اطلعنا في نشرات الأخبار ببعض قنواتنا التلفزية الوطنية، وكذا ببعض الجرائد والمواقع الإلكترونية، بحر هذا الأسبوع، على خبر إصدار دار السكة لسلسة أو مجموعة جديدة من الأوراق النقدية من فئات وقيم مالية مختلفة، وهي المتابعات التي اتسمت باحتفاء ملحوظ بأهمية الحدث الذي يعتبر الأول من نوعه مند عدة سنوات، كما تم ربط هذا الإصدار والهوية البصرية للأوراق النقدية الجديدة بالسياقين السياسي والاقتصادي وبالتحولات التي عرفها المغرب خلال السنوات الأخيرة، كما تم التركيز على المواصفات التقنية والصناعية العالية الكفاءة التي اعتمدت في سك أوراق العملة الجديدة، خاصة تأمين أصالتها وحمايتها من التزييف اقتداء بعملة اليورو2 كما جاء على لسان مدير دار السكة ومسؤوليها التقنيين والماليين. لحد الساعة يبدو هذا الحدث ومضمون الخبر عاديا بل هاما من الناحية المالية والتقنية، لكن الجانب الغائب – أو المغيب - في هذه المتابعات وتصريحات تقنيي دار السكة، وكما تبين من خلال الاطلاع على الصور المنشورة لنماذج العملة الجديدة، يبقى العنصر الأهم نظرا لكون عمليات إصدار العملة وسك أوراق نقدية جديدة في تاريخ الدول ومسارات وجودها وتطورها الحضاري والسياسي والاقتصادي لا يمكن أن يختزل في جوانبه التقنية والمصرفية والتأمينية، التي تبقى هامة بلا شك، ذلك أن العملات الوطنية ببساطة تتجاوز كونها مجرد وسيلة تعامل تجاري... فهي إضافة لوظيفتها الاقتصادية المحورية تعتبر كذلك عنوانا هاما لسيادة الدولة أو اتحاد دول، ترمز لكيانها وهويتها السياسية والثقافية، وتعكس في شكلها وتصميمها البصري ومكوناتها الغرافيكية المقومات والمكونات والحضارية للكيان المعني والمجتمع أو المجتمعات المرتبطة به، بل ومستوى الذوق العام وواقع الحياة الديمقراطية والحقوقية في البلد الذي ترمز إليه. على مستوى المضمون البصري ودلالات التصميم والمكونات الطباعية تشير المتابعات أن النماذج تضمنت علامات مرتبطة بالتنمية والحداثة والتنوع...كما وظفت فيها صور ورسوم لعناصر ثقافية وطبيعية ورموز ومآثر من مناطق مختلفة من المغرب كميناء طنجة المتوسطي ومشاهد من الرباط ومن الجنوب وشلالات أوزود وشجرة الأركان... غير أن هذا المجهود المحمود الرامي لعكس التنوع الجغرافي عبر العناصر الإيقونية يقابله تعسف فاضح في العنصر النصي/اللغوي لأن العملة النقدية الوطنية، كعلامة رمزية وسيادية موجهة "لكل المغاربة" ومعبرة عنهم، كان يجب أن تعكس في تصميمها السياسة اللغوية للمغرب المشترك خاصة في السياق السياسي الراهن وما عرفه من تطور على ضوء دستور 2011، وهذا ما لم يحصل مع هذا الجيل الجديد من الأوراق النقدية. فعلى المستوى اللغوي تم إقصاء اللغة الأمازيغية وحرف كتابتها تفيناغ كليا من تصميم الأوراق النقدية الجديدة، وتم الاقتصار على اللغة العربية في الوجه الأول والفرنسية على الوجه الثاني سيرا على نفس الخيار الرمزي والسياسي الذي اعتمد في سك العملة بالمغرب منذ عشرات السنين، بالرغم من أن اللغة الأمازيغية أصبحت مند سنتين لغة رسمية للدولة حسب منطوق دستور 2011 الذي يجب أن يكون الوثيقة الأسمى والمرجع القانوني المؤطر والمحدد لكل الخيارات والإجراءات المؤسساتية والسيادية للدولة والسلط الحكومية والتشريعية والتدابير الإدارية، وهذا يعني أن إصدار وسك أوراق نقدية جديدة بدون إدراج اللغة الأمازيغية ضمن متنها البصري يعد من جهة، خرقا واضحا للدستور، ومن جهة أخرى تكريسا و"رأسملة" للميز ضد الأمازيغية بحكم رمزية العملة الوطنية