كثيرا ما طُرح ويُطرح سؤال اعتادت الساحة التربوية المغربية عليه، منذ زمن البرنامج الاستعجالي 2009-2012، مفاده: هل وصل الإصلاح التربوي الذي عرفته وتعرفه منظومة التربية والتكوين الى الفصل الدراسي؟ على أساس، أن مسلسل الإصلاحات التربوية الكبرى التي انطلقت مع الميثاق الوطني للتربية والتكوين منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، وإلى الآن، ما كانت تستهدف سوى الوصول إلى التلميذ باعتباره غاية هذا الإصلاح ومصبّه الأخير، وبهدف إحداث تغيير في ذاته، وباعتباره نواة التغيير الممكن لبناء مواطن الغد في ضوء خصوصيات المغرب الآنية والمستقبلية لمرحلة ما بعد التوافقات الكبرى التي أطرتها الإصلاحات الدستورية والسياسية، منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، في سياق حراك وطني اجتماعي وسياسي قادته، من جهة المجتمع، الكتلة الديموقراطية، على أرضة ميثاق تأسيسها سنة 1992، وما واكب هذه الإصلاحات من تفاعلات وامتدادات إصلاحية في مختلف المجالات الدينية والثقافية والقيمية والاجتماعية. وهو سؤال ما زال يُطرح وبحدة، منذ ذلك الحين، بكل ما يخفيه من موضوعات وأسئلة لا يريد أحد الخوض فيها، أو على الأقل، من باب الإنصاف القول، ما زال يتجنب الخوض فيها المهتمون، بخلفية احترام مجال الاهتمام والتخصص. وإن طُرحت فإنما تُطرح في غالب الأحيان، بخلفيات مؤطرة بمرجعيات فكرية، وبخلفيات إيديولوجية، تجعلها تفتقر إلى سند الموضوعية والواقعية، وتعتمد الوصف والتأويل والتكييف والاستثمار خدمة لأهداف لا تفيد في صياغة أجوبة ممكنة للوضعيات الحقيقية التي يطرحها الميدان، بقدر ما تبتغي تزيين ما لا يُزَين (العام زين) أو الهروب للأمام وإنكار كل ما تم إنجازه وتحقيقه من مكتسبات. من هذه الأسئلة الخفية ما يهدف إلى توجيه بوصلة الاهتمام، إن لم أقل الاتهام، في اتجاه ما هو بيداغوجي. ومن ثمة، في اتجاه كل مَنْ وما له صلة بالمسألة البيداغوجية، ويُقصد بذلك عادة الفاعلون البيداغوجيون (الأساتذة – المفتشون)، والحوامل البيداغوجية (المضامين – الكتاب المدرسي- ..)، وأزمنة الإنجاز (الزمن المدرسي – ...). وما إلى ذلك. والهدف هو خلق بعض الوهم بأن الشأن التربوي شأن خاص بفئاته، وتجب معالجته في إطار خصوصيته. وأن المسألة البيداغوجية، من مقاربات وطرق ذات أهمية في تجويد التعلمات وتحسين المكتسبات، ومن ثمة، في تحسين مؤشرات النجاح المدرسي ومحاربة الهدر المدرسي. في حين أن كل ما يتعلق بهذه المسألة هو آخر حلقة في سلسلة بناء السيناريوهات الممكنة لإنجاز الإصلاح/ التجديد المفترض في الزمان والمكان ومستوى القرار. وأن كل حلقات الإصلاح التربوي الذي عرفته منظومة التربية والتكوين في المغرب، منذ الميثاق الوطني للتربية والتكوين، كما كانت في السابق، تمت من خارج هذه المنظومة. وطبعا، عن طريق فاعلين من داخل المنظومة، فرضتها سياقات أخرى على هذه المنظومة، وكانت من طرف جهات عادت للفعل وبقوة في