تشهد الفترة الانتخابية الممتدة طيلة الأوقات المسموح بها لترويج البرامج الحزبية، وتسويق صورة إيجابية من لدن المترشحين لخوض غمار التجربة الانتخابية، مجموعة من الظواهر التي لا يُتوقف عندها بالشكل العميق الذي تقتضيه، لاسيما حين يحتد الصراع بين الأطراف المنتخبة والحساسيات الإيديولوجية حسب الأفراد والجماعات المؤطرة حزبيا، أو ذات عصبيات قبلية. وتتمحور هذه الظواهر لدى الأفراد المتنافسين في مجملها إلى اتجاهين أو فريقين. الفريق الأول: مزاعم السياسي. وهي الإدعاءات التي ينادي بها المترشح "السياسي" في التجمهرات الشعبية، والتي تحمل صبغة دلالية، من معانيها: الإخلاص والتفاني في القول والعمل، والسّهر على سلامة الوطن وخدمة المواطن، والجَري وراء كل مصلحة تتعلق بالأشخاص المسّجلين في دائرته على وجه الخصوص. كما يُكثر من سياسة القُرب والاحتكاك بالجماهير في نواديهم والطرقات، من أجل رسم صورة ذات رونق جمالي يستميل به السّواد، حتى يظفر بأصواتهم ويَكسب وُدّهم من خلال تصرفات شعبوية (كالأكل والشّرب والرقص ومداعبة الصِبية؛ وإظهار الاهتمام والانتماء للعامة: -يأكلون ويمشون في الأسواق-). بل ويتقمّص كَرَم حاتم الطائي بحسب نوعية المتجمهرين، فيُغدق عليهم بما جادت به نفسه حتى لا تعلم حاسِبتُه ما أنفق ذات اليمين والشمال، فتراه يُعِين الرجل والمرأة على نوائب الدهر وصروف الزمن، -ولا يتوقف عند هذا الحد من السخاء والعطاء- بقدر ما يصور لهم الغد الأفضل تحت حكمه الرشيد وسَوسِه القويم، شرط الإدلاء عليه. وإذا كان عارفا بأصول الكلام وفطنا بأساليب التواصل اللفظي والسيميائي، فتعلو محياه البسمة المصطنعة، ويُبقي يده ممدودة للمصافحة والتحية كوسيلة للاستقطاب في حملة الودّ والأُلف، فلا تراه إلا مسلّما ومعانقا على من عرف ومن لم يعرف صغيرا كان أو كبيرا. بل ويوزع نظراته بالمقاس الميليمتري على الجموع حتى يخلق بين الأوساط نوعا من الاهتمام بهم. فلا يهدأ له بال ولا يقرّ له قرار حتى يتواصل مع الحشود زُمرا وفرادى وجها لوجه، فتراه يَستعين بنقباء من أوفياءه يُذيعون خبره وينشرون دعوته بطرق مباشرة، أو يتكلم بألسنتهم من وراء، بعد التخطيط والاتفاق. بل يتحين الفرص كلما سنحت معالمها لنشر أفكار مفادها الصدق في القول والتفاني في العمل، وبذل الغالي والنفيس من أجل تغيير الأوضاع السوسيواقتصادية التي يعاني منها الجميع، فلا تراه إلا مُنظرا حاثّا عموم الناس على التغيير، وجلب الاستثمار وخلق فرص الشغل، والعمل على تسيير الشؤون الإدارية للمواطنات والمواطنين على أحسن وجه. ولا ينثني في خضم حديثه دون أن يعرج على ملف الفساد والمفسدين والانتهازيين والظلاميين والرجعيين والعلمانيين وكل الخصوم السياسيين، ونعتهم بأقبح النعوت وأنجس الكلام، بكل لفظ ذا دلالة هابطة ناقصة، فتارة ينتقص من سحناتهم وخِلقتهم وأخلاقهم، وطورا يلقي جام انتقاده وانتقاصه على تجاربهم التسييرية، ونشر كل الملفات المشبوهة والملغومة عنهم. كما لا يتورّع في استخدام كل الوسائل المتاحة والمباحة، بل حتى الممنوع منها في استقطاب الجماهير الشعبية حتى يكثر السواد أملا في أن يتبوأ مكانة بعد