بمجرد إثارة أي بعد من أبعاد القضية الأمازيغية في المغرب، وخاصة عند طرح الأمازيغية بالبند العريض كحل لبعض القضايا والإشكالات المطروحة في الحياة السياسية والثقافية والتي يرتهن بها مستقبلنا الوطني، سرعان ما يحاول البعض مجددا اختزال الموضوع في المسألة اللسانية والثقافية بمعناها الضيق، كما يغالي البعض اللآخر في استحضار الهواجس العرقية والتجزيئية بشكل يعكس نوعا من الجهل والمقاومة النفسية للإنصاف الفعلي والتغيير السياسي والثقافي الذي تطمح إليه القوى المطالبة بتصحيح الاختيارات الهوياتية والإيديولوجية والمدافعة عن مشروعية الأمازيغية وقضاياها في فضاء المغرب المعاصر. فالأمازيغية من منظور إنسي وهوياتي وثقافي شامل، ليست مجرد لغة وثقافة شرائح عظمى من المواطنين والمواطنات المغاربة، تم اقصاؤها في السياسات العمومية وتدبير حياتهم العامة، فإضافة لكل ذلك فالأمازيغية هي الإطار الهوياتي الذي شكل ومنذ قرون طويلة كينونة "الأمة المغربية" وعنوان تميزها الحضاري واستقلاليتها الوطنية عن المشرق وعن الغرب على حد سواء. وبالرغم من كل الحدة والعنف الذي كانت عرضة له على مدى تاريخ لقائها بالآخر، فقد نجحت في استيعاب كل العناصر الإثنية والثقافية الوافدة على مجالها الجغرافي والتاريخي، وتمكنت من شخصنتها وتلطيفها، منتجة هوية متميزة وكيانا وطنيا فريدا، وكان لها الدور المحوري في بناء كيان وطني متحرر من قيود الاستعباد والتبعية، تلك الخاصية التي مكنته من كبح الزحف التوسعي التركماني من الشرق والأيبيري والأوروبي من الشمال، مؤكدة أن المغرب بإطاره الهوياتي الأمازيغي وتاريخه العريق شكل دوما أمة كاملة التفرد وعنصرا وطنيا واضح الاختلاف. لهذا فمن الواضح أن الأمازيغية تمثل جوهر الحل المنشود للإشكال الهوياتي الذي لا يزال يتخبط فيه المغرب المعاصر، والأزمة المترتبة عن قيام الدولة والفئات المتحالفة معها في خياراتها الإيديولوجية والسياسية والثقافية بتبني وتوسيع البنيات التي وضعها الاستعمار الفرنسي مند بداية القرن العشرين، دون مراعاة أو استدماج لبعض من أهم مقومات المجالات المحلية سواء التشريعية أو التنظيمية في إطار عصري، كما تم اعتماد إيديولوجية "العروبة" والخيار اليعقوبي في وضع السياسات العمومية وتدبير التراب. وكان من نتائج الإقصاء الذي طال الأمازيغية تعطيل وتبديد مقومها الاجتماعي والإنسي ودوره في بناء الشخصية الفردية والوطنية، والتخبط في هلامية هوياتية وأنموذج ثقافي مركب وهجين. فعندما نتحدث عن "العروبة" لا نقصد العربية باعتبارها رافدا لغويا وثقافيا له حضور واضح في الفضاء الاجتماعي ومجالات الانتاج المعرفي والإبداعي، بل نقصد "العروبة" باعتبارها نزعة إيديولوجية وسياسة قومية شوفينية أقصت بقية المكونات اللغوية والثقافية وخنقت الخيار الهوياتي في مقولات جافة ودوغمائية. ولا داعي للتذكير بأن الأمازيغية والأمازيغ قاموا بأدوار كبيرة في تطوير هذه اللغة، لكن في اطار مجالهم الثقافي والهوياتي الأمازيغي مما أضفى على إنتاجاتهم واستعمالاتهم في الماضي نوعا من التلطيف الايديولوجي والتوليفية الثقافية المغربية. والحقيقة أننا، وإذا ما تخلصنا من التمثلات والأفكار الجاهزة ونظرنا إلى الموضوع من زاوية أكثر دقة، سيتبين لنا بسهولة أن الحديث عن "الأمة العربية" و"القومية العربية" لا يتجاوز مستوى الخطابات والمقولات الإيديولوجية المفعمة بنوع من الحماسة التي تخفي حقيقة هذا الوجود والانتماء وتوظيفاته السياسية والثقافية. فليست هناك أمة عربية، بل هناك مجموعة بلدان