الشأن التربوي، بالتحكم والتوجيه، بعدما كان الفقه التربوي (النخبة التربوية) في المرحلة الأولى من عمر الميثاق الوطني للتربية والتكوين، قد وجد لنفسه موطن قدم ضمن رقعة الفعل والممارسة في الشأن العام. وهي مرحلة ما قبل البرنامج الاستعجالي الممتدة ما بين 2000 و2007. المرحلة التي وُصفت من طرف هذا الفاعل الخارجي بالبطء في الإنجاز وضعف النجاعة، واقتضت التدخل من أجل إعادة توجيه بوصلة الإصلاح وتسريع وتيرته، واتخذت من تقرير المجلس الأعلى للتعليم (المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي حاليا) لسنة 2008 موضوعا وسندا لها لضمان مشروعية التدخل، من جديد، وبقوة، في الشأن التربوي. في الوقت الذي لا يمكن أن ينكر أحد بأن هذه المرحلة عُرفت بالغزارة في الإنتاج والتعبئة الشاملة وبداية إرساء الثقة. فهي مرحلة صياغة الاختيارات الكبرى (الوثيقة الإطار للاختيارات التربوية – الكتاب الأبيض- ...)، وإنتاج الأدبيات والمرجعيات والوثائق التربوية الموجهة، والمرجعيات القانونية المؤطرة. كما عرفت انطلاق أوراش تربوية كبرى حقيقية، وعلى رأسها ورش منتديات الإصلاح التي يمكن اعتبارها من أنجع الصيغ لضمان التعبئة المجتمعية، وتفعيل شرط الالتقائية بين من يُنتج الأدبيات النظرية وبين من يُنتج الممارسة الميدانية، بين من يفكر ومن يدبّر ومن ينجز، بين المدرسة كمجتمع للتعلم الجماعي وبين شركاء المدرسة من داخل المدرسة ومن خارجها. وكانت هذه المنتديات تحمل في طياتها بذور تطورها. وكان من المفترض أن تتحول، في سياق ما عرفته بلادنا من مستجدات، إلى تأطير جهوي في إطار الجهوية المتقدمة والتدبير اللامركزي للشأن التربوي، بدل أن يقتصر هذا التدبير، وإلى حدود الآن، على تدبير الموارد البشرية والمالية. كما كان من المفترض أن ترتبط أكثر، بالخصوصيات الجهوية، في أفق إنتاج المنهاج التربوي الجهوي كرافد من روافد المنهاج التربوي الوطني. وأن تصبح فضاءات للقرب، وأرضية لتوجيه البحث والتطوير وتجويد الممارسات التدبيرية والبيداغوجية. وذلك بجعل الممارسة والميدان مرجعا أساسا في تطوير وإنتاج العدة التدبيرية والبيداغوجية الكفيلة بضمان التنزيل السليم للاختيارات الوطنية الاستراتيجية في مجال التربية والتكوين في بعديها المركزي والجهوي. إن تجديد المدرسة المغربية، في أفق كسب رهان بناء مدرسة وطنية عمومية دامجة ومنصفة ومندمجة، وفي ضوء مقومات الجهوية المتقدمة، وفي سياق مستجدات النموذج التنموي الوطني، لا يتخذ الشأن البيداغوجي وحده موضوعا له، أو على الأقل، لا يجب أن يكون كذلك، حتى لو بدا الأمر للبعض، من داخل المنظومة أو من خارجها، ضرورة. وإنما يجب أن ينصبّ على فعل التجديد في علاقته بسؤال الكيف الممكن، بعد الحسم في مسألة تعميم الولوج المنصف عن طريق توسيع العرض المدرسي وتأهيل البنيات التحتية بمختلف امتداداتها، سواء داخل المدرسة (الفضاءات الملائمة للتعلم في الشروط المقبولة وفق ما استجد في عالم اليوم