كلص متختل ماكر، دخل الحشيش إلى البلدة الآمنة فعاث فيها فسادا وسرق منها أغلى وأنفس ما لديها من الشمائل والشيم، وعوض أن يكتفي بما نهب ويطلق ساقيه للريح، استأسد وطغى وتجبر، ثم نصب نفسه إمبراطورا على بسطاء القبيلة، وجعل منهم عبيدا يخدمونه بالليل والنهار ويأتونه بالقرابين، طمعا في بركته التي تلوح لهم دائما بثروة طائلة يرونها قاب قوسين أو أدنى منهم، بينما هي سراب أبعد من الثريا... خلال أربعين سنة، تغير الحال في قبيلة بني زروال تغيرا جذريا اختلط فيه الحسن بالأسوأ، والتبست فيه الأمور فغدت كقطع الليل المظلم، ولم تعد تدري من تصدق في فئتين من الناس، توجد كل واحدة منهما على طرفي نقيض من الأخرى: فئة تبكي على الماضي القريب، وتحن إلى زمن كان فيه الفقر يمشي بين الناس على أربع، ولكن الأخلاق رغم ذلك كانت مصانة والكرامة موفورة والسكان يحيون حياة هادئة مطمئنة، وهم يقتاتون من غلال فلاحتهم البسيطة ويتفيأون ظلال القرآن الكريم في المساجد والجوامع. وفئة تهلل وتستبشر بوصول "العشبة" السحرية التي رفعت من مستواها المعيشي والاجتماعي، وقلبت الموازين بينها قلبا منكرا، فجعلت عالي الناس سافلهم، وسافلهم عاليهم، وسمحت للبعض منهم بتطليق الفقر تطليقا باتا، وإن على حساب كرامتهم وطمأنينتهم. دخلت ذات مرة في بداية سنة 2002 إلى مستودع للهاتف، ولما كانت جميع المخادع مشغولة، جلست على كرسي خشبي أنتظر أن يحين دوري، فسمعت أحدهم وقد كان قريبا مني يصيح بأعلى صوته وكأنه كان يخشى ألا يسمعه محدثه: واااااا محمد... يقول لك أبوك أرسل له ما يكفي من الدراهم لكي يزرع بركة من الكيف... اقتربت من صاحب المخدع وقلت له ساخرا: أصبحت زراعة الكيف إذن شيئا عاديا؟ غمزني بعين واقترب مني ثم قال لي همسا بلغة الناصح الأمين: إذا قلتَ باسم الله في هذا الميدان، فتفادى الحقول المجاورة للطرق وتوكل على الله... لم يفهمني الشقي، فظنني أستجمع الأخبار كي أجرب حظي في هذا المجال الجديد على المنطقة. كيف دخل الكيف إلى بني زروال؟ ومن كان وراءه؟ وأين كانت عيون السلطات وقت دخوله؟ من العبث أن نقول إنها كانت ساهية ما دام السهو لا يعرف طريقا إليها بحال، هي التي تحسب أنفاس الناس الصاعدة والهابطة؟ ألم تكن تلك استراتيجية جهنمية لإلهاء الناس عن فقرهم في تلك المنطقة النائية التي تخرج دائما من حسابات المسؤولين؟ لم إذن كل هذا النفاق العظيم حين نسمع بين الفينة والأخرى عن حملة تطلق للقضاء على الحشيش؟ حملة كثيرا ما توجه إلى البعض دون البعض الآخر، ويبقى من لا سند له ولا ركيزة مستهدفا دون غيره، وهو الظلم بعينه والشعور الحارق بالضيم و"الحكرة"، لأن أفحش ما في الظلم هو أن يدفع الواحد فاتورة المخالفة على الجميع، ليكون بذلك كبش الفداء الذي يراق دمه قربانا للعبث. لقد أصبح الكثير من المواطنين في المنطقة يعيشون وأيديهم على قلوبهم بعدما صدرت في حقهم مذكرات بالقبض، لذلك يظلون معتصمين بالجبال كلما رأوا دورية من الدرك تحوم بالقرب من منازلهم، كما لم يعد ممكنا بالنسبة إليهم لا التسوق ولا قضاء أغراضهم الإدارية. كما فسدت الأجواء الاجتماعية وانفسخت روابط القرابة بعدما تفشى الانحلال واستشرت الموبقات، وصار الابن يقتل أباه والأب يذبح ابنه لمجرد فدان يتنازعان عليه. أما آن الأوان لمراجعة هذا الملف الشائك مراجعة شاملة وجذرية تفضي إلى إيجاد حل ناجع له؟ ومن المستفيد من وضعية بين بين، التي لا تميل إلى حضر صريح بات ينتهي باجتثاث هذا المرض العضال من الأصل، ولا إلى تقنين زراعته والقطع بذلك مع كل تلك الفتن الشديدة التي تنخر أوصال ذلك البلد المهمش المنسي؟ لا يختلف اثنان أن كل ما يتلف العقل ويخرب الجسد هو حرام شرعا، وإذا كان الحرام حراما فما الفرق إذن بين بيع الخمور وبيع الحشيش؟ سيقول لنا قائل من باب النفاق المستخف الضاحك على الذقون: ذاك يباع لغير المسلمين... ونحن نجيب بنفس الاستخفاف والاستبلاد: وذاك يباع كذلك للغرب الذي استعمرنا ونهب خيراتنا، فنحن ننتقم منه بطريقتنا الخاصة... نحيي الأصوات التي تجرأت ورفعت عقيرتها في البرلمان وغيره للمطالبة بتقنين هذه العشبة الماكرة، ونتمنى أن يسارع المسؤولون إلى الالتفات إلى هذه المنطقة المنكوبة كي يجدوا لها حلا بديلا، وفي انتظار ذلك، سوف تظل أسماعنا تكسر بطرقات الذين يجدون في نفض الكيف بالليل والنهار: طاف طاف طفطاف...