ودول وفئات وأسر حاكمة، ومجموعة أحزاب وحركات سياسية وإيديولوجية طامعة في الحكم، استفادت أو تولدت في سياقات تاريخية مضت، قاسمها المشترك الأكبر الاعتقاد في الانتماء الى كيان افتراضي، واكتساب العضوية في "جامعة الدول العربية" التي لا تغني ولا تسمن من جوع، والتواطؤ على تبرير وتجديد دواعي ومشروعية واستمرارية هذا الانتماء بدواعي لغوية وثقافية وسياسية ليست سوى مسوغات إيديولوجية وقومية لأحلام اليقظة عند بعض المثقفين، ولضمان مصالح ونفوذ بعض الأطراف المتواطئة أو المهيمنة. فإذا نظرنا بموضوعية سنكتشف لا محالة أن ما يجمع بلدان شمال افريقيا مثلا، بدول المشرق العربي لا يتجاوز مستوى العلاقات العادية بين هذه الدول ومناطق أخرى في العالم، سواء على المستوى السياسي والاقتصادي، أو على المستوى اللغوي والثقافي والديني. وباستثناء علاقات المصالح الفئوية والتعاضد السلطوي القائمة بين بعض الأنظمة الحاكمة، وأوهام الاختيارات الهوياتية والثقافية القسرية التي تتغذى من واقع الاستيلاب والامتياز والإغراء الذي تقدمه لبعض النخبة الثقافية والأقلام المستفيدة أو المتهافتة، فإن حقيقة وفعالية هذا الانتماء، خاصة بالنسبة لبلد ودولة كالمغرب لا تفصله سوى بعض الكلمترات عن النموذج الأوروبي، تبقى مجرد إرث ثقيل ووزن إيديولوجي وقومي زائد تؤكد تطورات الحياة والنماذج السياسية والاقتصادية والثقافية والوعي الفردي والجمعي، ومنحى التاريخ، أنه سيستحيل إلى مجرد علاقات "أخوة" ومجاملة وتبادل الزيارات، وذكريات من الماضي. لنتوقف عند بعض النماذج والدول والمجتمعات التي استطاعت أن تحقق تطورا هاما في سياساتها ونموها الاقتصادي ووجودها الوطني سواء الكبيرة منها كألمانيا واليابان، أو الصاعدة كإيران وتركيا ...، يتضح أنها لم تشرع في التطور الفعلي إلا بعد أن حسمت في خياراتها الهوياتية وطبيعة كياناتها واختلافها الوطني، وذالك مقارنة مع الأقوام والدول الأخرى بما فيها تلك التي تتقاسم معها الدين أو اللغة أو جزء من الثقافة والتاريخ. فالنموذج الياباني استطاع أن يحقق ثورة اقتصادية وعلمية مهولة في ظرف قياسي بعد الحرب العالمية الثانية، ومن المعروف أن مقومات هذه الطفرة والنهضة السريعة تعود إلى عهد "الميجي" حيث تمكنت السلطة والدولة والمجتمع من الحسم في خيارات استراتيجية على مستوى شخصيتهم الفردية والجماعية وهويتهم الوطنية وعلاقتهم بمحيطهم الأسيوي وبالأخر الغربي. وقد كان من مقومات هذا الخيار تحقيق نوع من التجانس الهوياتي والثقافي الوطني انطلاقا من تاريخها العريق ومتطلبات التحديث والثورة العلمية، والإعلاء من المصلحة العامة على المصالح الشخصية، والإيمان بأن مستقبل اليابان هو في الالتحاق بالغرب حيث تم وضع الاطار القانوني والاقتصادي والإداري الكفيل بخلق دينامية جديدة كان لها الأثر الكبير في تحقيق التطور الاحق. تركيا بدورها، تتقاسم اللغة والأصول التاريخية والقومية مع عدة دول مثل تركمنستان وأوزبكستان وكازاخستان...وحتى مع توركستان الواقعة في غرب الصين، ولم تستطيع أن تتطور وتقرر مصيرها الوطني إلا عندما وعت جيدا أن مصيرها ومستقبلها مرتبط بمدى التحرر من تضخيم هذا الارتباط، والوعي بكيانها الذاتي ومصالحها الوطنية، وتطوير نموذجها السياسي والاقتصادي والثقافي. فمند انهيار الامبراطورية العثمانية وعى الاتراك تحولات السياق التاريخي والشرط المستقبلي لنشأة وتطوير كيانهم الحديث ودولتهم المستقلة، ومنه الاقرار بمصالحهم الوطنية كغاية عليا واختلاف كيانهم الوطني، ووضع الدين في مكانه