قضت مصر عقودا من التطاحن والصدام السياسي بين النظام الحاكم "الجيش" و الإسلام السياسي. خاصة جماعة الإخوان المسلمين. ولم ينهي هذه الحالة إلا مجيء الربيع العربي الذي قطف الإسلاميين ثمرته بوصولهم إلى السلطة التي حلموا بها كثيرا. فالأحداث الأخيرة التي وقعت بخروج الشعب ضد حكم الإسلاميين وتسرع الجيش بإزاحتهم من السلطة. ستعود بمصر إلى المربع القديم وهو الصراع السياسي بين الجيش والإسلام السياسي. 1. الجيش ما جرى وما يجري الآن في مصر لا يمكن عزله عن تاريخ مصر الحديث. وإلا فإننا نقرأ الأحداث قراءة سطحية برانية لا تأخذ بعين الاعتبار العمق في تحليل وقراءة الحدث. جاء العسكر إلى السلطة عن طريق انقلاب عسكري دبره الضباط الأحرار (1952م). وهذه نقطة تحول محوري في العالم العربي منذ ذلك الحين، إذ تم تغليف ذلك الحدث في مصر بالثورة وبأن الجيش متحيز إلى الشعب، ولكن السؤال الذي لم يقرر فيه هو هل يمكن للآلة العسكرية أن تخدم الديمقراطية والحرية وكرامة الإنسان وضمان الحقوق؟ وبمعنى آخر هل يمكن للعسكر أن يسهر على تأسيس فضاء عقلاني يتم من خلاله فهم الواقع والحاضر والماضي؟ مع الأسف انقاد جمهور المصريين وراء العسكر الذي غلف حكمه بغلاف العروبة والإيمان بأن الشعب العربي شعب واحد تجمعه الثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة ووحدة المصير، والتبشير بتشكيل دولة عربية تقوم بجمع العرب ضمن حدودها من المحيط إلى الخليج. وقد تحول حكم العسكر إلى نوع من الأيدلوجية التي يمكن لها أن تحل مشاكل العالم الإسلامي، إذ عرفت عدة من دول العالم الإسلامي انقلابات عسكرية ووصل العسكر إلى السلطة في ليبيا وسوريا والعراق ... التاريخ لا يتحيز في أجوبته لأحد. ومنه نفهم بأن حكم الجيش في تاريخه لم يؤسس للتناوب على السلطة ولم يؤسس للفعل الديمقراطي وذلك بتحويل مؤسسة العسكر إلى مؤسسة فوق الشعب في كل البلدان التي حكمها العسكر. ففي زمن مبارك الذي كان طموحه توريث الرئاسة لابنه. تردى الوضع الاجتماعي والاقتصادي إلى درجة لا تطاق وترتب على ذلك خروج الشعب إلى الشارع وتمت إزاحة مبارك الذي سلم السلطة إلى الجيش. بمعنى أن هذا الأخير كان يحكم زمن مبارك وبعده وإلا لماذا لم يقد الجيش مسيرة التحول الديمقراطي في زمن مبارك. كيف نصدق الآن مقولة كون الجيش يرسم خريطة طريق نحو الديمقراطية بعد عقود طويلة من حكمه !! وإلا أنه من المفترض أن الجيش قد تغيرت بنيته الذهنية والتصورية لموضوع السياسة والحكم ...!! إن العسكر سيبقى عسكرا تنطبق عليه صفة العسكرية ولا يمكن بحال أن يتحول في حكمه إلى حكم مدني. لقد جرب العالم العربي عقودا من حكم العسكر. ووجب أن نذكر هنا أن العسكر يبقى عسكرا سواء كان بلباس ديني أو بلباس قومي أو حتى بلباس ديمقراطي... ومن الغريب أن تصطف بعض من الوجوه السياسية والدينية والقضائية والثقافية و... إلى جانب الجيش طمعا في الديمقراطية. 2- الإسلام السياسي "جماعة الإخوان المسلمين" ظهر جماعة الإخوان المسلمين 1928م بعد أربع سنوات على سقوط الخلافة الإسلامية على يد مصطفى كمال أتاتورك. وقد أخذت الجماعة لنفسها صبغة العالمية وجعلت من أهدافها العمل على إعادة الخلافة الإسلامية. أي أن أكبر أهداف وجودها هو الوصول إلى الحكم قصد تطبيق شرع الله. وقد طرح الإمام حسن البنا في منهجه التربوي السياسي خمسة مراحل يمكن الوصول بعدها إلى الخلافة الإسلامية تبدأ بتكوين الفرد المسلم ثم البيت المسلم ثم الشعب المسلم فالحكومة المسلمة ثم الخلافة الإسلامية الكبرى التي تجمع ما مزقه الاستعمار. ويضيف " الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون. بجعل الحكومة ركناً من أركانه ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد ... والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول... " تعددت الجماعات الإسلامية في العالم الإسلامي