من وسائط وآليات)، أو من خارج المدرسة (الماء – الكهرباء – الطرق – النقل – ...). ومن أسئلة الكيف ذات الأولوية والتي يجب ان تحظى بالاهتمام اللازم نركز ها هنا على أربع منها: أولا: سؤال حاضر الطفولة المبكرة/ أي التلميذ، من حيث هو، نتاج عوامل سوسيو-اقتصادية وثقافية مؤثرة. إذ لا يمكن أن نغفل أهمية التربية الوالدية ودور الأسرة والمحيط في النمو والتعلم وطبيعة التمثلات والمكتسبات والمؤهلات والحاجات المعبر عنها والحاجات الحقيقية في علاقة بالحاجات المجتمعية وعلاقة كل ذلك بالإنصاف البيداغوجي والنجاح المدرسي ونجاعته وما إلى ذلك. إن الطفل/ التلميذ(ة) الذي ينتمي إلى مجال فقير من حيث مصادر التعلم والإمكانيات الملائمة لإحداثه سواء في الأوساط القروية أو شبه الحضرية أو الأحياء الهامشية في المدن، يحتاج إلى ممكنات إضافية حتى يستطيع التمتع بحقه كاملا في التعليم والتعلم على حد سواء. لأن الحق في التعليم والتعلم ليس حقا بقوة الاستحقاق، ولكنه حق بقوة المواطنة. وليس التعليم والتعلم خدمة تقوم على الاستطاعة، أي من استطاع إليها سبيلا، ولكنها خدمة عمومية تقوم على الواجب، مقابل ما يلتزم المواطنات والمواطنون بأدائه من ضرائب مباشرة وغير مباشرة أصبحت تلتهم جزءا مهما من دخلهم الفردي. وهنا يتم الحديث بشكل مقصود على الحق في التعلم إلى جانب الحق في التعليم، لأننا نعي ما بين الكلمتين من فرق، ليس على مستوى الدلالة في الحقل البيداغوجي وإنما على مستوى الدلالة في الحقل الحقوقي. فالتمتع بالحق في التعليم ليس شرطا للتمتع بالحق في التعلم، ما دام التعليم يقوم، في الفضاء المدرسي، على ما هو جامع ومشترك، بينما التعلم يقوم على الخصوصية والتفرد. ويقتضي استحضار الفوارق والذكاءات المتعددة وتنوع استراتيجية التعلم وإيقاعاته. كما يقتضي استحضار عوامل مؤثرة في إحداثه مثل نوعية المضامين ومدى استجابتها لحاجات النمائية، والإيقاعات الزمنية ومدى ملاءمتها، والفضاءات وما توفره من مناخات محفزة على التعلم، كأن تكون ملائمة للعمل بالمجموعات والتعلم بالممارسة والتعاون وتفعيل مختلف البيداغوجيات التفاعلية وبيداغوجيا التعلم، وما إلى ذلك. وهو ما يستوجب نوعا من التمييز الإيجابي الذي يساعد على ردم الفوارق في إطار منظومة الإنصاف البيداغوجي. أي، أن هذا التلميذ بصفته متعلمة ومتعلم متمدرس(ة) يحتاج، من أجل تمكينه من حقه في التعلم المنصف، إلى التدخلات اللازمة، في الوقت اللازم، لتمكينه من مساحات زمنية كافية تتناسب وإمكانياته الحقيقية للتعلم، ومقاربات بيداغوجية ملائمة لاستراتيجياته في التعلم. كما هو في حاجة إلى تدخلات كفيلة بمساعدته على تجاوز تعثراته الحاصلة، ودعم مكتسباته وإثراء خبراته عن طريق تنويع مصادر التعلم ومصادر المعرفة وتنويع فضاءات التعلم والممارسة. وهي، جميعها، مستلزمات، لا تقل أهمية، لدعم نجاحه المدرسي ونماء شخصيته قصد تحقيق النضج اللازم والتأهيل الملائم وممكنات التخرج الذي يستجيب