الطبيعي والحسم في اختياراتهم السياسية كما تجسدت في دستور 1924. أمازيغية المغرب تحقق أيضا حلا واضحا للمسألة الدينية في المغرب، فكما حاولنا توضيح ذلك في مقالات سابقة يعتبر النموذج الثقافي والاجتماعي والشكل الذي تعاطى به الأمازيغ مع قضايا الدين وتدبير المرافق المرتبطة بها والاستجابة للحاجيات الروحية للسكان والمجتمع المحلي، مسوغات ثقافية وسياسية لتدبير قضايا المعتقد والحريات في المجتمع المغربي المعاصر. فإضافة إلى أن السكان وتنظيمهم المحلي كانوا يحيطون المرفق الديني والقيمين عليه بالعناية والتنظيم اللازم فإنهم كانوا يحرصون على بقاء هذا المرفق وأدواره الدينية الهامة بعيدا عن الحياة المحلية التنظيمية والتشريعية والاقتصادية. كما أن الإطار الهوياتي الأمازيغي وامتداداته الثقافية والاجتماعية كان له الأثر الكبير على الكيفية التي تعاطى بها الأمازيغ، والمغاربة عامة، مع قضايا الدين والأدوار التي أنيطت بها، واحترام الاختلافات وتدبير التعددية الدينية والعرقية في محيطهم، حيث يتضح بشكل جلي أن هذا التأطير الهوياتي ساهم في تلطيف الممارسة الروحية والدينية وتحييدها وعدم اقحامها في الصراعات الدنيوية المحكومة بالنسبية والتغيير والتنافس وخدمة المصالح المشتركة انطلاقا من الحاجيات والشروط الاجتماعية والثقافية التي تحيط بوجوده وتنظيماته وتطورات محيطه. وتتأكد أكثر أبعاد هذه التوليفية عندما نلاحظ كيف أن الثقافة الأمازيغية، والإنسان المغربي بشكل عام، يحتفي بالحياة عبر فنونها التعبيرية ومظاهر التفاعل مع مختلف العوامل واللحظات الزمنية والجغرافية والاجتماعية التي تعرفها حياة الأفراد والمجتمعات المحلية، كما يظل بطبيعته الثقافية منفتحا على الآخر وإمكانيات التثاقف والتغيير والتطور. وهذا يؤكد أن مكانة الدين ودور مرافقه والقيمين عليه لم تكن على حساب مظاهر الحياة والاحتفاء والتطور ألاجتماعي بقدر ما كان الاطار الهوياتي وأشكال التنظيم السائرة تفرق بين مجالات الحياة العامة وتعلي من مكانة الانسان وحاجياته ومصالحه ومشتركه العام. وعلى مستوى التشريع والتنظيم، تؤكد العديد من البحوث والدراسات العلمية التي تناولت موضوع القوانين العرفية الأمازيغية "إزرفان" أنها تحمل في مضمونها وفلسفتها التشريعية مقومات القيم الحديثة، كما يتأكد من آليات سنها الديمقراطية، وتدبير واحترام التعدد الديني والعرقي للسكان، وإنصاف المرأة عبر نظام المشاركة في الحياة الاجتماعية بشكل منصف كما يتأكد من خلال قانون "تمزالت" الذيي يضمن للمرأة حقوقها كاملة خلال الطلاق، وكذا إعلاء هذه القوانين من قيمة الإنسان حيث لا تتضمن مثلا، ما يمس بالحق في الحياة. اضافة إلى أن هذه القوانين تنطلق من المعطيات المحلية على المستوى الاجتماعي والثقافي والاقتصادي وتعلي من المصلحة المشتركة للسكان في تنظيم وتدبير مختلف شؤونهم المحلية، مما يجعلها تقدم أرضية تشريعية ذات أبعاد إنسية وثقافية منسجمة مع الوضع الاجتماعي وشروط تحقيق دينامية مجالية في الجهات والمناطق. انطلاقا من كل ما سبق، يتضح أن الأمازيغية باعتبارها معطى لسنيا وإطارا ثقافيا وهوياتيا يحفل بالعديد من المقومات الإنسية والإجتماعية التي من شأنها إذا وظفت من منظور تحديثي يستجيب لمتطلبات الحياة المعاصرة أن تساهم بشكل كبير في تقوية الكيان الوطني المغربي وإبراز اختلافه وانسجامه، وتصحيح الإنزلاقات الإيديولوجية السابقة وتقديم الإجابات الممكنة عن الإشكالات المطروحة ومنها الدينية والترابية والتنموية. أليست الأمازيغية، إذن، هي الحل؟