الأعمالُ التلفزيونية المعروضة على القنوات العمومية خلال رمضان لا تثير "سُخْط" المشاهدين فحسب، بل تثير "سُخط" المهنيين العاملين في الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون أيضا. ليلة أمس الثلاثاء، وخلال مائدة مستديرة نظمتها "الجمعية المغربية لحقوق المشاهد"، بمقر نادي الصحافة بالرباط، لتقييم الأعمال التلفزيونية الرمضانية لهذه السنة، وجّه مهنيون عاملون بالتلفزيون وفنانون وفاعلون مدنيون سيْلا من الانتقادات إلى القائمين على إدارة الإعلام السمعي البصري بالمغرب، وكذا الهيأة العليا للسمعي البصري (الهاكا). وذهب المشاركون في المائدة المستديرة إلى أنّ السؤال الذي يجب أن يوضع كأرضية أوّلية لإصلاح المشهد السمعي البصري بالمغرب هو: "مَن المسؤول عن الرداءة التي تُقدّم للمشاهد المغربي على شاشات القنوات العمومية؟"، خصوصا في ظلّ عدم مبادرة وزير الاتصال إلى الإقدام على مبادرات من شأنها إصلاح القطاع، والتزام الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري الصّمت حُيال ما يُعرض من أعمال في رمضان، حيثُ لم تُصدر الهيأة، حسب أحد المتدخّلين، ولو تنبيها واحدا منذ تعيين إدارتها الجديدة خلال شهر ماي من السنة الماضية، رغم ما يشوب الأعمال الرمضانية من تجاوزات في حق فئات من المواطنين المغاربة، مثل ذوي الاحتياجات الخاصة وكذا مهاجري دول جنوب الصحراء المقيمين في المغرب. سؤال تحديد المسؤول عن "الرداءة" التي تُعرض على القنوات العمومية خلال رمضان، ومضمون ما تقدمه القنوات على مدار السنة عموما، استأثر بحيّز كبير من تدخلات المشاركين في المائدة المستديرة، حيث تساءل أحد المتدخّلين: "نريد أن نعرف من هو "دانيال" التلفزيوني الذي يغتصب المشاهدين المغاربة كل يوم"، في إشارة إلى مغتصب الأطفال المغاربة "دانيال كالفان"، الذي أثارت قضية العفو عنه موجة من السخط وسط الشارع العامّ منذ الإفراج عنه؛ فيما قال متدخّل آخر إنّ المشكل الأكبر الذي يعاني منه المشهد السمعي البصري بالمغرب "هو سيادة الفساد والاستبداد بداخله"، مضيفا أنّ عدم تحديد المسؤولية أولا عمّا يُقدم للمشاهدين "سيجعلنا نكتفي فقط بتسجيل المواقف، لأننا إذا أخطأنا طرح السؤال سنخطئ الإجابة". تدخّلات أخرى ذهبت إلى أنّ المغرب لا يتوفّر على سياسة سمعية بصرية واضحة، وأن المطلوب، اليوم، هو الترفّع عن مناقشة مدى جودة الأعمال الرمضانية المعروضة على القنوات التلفزيونية العمومية، والذهاب إلى عُمق الأشياء، عبر فتح نقاش عمومي حول الإجراءات الكفيلة بإخراج التلفزيون المغربي من وضعه الحالي، وذلك بالإجابة أولا عن سؤال: هل هناك سياسية سمعية بصرية لدى صناع القرار في المغرب؟ والذي يجب أن يكون المنطلقَ الأساسَ لوضع أسّ متين لخلق مشهد إعلاميّ سمعي بصري قويّ. فيما يتعلق بتقييم مستوى الأعمال الرمضانية التي عُرضت على القنوات العمومية هذه السنة، أجمع جلّ المتدخلين خلال المائدة المستديرة على رداءة جلّ ما عُرض من أعمال درامية تلفزيونية، وتساءل عدد منهم عن الداعي إلى التركيز في كل رمضان على الأعمال الفكاهية، وبثّها في وقت ذروة المشاهدة، فيما تغيب المسلسلات التاريخية والبرامج الثقافية والوثائقية والاجتماعية، وهو ما دفع أحد المتدخلين إلى اعتبار أنّ ذلك "يعتبر سياسة ممنهجة من طرف الدولة، التي تسعى إلى إفقاد التلفزيون لدوره التثقيفي والتوعوي"، فيما قال آخر إن القنوات التلفزيونية العمومية التي امتنعَ عن مشاهدتها منذ خمس سنوات، على حدّ تعبيره، "كايكلخو"، مضيفا "منذ أنه أضربت عن مشاهدتها، واتجه صوب القنوات التلفزيونية العالمية، ليلاحظ أنّ مستوى وعيه بدأ يرتفع". المتدخلون تطرقوا أيضا إلى مشكل "أزمة الإبداع" التي تنجم عنها سيناريوهات أعمال تلفزيونية تفتقد إلى الجودة، وغياب التكامل بين قنوات القطب العمومي على مستوى ما يقدم للمشاهد، مما يجعل الموادّ نفسَها تقدم في وقت متزامن تقريبا، بالإضافة إلى تكرار ظهور نفس الوجوه تقريبا في المسلسلات والسيتكومات، وتساءل أحدهم: هل يُعقل أن تظهر ممثلة في سبعة أعمال رمضانية دفعة واحدة؟ الانتقادات طالت أيضا النقابات والنقاد والإعلاميين، وقالت متدخّلة إنّ النقاد والصحافيين لا يقومون بالدور المنوط بهم كما يجب، في ظلّ انحسار المواكبة النقدية والإعلامية المعمّقة لما يُبث على القنوات التلفزيونية العمومية، مضيفة أنّ النقابات تتحمّل نصيبا من المسؤولية في ما آل إليه المشهد السمعي البصري، "حيتْ تّشرات، وتراجعت إلى الوراء"، على حدّ تعبير المتحدثة. فتْح المجال لإنشاء قنوات تلفزيونية خاصّة كان من بين الاقتراحات التي طُرحت خلال المائدة المستديرة، بهدف خلق نوع من المنافسة، ومن ثمّ الرفع من جودة الأعمال المبثوثة على القنوات التلفزونية، "ما دام أنّ المال العامّ لا يساعد على خلق الجودة المطلوبة في ظل غياب المراقبة على طرق صرفه"، حسب تعبير أحد المتدخلين. تدخّلات أخرى دعتْ إلى أنْ يلعب المجتمع المدني دوره في المطالبة بإحداث التغيير على مستوى المشهد السمعي البصري، وذلك بخوض وقفات احتجاجية، ورفع دعاوى قضائية أمام المحاكم، بخصوص "التجاوزات" التي يشهدها المشهد السمعي البصري، كما أوصوْا بمواصلة النضال من أجل حث الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري على القيام بالدور المُناط بها في مراقبة التطبيق السليم لدفاتر التحملات من لدن مؤسسات القطب العمومي. وكانت المائدة المستديرة قد استُهلت بورقة تقديمية للجمعية المغربية لحقوق المشاهد أوضحت أن الإنتاجات التلفزيونية الرمضانية بالمغرب لهذا العام هي نتيجة للتجربة الأولى المتعلقة بصفقات الإنتاج عبر طلب عروض، وأيضا للصيغة الجديدة من دفاتر التحملات الخاصة بمتعهدي الإعلام السمعي البصري العمومي؛ وحملت سؤال: "إلى أي حد استطاعت دفاتر التحمّلات أن تحقق تحولا إيجابيا مغايرا لما ألفناه في السنوات السابقة؟" وهو السؤال الذي حملت الورقة التقديمية للجمعية المغربية لحقوق المشاهد جوابا سلبيا عنه، إذ وردَ فيها أنّ "كل ما عشناه من كلام وضجيج وما أسفر عنه من إنتاجات تلفزيونية شاهدناها خلال رمضان الذي ودّعناه، ينطبق عليه المثل العربي "أسمع جعجعة ولا أرى طحينا" والمثل العامّي المغربي "الجنازة كبيرة والميت فار". الملاحظات الأولية للجمعية المغربية لحقوق المشاهد حول الأعمال التلفزيونية الرمضانية لهذه السنة أشارت إلى السعي نحو "استغفال المشاهد المغربي والانتقاص من ذكائه، من خلال بث فقرات الكاميرا الخفية المفبركة، والتي كانت مجرد تمثيل متفق عليه مسبقا بين الممثلين و "الضحايا"، وهو ما فضحتْه، تضيف الورقة، مجموعة من الأخطاء التقنية الواضحة التي شابت عددا من الحلقات. فيما يخصّ الأعمال الكوميدية، سجّلت الورقة التقديمية للجمعية المغربية لحقوق المشاهد وجود إصرار جل الأعمال الدرامية المغربية على الإضحاك، ولو بأية طريقة، "مما جعلنا أمام فراغ في المضمون وارتجالية في التمثيل في غياب نص محكم البناء". واعتبرت الورقة أنّ الأعمال سالفة الذكر أماطت اللثام عن المشكلة الحقيقية التي تعاني منها الدراما المغربية، والمتمثلة في نُدرة السيناريوهات الجيدة، وبالتالي، فعوض تبديد المال العمومي في إنتاجات تلفزيونية تبعث على الرثاء، تضيف الورقة، من الأجدر تخصيصه لسدّ الفراغ في مجال السيناريو من خلال ورشات للتكوين، حتى نكتسب في الأفق القريب أو المتوسط كتاب سيناريو أكفاء".. فيما يتعلق بصفقات إنتاج الأعمال التلفزيونية الرمضانية، أشارت الورقة التقديمية إلى استمرار نفس شركات الإنتاج، تقريبا، في الهيمنة على الإنتاجات الرمضانية، وخاصة "السيتكومات" و"السلسلات الهزلية" و"الكاميرا الخفية"، وبالتالي، تضيف الورقة، "يطرح التساؤل عن الجدوى من كل هذه الضجة حول "شفافية" صفقات الإنتاج إذا كانت ستعيد لنا نفس الشركات ونفس الأسماء؟". كما طرحتِ التساؤل عن جدوى وجود لجان للتقييم بقنوات القطب العمومي "إذا كانت الحصيلة كارثية بالشكل الذي شاهدناه، ونذهب بعيدا في التساؤل عما إذا كان دور تلك اللجان وعملها المؤدى عنه شكلياً ليس إلا، وأيضا التساؤل عن درجة الحياد والاستقلالية والنزاهة التي يفترض أن يتحلوا بها". واعتبرت ورقة الجمعية المغربية لحقوق المشاهد أن حصيلة رمضان التلفزيونية كانت محكّا واختبارا حقيقيا لحكومة عبد الإله بن كيران، متسائلة في الوقت نفسه عن سبب تأخر رئيس الحكومة في ممارسة صلاحياته الدستورية لاقتراح مسؤولين جدد على رأس قنوات القطب العمومي، بما أن الموجودين حاليا "أثبتوا أنهم ضد المطالب الإصلاحية التي يرفعها المجتمع منذ مدة". وكانت الجمعية المغربية لحقوق المشاهد قد نظمت، قبل نحو شهرين، بمعية 15 هيئة أخرى منضوية تحت لواء الشبكة المغربية للنهوض بالإعلام السمعي البصري، وقفة احتجاجية أمام مبنى الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة احتجاجا على "سوء تدبير القطاع".