البوح بسر الصناديق؛ فقد يتجاوز إيديولوجية الحزب وقواعد السياسة المتعارفة، إلى استعمال كل الآليات الممنوعة لغايته المرجوة. ومن ذلك استعمال المال وتسخير الوسائل الممكنة وإقحام الرموز التاريخية والوطنية والتلبيس على الناس أمرهم بآيات وأحاديث يعدهم ويمنّيهم بها كأنه مخلص موعود معه عسل وماء... الفريق الثاني: أباطيل الخصوم. وهي الانتقادات التي يوجهها كل الخصوم السياسيين لمزاعم الفريق الأول، وقد تكتسي طابع محلي أو جهوي أو وطني، فلا ترى منهم غير النقد اللاذع والقهقهات الصاخبة مردفة بالشتم والسباب لدرجة الفسق واللعن. بداية بالمستوى الدراسي والثقافي ومسقط الانتماء والتاريخ السياسي للشخص المترشح؛ أشهرها نقيصة على الألسن، الوصف بالرعي؛ وأعلاها شتيمة، الاتهام باختلاس الأموال العامة وخيانة الوطن (تحت مسمى السرقة). وينعتون تحركه بين الأوساط، بالنفاق السياسي والاجتماعي الذي يطفو للعيان عند كل موسم انتخابي، يفرض عليه بذلك لبس عباءة الورع والزهد والتقى والعفاف، والاتصاف بمحاسن الأخلاق ومكارمها، ولعب أدوار المهرج وإتقانها حين لقائه بكل الفئات والأشخاص يُمنّي النفس بتودده كسب تعاطفهم والظفر بأصواتهم. كما لا يفوّت الخصوم انتهاز الفرصة واستغلال الموقف إلى قلب الأنماط ولَيّ ظاهر الحملة الانتخابية، وذلك باتهام المنافس استعماله للمال الحرام واستغلال القاصرين وإقحام الرموز الوطنية والدينية، وإطلاق الشائعات والأكاذيب بالجملة ووافر الكيل حتى يتمكنوا من استمالة الناس وصرفهم عنه بكل الوسائل والآليات. بل ويصفونه بأقبح ما كان منه عنهم، حتى يردّوا الصاع صاعين، أكبرها الاتهام بالفساد والتستر على المفسدين والاستهتار بخدمات المواطنين والاستثقال عن جلب الاستثمارات الاقتصادية والتقصير عن خلق الخدمات الاجتماعية حين المصادقة على الميزانيات، إلا عند المحطات الانتخابية مع استغلال موارد الدولة ورموزها... وهنا لا بد للإشارة بأن الفريق الأول له نفس الأباطيل التي ينسف بها خصومه حينما يكون في خندق المعارضة، كما أن الفريق الثاني له نفس المزاعم حينما يكون في سدة الرئاسة والحكم. إلا أن المواقف الإيديولوجية والإدعاءات الباطلة والدعاوى الإصلاحية لها قوانين مد وجزر تتحكم فيها أبعاد اللعبة السياسية التي لا تتوافق مع مبادئ الشخص وقد تتناقض مع القناعات والميولات، وذلك بفرض طقوسها وإكراهاتها على الخصوم السياسيين طوعا أو قصرا. وتبقى الجماهير الشعبية رغم ظروفها السوسيواقتصادية والمعرفية كحَمل وديع، تتجاذبها الحساسيات الإيديولوجية والبرامج الحزبية بكل الوسائل المشروعة والممنوعة لنيل تصويتها، حتى تضفي بفعلها الشرعية الديمقراطية على سنوات ذلها واستعبادها إن هي رضخت للابتزاز وخضعت لعملية البيع والشراء. كما قد تكون هذه الجماهير سيدة نفسها إن هي رفعت من سقف وعيها، وقطعت دابر كل دعيّ مفسد من السابقين، وتتبعت خطى الآتي من اللاحقين تحت جناح القانون وذلك بربط المسؤولية بالمحاسبة باعتبار أن فضاءات التسيير والقرار هي مراكز مغرم لا مغنم، وضعت لتسيير الحياة الاجتماعية العامة والسهر على تنظيم الحياة، لا لإذلال الناس وتقويض مصالحهم.