي وأخلاقي، فترتب عن ذلك أن راح كل من الإنسان والمجتمع والكون يفتقد توازنه الفطري والطبيعي، مما أدى إلى نشوء عوائد وظواهر شاذة، وما إهدار الغذاء إلا واحدة منها، تسبب، بشكل أو بآخر، في ما يعتري المناخ والماء والأرض من تغيرات جذرية تدفع بالإنسانية إلى المجهول دون أن تكترث بذلك، لأن الجشع أعمى البصائر، فانطلق الإنسان خلف سراب المصالح والمطامع، وهو لا يدرك بأنه يصنع نهايته المحتملة بيده. المنظور الأخلاقي: لعل من يقرأ الأرقام السالفة الذكر قد يتساءل من منطلق أخلاقي حول ما يحصل في العالم، وهو يستحضر الثنائيات الدينية والفلسفية المتداولة، كالخير والشر، الحق والباطل، الحرام والحلال، الجميل والقبيح وغيرها. وهذا أمر لا مناص منه، لا سيما في مثل هذه المواقف التي تقرر حال الإنسانية ومآلها، وأي تهاون في التعامل مع الطبيعة والبيئة من شأنه أن يعجل بنهاية الإنسان من جراء الأوبئة المجهولة والحروب الفتاكة والكوارث غير المتوقعة والآفات الشاذة. لذلك فإن الدين الإسلامي يُشيطن المبذرين ويعتبرهم إخوان الشياطين، والثقافة الشعبية تلقننا كيف نحترم النعمة ولا نلقي بها على الأرض أو في القمامات، أما الفلاسفة فإن منهم من يدعو إلى التصالح مع البيئة والعودة إلى الأرض بكونها الأصل والموئل، وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى نظرية الفيلسوف الأخلاقي ألدو ليوبولد "أخلاقيات الأرض/Ethic Land"، الذي يدعو إلى توسيع قاعدة الأخلاق لتشمل غير الإنسان، إذ يؤسس نظريته على مبدأ التفاعل مع الأرض والميل إلى الحفاظ على نزاهة واستقرار وجمال المجتمع الحيوي Biotic Community.10 وما يسترعي الانتباه أن أغلب المبادرات الرسمية والمدنية المتعلقة بظاهرة إهدار الغذاء تتخذ طابع التطوع واللا إلزام، إذ تكاد تغيب هذه الظاهرة من الأجندات السياسية وتفتقر إلى المساطر القانونية، مما يقتضي تفعيل الموروث الأخلاقي قصد سد هذا الفراغ القانوني والتنظيمي، وتشترك معظم الأديان والثقافات في رفض هذا التعامل الشاذ مع خيرات الطبيعة وعطاياها، بل وثمة من المعتقدات ما يقدس الماء والخبز وغيره من الأغذية. حقا أن هناك بعض القوانين الزجرية في هولندا وبلجيكا التي تمنع إطعام الطيور والحمام، حيث تصل عقوبة كل من يطعم الحمام في الفضاءات العمومية بمدينة أونفيرس إلى 250 يورو، غير أن هذا الإجراء القانوني لا يتعلق بمسألة إهدار الغذاء في حد ذاتها، بقدر ما يستهدف حماية صحة الطيور!11 إن المقاربة الأخلاقية لظاهرة إهدار الغذاء تنبني على تصور شمولي يأخذ بعين الاعتبار مختلف الأبعاد الاقتصادية والقانونية والبيئية، وذلك قصد ترشيد عملية الاستهلاك والتصالح مع البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية، مما قد يعيد التوازن إلى العلاقات الإنسانية وإلى النواميس التي تحكم الكون والوجود. وهذا يعني أن الحاجة أصبحت ملحة إلى مدونة أو ميثاق أخلاقي يُعرّف بهذه الظاهرة الشاذة، ويدعو إلى تفادي أسبابها والتقليص من تداعياتها، وذلك عبر مختلف الآليات التربوية والإعلامية والدعوية والقانونية، التي تحسس بخطورة إهدار الغذاء على مستوى المدرسة والمسجد والشارع والإعلام. الهوامش: 1 Food waste harms climate, water, land and biodiversity, new FAO report, Rome, 11 September 2013 2 Factsheet Voedselverspilling, ministerie van Landbouw, Natuur en Voedselkwaliteit, mei 2010, p. 2 3 Taste the Waste, Boeddhistische Omroep Stichting, Nederland 2, 16 en 17 oktober 2012 4 Factsheet Voedselverspilling, p. 1 5 Think, Eat, Save: FAO, UNEP and partners launch global campaign on food waste, http://www.fao.org 6 الفاو: إهدار 16 مليون طن قمح سنويًّا في المنطقة العربية، موقع مفكرة الإسلام، الأحد 14 أكتوبر 2012 7 Nicholas Stern, The Economics of Climate Change, in: Climate Ethics, Essential Readings, Stephen M., ed., Oxford University Press, 2010, p. 39 8 Ibid, p. 5 9 Ibid, p. 6 10 Land Ethic, in: Encyclopedia of Environmental Ethics and Philosophy, vol. 2, J. Baird Callicott and Robert Frodeman (Editors), Gale Cengage Learning, Macmillan Reference USA, 2009, p. 21 11 Duiven en duiventillen, http://www.antwerpen.be/eCache/ABE/3/490.html