في خطوة مذلة ومهينة للجزائر، قام الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون بتوشيح صدور "الحركيين" بأوسمة الاستحقاق، وهم أولئك الجزائريون الذين تعاونوا وقدموا خدمات لفرنسا في الحقبة الاستعمارية على حساب الشعب الجزائري. حدث نقلته وسائل الإعلام الفرنسية وكان محط اهتمام العديد من القنوات الأجنبية باعتباره حدثا مستفزا ومثيرا، باستثناء النظام الجزائري الذي أغمض عينيه وصم آذانه عن الحدث وكأن كرامة الجزائريين لم تخدش ولم تتعرض للإهانة. بل إن الرئيس عبد المجيد تبون خرج بتصريح مثير للسخرية معلنا بكل وقاحة "لن أرد على الرئيس ماكرون"، وكأن الأمر يخصه شخصيا ولا يخص الشعب الجزائري. إن هذا التوشيح الذي لا يستحق ردا من الجزائر كما تدعي أعلى سلطة في البلاد، يتناقض بشكل صارخ مع ما كانت تدعو إليه الجزائر نفسها، وهو مطالبة فرنسا بتقديم اعتذار عما اقترفته في حق الشعب الجزائري إبان الحقبة الاستعمارية. واليوم، حينما يخرج الرئيس الجزائري بتصريح مثير للاستغراب، فهل يعني ذلك أن النظام الحالي قد أسقط تلك المطالب من الأجندة التاريخية والسياسية أم إن أخاك مكره لا بطل؟ والواقع كما يوحي بذلك المشهد السياسي، أن النظام الجزائري بحكم ما أصبح عليه من وضع مهزوز أجبر على أن يلتزم صمت القبور في مواقف بعض الدول الأوروبية المستفزة، وعلى رأسها فرنسا. لكن كيف يمكن تفسير هذا الصمت؟ لعل هناك اعتبارات عدة نأتي على ذكر بعضها: 1 إن حكام الجزائر، جنرالات وقيادات على حد سواء، يدينون بالولاء لفرنسا التي لها فضل عليهم. ومن أفضالها ونعمها أنها ماسكة لأرصدتهم وحساباتهم المكتنزة ومتحكمة في مصالحهم ومصالح عائلاتهم وأبنائهم. ففي هكذا وضع كيف يمكن لأولئك الحكام أن يعرضوا ثرواتهم التي جمعوها من عائدات الغاز والبترول للخطر وهم يعلمون أن فرنسا لها ملفات عن كل واحد من تلك القيادات المتآمرة على مصالح الشعب؟ فالنطق بأي موقف معاد لفرنسا قد يغضب باريس، والغضبة لها ثمن هم غير قادرين على دفعه. 2 ما يهم النظام الجزائري أولا وأخيرا هو أن يبقي على جبهة واحدة مفتوحة، وهي معركته التي أراد أن يخوضها ضد المغرب. فليس من مصلحته أن تتعدد الجبهات وتتعدد المعارك، لأن ذلك في نظره قد تكون له عواقب خطيره عليه، كما أنه في الأصل لا يقوى على تلك المواجهات بحكم الأجندة الداخلية المثقلة بحراك شعبي جارف. 3 النظام الجزائري بما أن لديه أجندة معادية للمغرب، فهو يتعمد بتواطؤه مع قوى أوروبية أن يتجنب كل ما يمكن أن يفسد عنه خططه المناوئة التي يراهن فيها على تلك القوى بنية تضييق الخناق على من يعتبره عدوا. ومن هذا المنطلق، فهو ليس معنيا بخلق أزمة مع فرنسا أو إسبانيا أو ألمانيا لكي يبقي على منسوب الضغط الجماعي على المغرب حتى ولو كان لا يرضى على بعض مواقف هذه الدول. 4 من المفارقات الغريبة أن النظام الجزائري عوض أن يواجه فرنسا في قضية الأوسمة التي زين بها ماكرون صدور "الحركيين"، ذهب لكي يغطي على هذا الحدث بعقد اجتماع طارئ للمجلس الأعلى للأمن واتخاذ قرارا ضد المغرب بإغلاق المجال الجوي الجزائري في وجه الطائرات المدنية والعسكرية المغربية. فتزامن هذا القرار مع ذلك الحدث يعبر عن عدم قدرة النظام الجزائري على مواجهة أسياده وأولياء نعمته في فرنسا، كما يعبر عن لا مبالاته بالخرجة المستفزة لماكرون. إقرار إغلاق تلك الأجواء لم يكن له مبرر ولا سبب سوى أنه يندرج كالعادة في سياق السياسة المكشوفة والميؤوس منها المتمثلة في إلهاء الرأي العام الجزائري بقضايا أقل ما يقال عنها إنها مفتعلة. 