ما حدث في مصر هذا الصيف من «انقلاب» ذكي على صناديق الاقتراع ومس بشرعية رئيس منتخب و ليس حدثا صغيرا في يوميات السياسة العربية ، ولا عملية «تقليدية» مما نراه من ذبح للديمقراطية في غابة الاستبداد العربي ، ولا صراع بين خصمين ايديولوجيين وصلا إلى القطيعة بينهما . ما جرى مؤامرة كبيرة إقليمية ودولية ، وخطة جهنمية ستستعمل غدا في دول عربية وثالثية أخرى لإجهاض التحول الديمقراطي الهادئ من قبل «الدولة العميقة». ولكي نفهم أكثر كيف تحبك مثل هذه المؤامرات التي لا تصدقها العقول المبهورة اليوم بالأضواء الصادر عن الكامرات والشعارات والضجيج والإعلامي وصناعة الكذب، سنرجع إلى التاريخ عله ينير لنا الطريق، أو يفتح عقولنا لتستشرف ما وراء «الستار»..كاتب هذه السطور ليس من هواة نظرية المؤامرة ولا من اتباع التفسير المخابراتي للتاريخ لكن عندما يكون المرء أمام جبل للجليد فمن السذاجة ان لا يرى الأجزاء التي تحت الماء وهي الأكبر والأخطر وعندما يكون المرء أمام آثار الأقدام فوق الرمال فمن الحمق ان لا يعتقد ان قافلة او قطاع طرق مروا من هنا . في التاسع عشر من شهر غشت ( أغسطس ) الماضي حلت الذكرى ال60 للانقلاب على حكومة محمد مصدق في إيران سنة 1965 وبهذه المناسبة ، اعترفت وكالة الاستخبارات الأمريكية «CIA» لاول مرة بمسووليتها عن الانقلاب ونشرت وثائق جديدة عن عملية «AJAX»، وهو الاسم الحركي او الرمزي الذي أعطي لهذه العملية سنة 1953، حيث تكفلت وكالة المخابرات الأمريكية بالإعداد لمخطط كامل سياسي وإعلامي واقتصادي وعسكري، وحتى ديني، للإطاحة بهذه الحكومة الوطنية ،التي جاءت عن طريق صناديق الاقتراع للحد من فساد واستبداد الشاه ومن استغلال بريطانيا والغرب لنفط ايران الذي كانت عائداته الكبرى تذهب إلى خزائن الشركة البريطانية الأسطورية ( بريتش بتروليوم). وكان من أول القرارات التي اتخذتها حكومة الدكتور مصدق ، تأميم شركة النفط البريطانية، والقيام بإصلاح الزراعي عميق وأعاد توزيع الأراضي على صغار الفلاحين وقلم أظافر الإقطاع الذي كان يعيش على عرق الفقراء في بوادي ايران ، كما سعى مصدق إلى ، تشكيل جبهة موسعة للحكم، فيها اليسار والوسط والبيبراليين وبتأييد بعض كبار رجال الدين المتنورين.. في بلاد ظلت قاعدتها إسلامية رغم مظاهر التغريب التي حاول نظام الشاه ونخبه ان ينشرونها وبطرق فجة أحيانا في وسط محافظ. . لنقرأ دون تدخل في الوثيقة المنشورة هذا الشهر من أرشيف المخابرات الأمريكية: «كان الهدف الأول للعملية التي أشرفت عليها «CIA» بالكامل،و بتنسيق مع المخابرات البريطانية، هو الإطاحة بحكومة مصدق. كان هذا عملا من أعمال السياسة الخارجية للولايات المتحدةالأمريكية ، لأن ترك إيران مصدق عرضة للخطر السوفياتي( كانت الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي والغربي على أشدها آنذاك، وكانت ايران تعتبر دركيا غربيا في المنطقة وإحدى القواعد الكبرة للنادي الرأسمالي في آسيا ) لم يكن يحتمل في واشنطن ان نرى ايران تقترب من السوفيات . لقد جرى التعاون لتنفيذ خطة الانقلاب هذه مع عدة متعاونين محليين... وهكذا، بدأت الخطة بنشر الإشاعات الكاذبة حول حكومة مصدق في الداخل والخارج. جرى تصويره كشيوعي معاد للدين تارة، وكعميل موال للسوفيات تارة أخرى، ثم كعدو للديمقراطية والاقتصاد الحر، وكعدو للفقراء مرة، وضد الأغنياء أخرى. ثم جرى، بعد ذلك ، إقناع الشاه، رضا بهلوي، بالتعاون مع المخابرات الأمريكية لتنفيذ الخطة، وتم تقديم الرشاوى بملايين