لمتطلبات الاندماج الإيجابي في الحياة الخاصة والعامة، في انسجام وتلاؤم مع متطلبات التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع المغربي. ومن ثمة، متطلبات بناء المواطنة الحقة. وهي، بطبيعة الحال، تدخلات على شكل خدمات تربوية لا يمكن أن توفرها المدرسة وحدها بإمكانياتها المحدودة. كما لا يمكن أن توفرها الأسرة وحدها، لأنها أصلا، تعاني العوز وضيق الحال من جهة، وفقر في الإمكانات المعرفية، من جهة ثانية، وإنما يستلزم توفير هذه الخدمات تدخلات من خارج المدرسة، ومن خارج الأسرة، ولكن بالضرورة داخل المدرسة، من طرف شركاء المدرسة، لكن، تحت إشراف المدرسة. إذ لا يمكن أن يكون ذلك ناجعا وفاعلا إلا إذا كان موجها ومؤطرا من طرف المدرسة باعتبارها المسؤولة عن الاختيارات التربوية وتنفيذها، وباعتبارها المعنية موضوعيا بحراسة هذه الاختيارات والسهر على تفعيلها، لأنها المرجع الذي في ضوئه يمكن بناء الفرد المواطن الملتزم بما هو جمعي ومشترك، في إطار الانتماء للهوية الوطنية المتعددة الروافد واستنادا إلى الاختيارات الاستراتيجية الوطنية والثوابت الوطنية للأمة المغربية. وهو ما لا يمكن أن يتم إلا في إطار تدبير مشترك للشأن التربوي من طرف المدرسة وشركائها، على أن يكون الإطار المنهجي لتدبير هذا الشأن، والضامن لتفعيل المقاربة التشاركية، هو مشروع المؤسسة الدامج والمندمج القائم على استقلالية المؤسسة التعليمية. ثانيا: سؤال تأهيل الفاعلين في مجتمعات التعلم إنهم الفاعلون المنتجون للممارسة في الوسط المدرسي، مادامت الممارسة هي التي تكشف الخصوصية، وتخلق التميز، وتنتج مقومات الجودة، وليس الأدبيات والمرجعيات التربوية. وأن هذه المرجعيات لا قيمة لها ما لم تتوفر لها، أولا، ممكنات التشغيل والاشتغال داخل مجتمع التعلم الذي هو المدرسة، وتحمل في طياتها إمكانات الملاءمة والتطوير والتكيف مع الخصوصيات المحلية. وما لم يتوفر لها، ثانيا، من المؤهلين والأطر ذات الكفاءة اللازمة المتمكنة من الاختيارات التربوية والمرجعيات المؤطرة للشأن التربوي والمواكِبة للمستجدات في حركتها المتسارعة، والقادرة على ممارسة الأفعال الديداكتيكية في مجالات القيادة والممارسة التدبيرية للشأن الإداري أو للشأن التربوي، على حد سواء، داخل المدرسة، كما داخل المديريات الإقليمية والأكاديميات الجهوية، في إطار تدبير القرب. وهو ما أسميته في مقال سابق تحت عنوان تجديد المدرسة المغربية ومسألة النخب الوسيطة" بالنخبة الوسيطة، حتى أجعل المفهوم يتسع، ولو بنوع من التعسف الدلالي، ليستوعب معنى أوسع وأكثر عمقا وهو مفهوم الانتماء بدل مفهوم التراتبية. وهنا أستحضر ذات حوار ثنائي مع مسؤول إقليمي، قبل سنوات مضت، ونحن نتناقش في أمر يخص الشأن التربوي بالإقليم، فقال لي بالحرف عبارة، لن أنساها يوما، مفادها: " أنت (المقصود أنا بصفتي مخاطبا) تفكر فيما هو استراتيجي، أي ما سيكون بعد عشر سنوات فما فوق، وأنا (المقصود هو