5 ليست المرة الأولى التي يغض فيها النظام الجزائري الطرف على ما تقوم به فرنسا. فإذا كان هذا النظام قد وقف عند تصريح مغربي جاء فقط من حيث المبدأ ردا على موقف جزائري وأقام الدنيا ولم يقعدها في قضية تخص شعب "القبايل"، فإننا نجد هذا النظام في الوقت نفسه يتلكأ خوفا من مواجهة فرنسا التي تستضيف زعماء شعب القبايل فوق ترابها مانحة إياهم اللجوء السياسي وتسمح لهم بالتظاهر والاحتجاج لتحقيق مطالبهم في الاستقلال بعد أن بات ذلك النشاط يأخذ أبعادا دولية. وهنا نتساءل: أين هو النظام الجزائري؟ وأين اختفى في هكذا حالات؟ ولماذا لا يقوى على اتخاذ موقف في الوقت الذي لا يتردد فيه كي يظهر مواقف موغلة في العداء حينما يتعلق الأمر بالمغرب ولأسباب واهية؟ 6 إذا كان رمطان لعمامرة، وزير خارجية النظام، قد استند من بين ما استند إليه في قرار الجزائر قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب إلى بداية ستينات القرن الماضي، مشيرا في ذلك إلى حرب الرمال عام 1963، فإننا ندعوه أن يستحضر الجرأة ذاتها التي تملكته في قضية أخطر من حرب الرمال، وهي تلك التجارب النووية التي أجرتها فرنسا في منطقة "قان" بصحراء الجزائر حيث فجر الجيش الفرنسي قنبلة نووية تعادل أربعة أضعاف قنبلة هيروشيما لتصيب أكثر من 40 ألف نسمة بالإشعاع النووي بين عامي 1960 و1966. معظم أبناء تلك المنطقة أصيبوا بعاهات دائمة ومازالوا إلى يومنا هذا شاهدين على تلك الكارثة. وهنا نسائل السيد رمطان لعمامرة: ألا ترقى هذه الإبادة إلى مستوى قطع العلاقات مع فرنسا أم إن الاستعمار فرخكم وأنزل الطير على رؤوسكم؟ وتلك حكاية أخرى. 7 جاء هذا التوشيح ولو بعد فترة في أعقاب التقرير الذي كان قد أعده "بنيامين ستورا" بتكليف من الرئيس ماكرون، وهو الباحث والخبير في تاريخ العلاقات الفرنسية الجزائرية. التقرير جاء مخيبا لما كانت تنتظره الجزائر، ولم يشر إلى موقف واضح من فرنسا لكي يحملها أية مسؤولية في علاقتها مع الجزائر، مسؤولية كان يراد بها ذلك الاعتذار التاريخي. وبدلا من ذلك الاعتذار، تعمد الرئيس ماكرون أن يصفع القيادة الجزائرية المغشوشة وأن يرسل رسالة واضحة إلى الجزائر بأنه ليس هناك مجال ولا مبرر لكي تقدم فرنسا أي اعتذار، موضحا لهم أن فرنسا لديها واجب الاعتراف بمكافأة أبناء الجزائر من الحركيين الذين أظهروا تعاونا مع فرنسا. بل أكثر من ذلك، فرنسا قلبت الطاولة على تلك القيادة المغشوشة لتطالبها بمعرفة مآل ورفات المئات من مواطنيها الذين تمت تصفيتهم إبان حرب الجزائر، كما جاء ذلك في توصيات تقرير "بنيامين ستورا" الذي أوصى كذلك بتوسيم "الحركيين". السكوت الذي التزمه النظام الجزائري عند إصدار تقرير "بنيامين ستورا"، كما هو الشأن مع مراسم التوشيح، يكشف أن العصابة التي تحكم اليوم الجزائر ليس لها علاقة بجزائر الثورة، بل هناك قطيعة بينها وبين ذلك العهد ولا يهمها ما خلفه من مآسي وكوارث طالت الشعب الجزائري، وفي مقدمتها مسألة التجارب النووية. فالقيادة الجزائرية الحالية هي قيادة الثكنات وهي قيادة من خريجي المدارس العسكرية الفرنسية على خلاف القيادات القديمة التي تربت في أحضان الثورة الجزائرية. فالرئيس تبون وجماعته من الجنرالات لم يكونوا ولن يكونوا حماة لتلك الثورة، بل الأحداث تشهد على أنهم أعداؤها، بدليل أنهم عرفوا كيف يسجنون رجالات من الحرس القديم، منهم بن بلة، وأجبروا غيرهم على المنفى، مثل الحسين آيت احمد، والتسلل لاغتيال وتصفية بعضهم، وعلى رأسهم بوضياف. ومن لا يتحرك ليعيد الاعتبار للرصيد التاريخي للثورة الجزائرية التي استشهد فيها الشعب الجزائري، كيف به أن يقر ويعترف بمن ساند ودعم تلك الثورة، وفي مقدمتهم المغرب.