تتوقف الحافلة القادمة من فكيك، وينزل راكبوها وعلى سحناتهم آثار التعب الشديد. حقوقيون، أطباء من مختلف التخصصات وأجانب، فيهم فتاة إيطالية متخصصة في علم الأنتربولوجيا، وأخرى تحضر دكتوراه في حقوق الإنسان. الحافلة الفاخرة التي جاؤوا على متنها، يسيل بنزينها بعدما ارتطم خزانها بصخرة مرمية في عرض طريق تزممارت غير المعبد. ازداد تقاطر السكان بعد مجيء الحافلة، وتحلقوا حول الوافدين الجدد تحت خيوط شمس حارقة. هذا يوم تاريخي بالنسبة لهذه القرية المنسية المنكمشة على جرحها الغائر، كفارس مطعون ينزف في صمت وإباء. قرية طار اسمها في الآفاق وصار رمزا ممقوتا للبشاعة البشرية، وعنوانا قاتما للقساوة الإنسانية، دون أن يلمسها شيء من تلك الوعود المعسولة التي أطلقها المناضلون القدامى المتعاقبون على الكراسي الوثيرة لمجالس حقوق الإنسان المختلفة في التسميات والمتواضعة في المردودية والأداء... لماذا حين "يتمخزن" المناضلون القدامى، ينقلبون إلى أفاعي سامة تستمرئ نهش لحوم من كانوا يشاطرونها برودة الزنازين ورطوبة الأقبية؟ يتوجه الجميع إلى المقبرة ويقرؤون سورة ياسين وتبارك ترحما على المفقودين. تلتقط الصور التذكارية مع الناجين. سيدة اسمها نعيمة باح باح، تتمتم وهي تتنقل بين القبور وبين يديها صورة مكبرة لأخيها الراحل: "في أي لحد من هذه اللحود طمروك أيها الرجل العزيز؟" يقصد الوافدون ملحقة مدرسة القرية حيث نصبت طاولات متلاصقة عليها مشروبات وشاي وأطباق من حلويات. بعدها يتوجهون بمعية المدير إلى فناء المدرسة. هناك وقف صفان من التلاميذ، الفتيات عن اليمين والأطفال عن الشمال. يبدو أن أهلهم بذلوا قصارى جهودهم ليكونوا في أبهى الحلل، ولكن الفرق رغم ذلك يبقى بين لباسهم ولباس أطفال المدن كبيرا. حين ينضاف الحصار الجائر إلى الفقر المدقع، تكتمل المأساة وتنطق المرارة من عيون الأطفال ولو كانوا صغارا. تتعالى أصواتهم الرقيقة مرحبة بالضيوف: "هللي هللي يا رياح...وانسجي حول نومي وشاح أطفال أبرياء دبغت الشمس مع شظف العيش وجوههم الصغيرة، فبدت كوجوه أطفال الهنود الحمر الذين شردهم وآباءهم الغزاة القساة القادمون من القارة العجوز. هم لم يشردهم غزاة وإنما طالهم العسف والنسيان من أبناء جلدة يقطنون في حي بعينه يتواجد بقلب الرباط، ينامون على ريش النعام ويتكلمون عربية ركيكة على شاشات التلفزات، وفرنسية طليقة في البيت والصالونات. القناة الرسمية الثانية تصور المشهد مركزة على الضيوف الأجانب وتسجل تصريحات من هنا وهناك، لتقتطع منها في عملية المونتاج ما تشاء وتبقي على ما تشاء. المهم هو أن يقدم الحدث في غلالة وردية شفافة تعطي الانطباع بأن المغرب العميق يعيش في بحبوحة النعيم والرخاء. يتواتر على أخذ الكلمة بعض الدكاترة ويتكلمون بإسهاب حول الغاية من الزيارة. يظهر عليهم بعض التوتر الناتج عن قلة ما لديهم من إمكانيات. هم يدركون أن الخصاص أكبر من أن تحد منه أدوية قليلة أو توزيع محدود للحقائب المدرسية. لسان حالهم يقول: العين بصيرة واليد قصيرة يا إخوان. ما أن يأخذ الكلمة المندوب الإقليمي للمجلس الوطني لحقوق الإنسان ويشرع في تعداد منجزات لا يراها إلا هو، حتى يقاطعه أحد شباب القرية بلهجة تتميز غيظا: كفاك هراء يا هذا ... هل رأيت في حياتك مستوصفا بلا طبيب ولا ماء ولا كهرباء ولا دواء؟ كان عليك أن تفسر لنا أين ذهبت المساعدات التي أرسلها الاتحاد الأوربي لتأهيل المنطقة؟ يشعر الرجل بالحرج فيسكت وفي جعبته قناطير مقنطرة من لغة الخشب. عبد الله أعكاو، الساكن القديم للزنزانة رقم 5، والمرافق للقافلة مع محمد الزموري منذ الدارالبيضاء، يأخذ الكلمة ويصرخ ملء حنجرته شارحا للحضور محنة رفاقه مع مجلس معاند، يأبى إلا أن يبقى ملف تزممارت معلقا. يقترب ميكروفون دوزيم من أحد المعتقلين القدامى سائلا، فيجيبه هذا بجواب مختصر قائلا: " لقد قمنا هنا سنة 2006 بتصوير ربورتاج حول المعتقل مع الصحفي رضا بن جلون في برنامج "الزاوية الكبرى"، لكنه لم يبث إلى اليوم. المشكل باختصار، هو أن هنالك يد خفية تسعى من باب العناد أن يبقى الملف معلقا، ولو على حساب صورة وسمعة الوطن في الخارج... نرجو ألا تركب دوزيم على الحدث وتقدم الملف وكأنه حل نهائيا..." تغيب الشمس على قبور وقرية تزممارت، وتغيب معها الوعود إلى أجل غير مسمى...