المتكلم) أفكر كيف أقضي يومي في الإدارة دون مشاكل وكيف أحافظ على منصبي حتى أضمن لنفسي مسارا مهنيا مرضيا". وهذا يعني أن الفاعل المدبر المنفّذ التقنوقراطي الذي لا يعطي لنفسه الحق في التفكير والممارسة وفق خصوصيات المجال وحاجات الميدان، ولا يعطي لنفسه الحق في الاجتهاد وفي الإنتاج وتجويد آليات المواكبة. بل قد يتعمّد، في كثير من الأحيان، محاربة الاجتهاد وتبخيس المجهودات وكبح المبادرات. ويميل إلى تسطيح وإفراغ العمليات من مضمونها الحقيقي لتفادي كل ما من شأنه أن يضعه في موضع الاجتهاد والبحث عن الحلول الممكنة. في المقابل، يجتهد في النقل وتنزيل المفردات، ويكتفي بإضافة ورقات الإرسال إلى المذكرات والوثائق التربوية وجمع التقارير وتحويل الوثائق التربوية إلى عروض نظرية، تُعرض أمام الفئات والجماعات والفاعلين، من أجل إنجاز التقارير الإدارية والصحفية، دون أي اعتبار لخصوصيات تنوع المتلقين والفئات المستهدفة والحاجات الحقيقية التي يطرحها الميدان، وكذا جودة المنتوج المنتظر وفعاليته. إن شروط الصحة للحصول على هذه النخبة من المؤهلين والأطر ذات الكفاءة اللازمة، وشرط أسبقية هو التكوين بمختلف مستوياته، الأساس والتأهيلي والمستمر. بل إن التكوين مستلزم وجب مواجهة سؤاله قبل مجابهة سؤال المسألة البيداغوجية. إن التكوين الأساس والتأهيلي الحاصل والصيغ التي يتم بها إلى حدود الآن، لا ينتج فاعلين تربويين ميدانيين متشبعين بقيم الانتماء، ومتملكين للخبرات والمهارات المطلوبة، وإنما ينتج حاملين للمعارف الخامة التي تحتاج إلى اشتغال ديداكتيكي حتى تخضع لإعادة" التصنيع" وتتحول إلى خبرات واعية قابلة للاشتغال والنقل وإحداث الآثار المنتظرة منها. وهو ما يتطلب مقاربة جديدة للمواكبة المهنية لمختلف الأطر الإدارية والتربوية على حد سواء، وخصوصا في الأقاليم والجهات التي لا تعد مناطق استقطاب، بل تعد مناطق عبور مهني. إن الفاعل الإداري والتربوي يحتاج إلى فترة زمنية مهمة حتى يصبح مستوعبا لمهامه، واعيا بوظيفته، متشفعا بانتمائه للمؤسسة التي ينتمي إليها، ويصبح، بذلك، متحكما في خبراته التي يمكن أن تساعده على تحسين وتجويد أدائه، ممتلكا لآليات التحليل والتبصر وإنتاج الحلول الممكنة لوضعياته المهنية والبيداغوجية. وقادرا على المشاركة بفعالية في تدبير الشأن التربوي من داخل مجالس المؤسسة، مندمجا في مجتمع التعلم الذي هو المدرسة، وعارفا بخصوصيات محيطها لذلك فهو يحتاج إلى مواكبة مهنية مُمأسسة. إن المعرفة غير القابلة لإحداث الأثر والتوظيف لمواجهة الوضعيات المفترضة، في الآن، والمهنية والحياتية مستقبلا، لطابعها المجرد، لا تفيد في مجال الفقه التربوي، بل قد تحقق نتائج معكوسة ونقيضة. إنها معارف مجرد عُملة للاقتراض والتداول والنقل من المكوِن إلى المكوَن، ومن هذا الأخير، كوسيط إلى آخر، سواء كان هذا الوسيط فاعلا بيداغوجيا أو مدبرا إداريا. مما يسهم في ازدهار حركة نقل المعارف من الأعلى إلى الأسفل، ومن