بأسماء متعددة والجزء الكبير منها متأثر بالجماعة الأم جماعة الإخوان المسلمون. قضى الإسلاميون في مصر زمنا طويلا في الصراع مع نظام العسكر زمن حكم جمال عبد الناصر ومن تلاه. وقد رأى نظام جمال عبد الناصر في الإسلاميين أكبر منافس لنظامه على السلطة. وترتب على ذلك الصراع ازدياد حالة الاحتقان والعنف المتبادل والتطرف إلى درجة وصف المجتمع بالجاهلية يقول قطب في هذا الصدد "نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم. كل ما حولنا جاهلية ... تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم. حتى الكثير معنا فنحسبه ثقافة إسلامية ومراجع إسلامية وفلسفة إسلامية وتفكيرا إسلاميا .. هو كذلك من صنع هذه الجاهلية" وبهذا تم إعدام سيد قطب بالحبل الذي فتله. وهو حبل لا يقبل بالحرية والتعددية. وتم اغتيال السادات بالبندقية التي كان يحملها وهي بندقية لا تقبل بالحرية والتعددية. وينبغي أن نفهم أن العسكر والإسلام السياسي وجها لعملة واحدة كلاهما يتنكران لأسئلة الحرية . إننا نستحضر هذه النصوص و نحن على وعي بأن الإسلام السياسي قد مر بالكثير من المراجعات الفكرية والتصورية. وبأنه الآن متنوع ومتعدد وليس صنفا واحدا ولكن في نظرنا وبشكل مجمل لم يحدث قطيعة معرفية مع منطلقاته القديمة. كما أن استحضارنا لهذه النصوص جاء من باب أن الإسلام السياسي لم تحكمه منذ البداية فكرة التعددية والحرية... وبكونه لم يكن همه منذ نشأته الأولى الفعل العقلاني و الديمقراطي. وعندما نقول الديمقراطية فإننا نقصد الديمقراطية كفكر وثقافة عقلانية تؤسس لمجتمع الحريات والتعددية الدينية والحرية في فهم وتأويل الدين ومقتضياته وفقا لمتطلبات الزمن الذي نحن فيه، بنذ كل أشكال الوصاية على فهم الدين. مع الأسف يؤمن الإسلاميين بالديمقراطية كأداة وكصناديق للوصول إلى السلطة. وهذا ينطبق كذلك عل بعض من التيارات الحداثية واللبرالية التي تؤمن بصندوق الاقتراع عندما يكون لصالحها وتكفر به إذا جاء بنقيض قناعاتها. إن الإسلام السياسي في مجمله ما لم يحدث قطيعة معرفية نقدية بشكل جذري مع تاريخه ومنطلقاته التي تجعل منه وصيا على الدين والمجتمع لا يمكن أن يؤسس للفعل العقلاني الديمقراطي. إذ لا بد في نظرنا أن يمر التغيير السياسي عبر قاطرة الإصلاح الديني والثقافي في العالم العربي. أي أسبقية المعرفي والثقافي على السياسي وهذه معادلة لا يقبل بها الإسلام السياسي لحد الساعة. وهي من بين ما جعلته يحصد أخطاء فادحة في تجربة الحكم التي تقتضي مشاركة كل تشكيلات المجتمع في القرار ليكون شعبيا. بدل إقحام الشعب في خيارات وتوجهات تخص جماعة صغيرة منه. ومن البديهي أن يخرج الشعب ضدهم. مع الأسف كان من الأولى أن يمنح الإسلام السياسي فرصته الكاملة بدل إزاحته حتى لا يعلق أسباب فشله على غيره وحتى تتعرى أخطاءه وتناقضاته وتظهر للجميع بما فيهم مناصريه. فالآن سيلعب الإسلام السياسي دور الضحية وسيستمر وستطول مواجهته وسيتحول إلى جيوب و.. ومن الحماقة الإصطدام معه. كان من الأولى الحفاظ على الديمقراطية كأدات ووسيلة تضمن نوعا من الإستقرار كحل أقل خسارة وكطريق أقرب إلى البناء. لقد عادت مصر إلى المربع القديم صراع الجيش والإسلام السياسي على كرسي السلطة. 3- مفارقات الربيع العربي. خرج الشعب يهتف بالحرية والكرامة والديمقراطية، ولم يكن متحيزا لا للإسلاميين ولا للتيارات الليبرالية ولا للتيارات اليسارية ولا لأي تيار سياسي كيفما كان، الربيع العربي كان مفاجئا للجميع ومفارقا لما قبله من الثورات ومن مفارقاته أن صناديق الاقتراع جاءت بالإسلاميين إلى كرسي السلطة أعداء الأنظمة الحاكمة بالأمس رغم أن إيديولوجتهم لا تعبر عن شعارات الربيع. ومن مفارقاته أيضا خروج الشعب ضد حكم الإسلاميين وقد سرق الجيش من الشعب هذا الخروج. وغدا سيخرج الشعب ضد آخرين. إنه عسر التحول. *باحث مغربي [email protected]