الدولارات لأعضاء في البرلمان وخارج البرلمان لتعاون لإنجاح خطة الإطاحة بالحكومة. وجرى تنظيم صفوف رجال الأمن، بحيث يصيرون ضد الحكومة ورئيسها، ثم جاءت عملية تنظيم مظاهرات في الشارع وفي أكثر من إقليم». تظهر الوثائق الأمريكية أسماء شخصيات كثيرة من «البلطجية» كما يسمون اليوم في مصر أو «عصابة الأشرار» كما تسميهم الوثائق الأمريكية الذين كانوا يبعثون أتباعهم للخروج في مظاهرات مفبركة ، وتذكر الوثائق حتى أعداد أتباع كل واحد من هؤلاء، فمثلا، الطيب طاهر حاج رضائي كان له 300 شخص، يؤدي أجورهم مقابل النزول إلى الشارع للتظاهر، وكان حسين ونقي إسماعيل بور له ما بين 300 و400 شخص تابعين له، بالإضافة إلى محمود عسكر وبويك صابر اللذين كانا شخصيتين بارزتين في تنظيم تلك العصابات التي توجهت إلى منزل مصدق في محاولة لاستهدافه شخصيا . المهم، استمرت الحرب الإعلامية الدعائية وحرب الشوارع عن طريق المظاهرات المفبركة ورشوة النخبة، ثم جاء الدور على الاقتصاد، حيث قادت بريطانيا حربا قاسية على النفط الإيراني في الأسواق العالمية، بدعوى أن إيران اعتدت على الحقوق التجارية البريطانية في الشركة المؤممة... ساءت الأوضاع في الداخل ، واحتدم الصراع بين مصدق والشاه، ما دفع هذا الأخير إلى الهرب إلى إيطاليا في بداية غشت 1953، وقبل أن يهرب وقع قرارين؛ الأول هو عزل رئيس الوزراء محمد مصدق، والثاني تعيين الجنرال فضل الله زاهدي محله... .. لما انضم رجل الدين، آية الله كاشاني، إلى حركة مصدق، وأفتى بأن كل من يعارض تأميم النفط الإيراني فهو عدو الإسلام، تعرض لضغوط كبيرة للتراجع عن تأييده لمصدق وهذا ما وقع بعد نجاح الانقلاب العسكري كان محمود ابن أية الله أبي القاسم كاشاني ثاني خطيب في الراديو الإيراني الذي اعلن التأييد للانقلاب على مصدق.، هذا وخرج مجموعة من رجال الدين، قبيل الانقلاب بأيام، يفتون بأن مصدق معاد للإسلام والشريعة. كانت سياسة الإصلاح الزراعي قد مست مصالح كبرى للإقطاع، وكان تحالف مصدق مع اليساريين والليبراليين يخيف القصر، وكان تأميم النفط يمس مصالح الغرب، وكانت العملية الديمقراطية تخيف «السافاك» (مخابرات الشاه) والمحيطين بالملكية... وهكذا انسحب آية الله كاشاني من التحالف، واتهمه انصار مصدق ببيع القضية للشاه وهكذا واشتد الحصار الاقتصادي على البلاد، واتسعت المظاهرات مدفوعة الأجر، وأصبح الجو مهيأ ل«الحركة الأخيرة»، انقلاب الجنرال فضل الله على رئيس الحكومة مصدق، واعتقاله وإيداعه السجن، وبقية القصة معروفة... انتهى الاقتباس من الوثائق المخابرات الأمريكية. لكن بعد 16 سنة، سيخرج مصدق آخر من ايران في ثوب راديكالي ديني اسمه آية الله الخميني، وسيقود ثورة هادرة على الشاه وعلى الغرب ومصالحهما وحول ايران إلى وجهة أخرى معادية للغرب ولامريكا ، وسيقتلع النظام السابق من جذوره... الكل اليوم مقتنع بأن الإطاحة بمصدق سنة 1953 كانت السبب رقم واحد في نجاح الخميني سنة 1979 وكما ان الشارع الإيراني إلى اليوم يذكر الشاه بكل سوء ،فانه يذكر مصدق بكل خير ،ويحن إلى تلك الفترة التي كانت فيها ايران تعرف تجربة إصلاحية عميقة، بشراكة مع كل أطياف القوى السياسية الإيرانية ...لولا إسقاطها بمؤامرة خارجية وداخلية لكانت ايران اليوم في مكان آخر على الخارطة الإقليمية والدولية . كل تشابه بين ما جرى في عملية «Ajax سنة 1953 وعملية «السيسي» سنة 2013، التي جرت مؤخرا، أنا غير مسؤول عنها. أنا هنا ناقل لا معلق ولا محلل. * مدير نشر أخبار اليوم المغربية