المركزي إلى المحلي، ومن المعلم(ة) إلى المتعلم(ة). وهو ما لا يمكن أن يصبّ إلا في بحر بيداغوجيات النقل وتكديس المعارف وإعادة استرجاعها. لكن، على كل حال، فإن الأمر، في اعتقادي، لا يتعلق بالفاعلين في ذاتهم، ولكن يتعلق، أساسا، بأنظمة التكوين، في حد ذاتها، ومضامينها وصيَغها وطرق إنجازها وأدواتها. إن التكوين الأساس الذي يتم في الجامعات، والتكوين التأهيلي الذي يتم في المراكز هو تكوين يفتقر إلى سند الواقعية وإلى سند الممارسة. هو تكوين في جملته تكوين نظري ميت معزول عن واقعه. يقوم به مكونون وأساتذة ينتمون إلى المجال الأكاديمي ويتحركون في سياقاته. وينتمون إلى مجال البحث الأكاديمي النظري الذي في غالبه، يقوم، إلا من رحم ربك، على اقتراض نظريات في التدبير وفي علوم التربية وفي العلوم التخصصية. بل وترجمة السيناريوهات ونقلها من خارج مجال الممارسة، أو إعادة إنتاجها أو تكييفها في ضوء موجهات ذات علاقة بالعمل الأكاديمي وخصوصياته، ومن خارج مختبرات البحث التي لا تستند، في غالبيتها، إلى الممارسات التدبيرية والبيداغوجية الفعلية والحقيقية. لكن التكوين في مجال التربية والتكوين، بشكل خاص، وفي مجال الفقه التربوي، بشكل عام، يفترض، بالضرورة، أن يكون سنده تحليل الممارسة ضمن وضعيات حقيقية من طرف الفاعلين الميدانيين، ووضعها موضع تساؤل وتفاوض من أجل إنتاج ممكنات الحلول المناسبة التي لا تقبل التعميم ولا تقبل النقل إلا باعتبارها منهجا وآليات وعُددا. لأن المستهدف بها ومنها، كموضوع اشتغال هو الإنسان الذي من طبيعته التنوع والتفرد والخصوصية سواء كان أستاذا(ة) أو متعلما(ة). ثالثا سؤال الحكامة في الوسط المدرسي: إن المدرسة ليست فقط مجموعة من الفضاءات التربوية والإدارية. وروادها فئات من التلاميذ المختلفة أعمارهم وانتماءاتهم الاجتماعية. يسهر على تعليمهم أساتذة. ويقوم بتنظيم عملهم إداريون، وإنما المدرسة هي، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، هي مجتمع للتعلم وبناء الخبرات، وفضاء للتفاعل، وشبكة من العلاقات تنظمها قواعد العيش المشترك والتدبير المشترك للفضاء والعلاقات والمهام، بغاية إحداث التعلم والتكوين وتبادل الخبرات وإنتاج المعرفة. كما أن المدرسة، بصفتها تلك، أي كونها مجتمعا للتعلم وبناء الخبراء وتقاسمها، هي فضاء لاشتغال منظومة القيم ومنظومة القوانين المحددة للحقوق والواجبات، والتي من خلالها تشتغل هذه القيم، وينتقل أثرها للمتعلمات والمتعلمين عن طريق إشراكهم في التخطيط والتدبير والتفعيل والتقييم، بهدف التعلم بالممارسة والإعداد لممارسة المواطنة الكاملة داخل المدرسة وخارجها، وتلك غاية من غاية وجود المدرسة ووظيفة من وظائفها الأساسية. لذلك يبقى إحداث وتفعيل آليات الفعل والممارسة الجماعية داخل هذا المجتمع، والتي هي مجالس المؤسسة وعلى رأسها مجلس التدبير والمجالس التلاميذية والنوادي المدرسية وجمعيات أمهات وآباء وأولياء التلاميذ وآليات الشراكة