وقيمتها التداولية والمالية والسياسية ووزنها الاعتباري. كما أن تشبيه حلة الأوراق النقدية الجديدة بعملة اليورو2 كما جاء على لسان المسؤولين بدار السكة يبدو مثيرا للشفقة إن لم نقل للاستفزاز، ذلك أن الاقتداء بالنموذج الأوروبي المتطور ما كان يجب أن يقتصر على الجانب التقني والتأميني، بل كان من المطلوب أن يمتد إلى الأبعاد الأعمق التي صنعت التميز لهذا النموذج وهي أساسا الحس الديمقراطي والخيارات الحضارية المكرسة حقا لقيم التعدد والتنوع والغنى واحترام الرأسمال الرمزي والتعابير اللغوية لجميع مستعملي العملة بما يجعلها رمز اندماج وتعدد وتسامح وليس وثيقة رسمية لتكريس الإقصاء كما هو حال عملتنا الوطنية الجديدة. إن إطلالة سريعة على عملات البلدان الديمقراطية ذات التعدد اللغوي والثقافي والمحترمة لنفسها ولمواطنيها كالفرنك السويسري والدولار الكندي والروبية الهندية...، تكفي للوقوف على مدى حرص هذه الدول على تضمين أوراقها النقدية كل اللغات الوطنية والتي تصل إلى ثلاثة لغات بالنسبة لسويسرا واثنتان بالنسبة لكندا وحوالي خمسة عشر لغة بالنسبة للهند والتي تدرج كلها على نفس الورقة بشكل غاية في الإبداع والدقة والاتزان البصري. ففي هذه النماذج النقدية الديمقراطية تحترم قياس العبارات المكتوبة وسمكها وتركيبها وألوانها ومقدار تضادها مع الخلفية وباقي المكونات الغرافيكية تجنبا لأي شكل من أشكال الميز ولو الغرافيكي، وبما يضمن "الحياد البصري" بين تلك النصوص والعبارات ويترجم "العدالة اللغوية" بين الناطقين بها. وهي الاعتبارات التي غابت في الأوراق النقدية الجديدة للمغرب التي أقصت كليا اللغة الرسمية الأمازيغية، مما يطرح سؤالا عريضا حول مستويات الوعي السياسي والذكاء والأهلية والحس الديمقراطي لدى اللذين تكلفوا بمهمة تصميم وسك واستصدار الأوراق النقدية الجديدة، ومدى خضوع هذه العملية للمراقبة والمساءلة ولمقتضيات القرار السياسي والإداري. انطلاقا مما سبق، فالمطلوب اليوم التوقف والتساؤل بإلحاح حول حيثيات هذه التصاميم وعن الإجراءات والمساطر المنظمة لها والمتدخلين وأصحاب القرار، كما يتوجب الاستفسار حول مستوى اطلاع وزير المالية ووالي بنك المغرب وقبلهما رئيس الحكومة على الدستور الجديد ودرجة اقتناعهم ببنوده ومدى استعدادهم لأجرأة مقرراته، خصوصا وأن العملة في شكلها هذا هي في حالة بطلان دستوري، والإصرار على اعتمادها في إخراجها الحالي يعد طعنا صريحا في مصداقية أعلى قانون في البلاد وتكريسا واضحا للميز والإقصاء. لعل القادم من الأيام كفيل باستجلاء حقيقة دستور 2011 وترسيم اللغة الأمازيغية، وبتبيان إن كان المسؤولون والساسة والبرلمانيون ورئيس الحكومة سيتحلون بما يجب من الشجاعة المعنوية للإقرار بهذا الخطأ الفظيع والعمل على تداركه في أسرع وقت، خاصة وأن أجرأة ذلك لا يعدو إجراءات تقنية عادية بالنظر لأن طبع العملة الجديدة لازال في بداياته وأن دار السكة ملزمة دائما بمراقبة ما تطبعه من أوراق نقدية وسحب وتعويض أية كمية قد يطالها أي خلل تقني أو غيره. أم أنهم سيعمدون لصم آذانهم والهروب إلى الأمام والاصطفاف صفا واحدا إلى جانب القوى المعادية لمصالحة المغرب مع هويته الغنية. كما يتوجب على المناضلين الأمازيغيين والحقوقيين والديمقراطيين الفعليين في هذه البلاد التعبئة السريعة وبحت السبل القانونية والسياسية الكفيلة بتصحيح هذا الوضع النشاز الذي لا شك سيكون عنوان مرحلة خطيرة من الالتفاف حول الوثيقة الدستورية وتكريس و"رأسملة" الميز ضد الأمازيغية.