مع الجماعات الترابية والنسيج الجمعوي المدني المحلي، ضرورة لتفعيل الحكامة في الوسط المدرسي. وما دامت هذه المجالس لم تعرف طريقها للتفعيل بالنجاعة المطلوبة؛ ولم تتوفر لها شروط التفعيل؛ ولم تُستوعب بعد وظيفتها في إرساء الحكامة في الوسط المدرسي؛ ولم يتم توظيفها كفضاءات للتعلم ضمن الزمن المدرسي للمتعلمات والمتعلمين، والزمن الإداري للأطر الإدارية؛ فإنه لا يمكن بناء وتفعيل مشاريع للمؤسسة قادرة أن تكون إطارات منهجية لتدبير الشأن التربوي بالمؤسسات التعليمية بالمواصفات المطلوبة. رابعا سؤال مستلزمات الكيف، ماذا يعني فعل تجديد المدرسة المغربية إن لم يقم على دعامتين، متكاملتين، وبينهما علاقة جدلية لا تلغي إحداهما الأخرى، وتحتاج كل منهما للأخرى. بل هما مكونا وحدة هوية التجديد، في حد ذاتها. إنها دعامة تحليل الممارسات الميدانية التدبيرية والتربوية واستقرائها وجمع معطياتها وتحليلها وفرز نتائجها واستثمارها في صياغة مقومات التجديد. ثم دعامة الإنتاج النظري، في صيغة عُدة من القواعد والبرامج والآليات والسيناريوهات القابلة للتطبيق والتعميم ومعالجة الوضعيات التدبيرية والتربوية في الفضاء الإداري أو في الفضاء البيداغوجي. إن ما أنتجناه لحد الساعة، في اعتقادي، هو اختيارات كبرى. وأنتجنا سيناريوهات افتراضية قابلة للتفعيل. تتوفر على مقوماته، استنادا إلى نظريات وأدبيات ومرجعيات وقوانين ومراسيم وما إلى ذلك، وفي ظل سياقات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، وفي ضوء موارد مالية داعمة، بل وأنتجنا، كذلك في المقابل، ممارسات جانبت الصواب وأخطأت طريق التنفيذ بالأمانة اللازمة. لكن الذي تحكم في انتاج هذه الاختيارات هو الفقه الاقتصادي والسياسي "والعلمي" والتوجهات العالمية في مجال التربية والدعم الدولي في إطار برامج للتعاون، بعيدا عن خصوصيات الفقه التربوي والبيداغوجي المغربي. إن التفكير في التربية من الزاوية السياسية والاقتصادية واستحضار المعطى الدولي والإمكانات والموارد كلها أمور مطلوبة، وهو ما نبتغيه، لأنه لا يمكن فصل التربية عن الاقتصاد والسياسة، ولا يمكن التفكير في معزل عن العالم وما يدور فيه، بنفس القدر، الذي لا يمكن فيه أن نفصل الفرد عن مجتمعه وحاجاتهما المشتركة. ولكن، مدخل التفكير في إنتاج هذه الاختيارات وسيناريوهات التفعيل هو اختصاص من المفروض أن يُسند إلى الفقه التربوي المواطن الذي يجعل منظومة الحقوق والعدالة مرجعا في بناء هذه الاختيارات التربوية والبيداغوجية، مادام الفقه السياسي والاقتصادي، معا، لا يقومان على الموضوعية، بقدر ما يقومان على دعم المصالح الفئوية وغاياتها الآنية والمستقبلية، ويستند إلى مقولات التفاعل في السياقات التاريخية بين الشرائح الاجتماعية، حتى لا نقول أنه يستند إلى مقولات أنماط العلاقات الاجتماعية السائدة وآليات تدبيرها في إطار تكريس السائد وإعادة إنتاج مقوماته. إن ما يحتاجه تجديد وبناء المدرسة المغربية المواطنة اليوم، من أجل إنجاز مهمتها التجديدية، في بعدها التدبيري والبيداغوجي، هو الربط الجدلي بين تحليل الممارسة عن طريق آليات الافتحاص الإداري الداخلي والخارجي لمختلف الهياكل المدبرة من جهة، والبحث التربوي التدخلي المندمج في مختلف الوضعيات المهنية الإدارية والبيداغوجية من جهة ثانية. البحث الذي يستند إلى مقاربة القرب من أجل انتاج السيناريوهات الممكنة لاشتغال مختلف التدابير التي تم اعتمادها لتنفيذ أحكام القانون الإطار 51-17. وهو أمر له مستلزمات نجملها فيما يلي: أولها الترجمة الفعلية لإرادة ربح رهان تجديد وبناء المدرسة العمومية المواطنة التي توجد في قلب النموذج التنموي الناهض بالبلاد عن طريق تجديد آليات إرساء الثقة؛ ثانيها التعبئة الجماعية التي تستند إلى الحوار الجماعي من خلال إعادة إحياء منتديات الإصلاح في صيغة جديدة مؤطرة بالخصوصيات الجهوية؛ ثالثها إحداث وتفعيل مجموعات عمل على مستوى الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين تُسند إليها مهمة التخطيط ووضع سيناريوهات الإنجاز وإنتاج العدة اللازمة للإنجاز والمواكبة في أفق زمني قابل للتقييم؛ رابعها تفعيل أدوار التفتيش الجهوي والإقليمي بمختلف مجالاته، على مستوى مجموعات عمل المناطق وتفعيل الهياكل المنصوص عليها في المذكرة الإطار لتنظيم التفتيش الصادرة سنة 2004 وملحقتها التنظيمية (المذكرة 113)، وتمكين هذا الجهاز من آليات العمل اللازمة وإعادة الاعتبار للهيئة وأدوارها في المنظومة على مختلف مستوياتها، من أجل نفس جماعي جديد للتفكير والعمل الجماعيين في الشأن التربوي، والإنتاج الجماعي للحلول والبدائل الممكنة، والعمل على جعل جهاز التفتيش يقترب أكثر من المؤسسة التعليمية ومشروعها التربوي بدل الاكتفاء بالعلاقة مع الأستاذ كفاعل بيداغوجي. وذلك في أفق إعادة بناء رؤية جديدة لأدوار التفتيش وإعادة صياغة مرجعيات تنظيمه وممارسة مهامه، تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المستقبل ومستلزمات كسب رهانات التنمية والتقدم. خلاصة القول، تتوفر منظومة التربوية والتكوين في المغرب اليوم، إذا ما استحضرنا كل التراكمات وكل الأدبيات والمرجعيات التي تم إنجازها منذ الميثاق الوطني للتربية والتكوين، بما في ذلك القانون الإطار51-17 وحافظة المشاريع المندمجة لتفعيل أحكامه، واستحضرنا، كذلك، بعض ما نحن مدعوون لإعادة النظر فيه من قضايا شائكة بإطلاق ورش النقاش المجتمعي حوله، وما يحتاج إلى تدقيق في مفاهيمه، قلت تتوفر هذه المنظومة، على كل ما يمكن أن يجعل تجديد وبناء المدرسة المغربية العمومية المواطنة ممكنا، إذا ما تم استثماره على الوجه الأفضل. لكن علينا أن نستحضر، أيضا، بأن، كل ذلك، قد يسهم في التطوير، ولكنه لا يمكن أن ينتج الجودة ولا يمكن أن يسهم في تحسين المؤشرات النوعية للمنظومة، لأن ما يُحدث الفرق ويُحسّن الأداء المتسم بالنجاعة المطلوبة، هو الممارسات والأفعال الإدارية والتربوية.