يلاحظ خلال الشهور الأخيرة أن بعض الأطراف السياسية والثقافية والمؤسساتية، وكذا الأفراد والإطارات، وفيما كان منتظرا أن يراجعوا استعمالهم لبعض العبارات والتسميات المتداولة في السابق، صاروا يتعاملون معها كعبارة "المغرب العربي" بنوع من الإصرار الإصطلاحي والتداول القسري، سواء في الخطابات ومجالات التواصل الرسمي، أو في الكتابات والانتاجات والتواصل الاجتماعي. فهذا التداول الاستبدادي يعكس نوعا من الرغبة في تأكيد مشروعية العبارة ومقاومة تغييرها، أو في استفزاز الأطراف والأفراد الآخرين الذين يرون في هذه التسمية نزوعا عنصريا وإقصائيا لا ينسجم والواقع الاجتماعي والتاريخي والثقافي الذي يطبع البلدان المنتمية إلى هذه الرقعة بشمال إفريقيا، وهم يطالبون بكل حس ديمقراطي وثقافي بتعويضها بتسمية تعكس تعددية مجتمعات هذا الجوار الإفريقي، كمصطلح "المغارب" أو "المغرب الكبير" أو "الاتحاد المغاربي". هذه التسميات التي لن يعترض عليها أو يشك في نزاهتها وطابعها الديمقراطي الذي يتسع لكل الإثنيات واللغات والثقافات، إلا جاحد أعماه مكر التاريخ وأحلام الماضي وزيف الإيديولوجي، أو أصابه داء مقاومة التصحيح والتغيير. فتزامنا مع اطلاق مجموعة من الاطارات والنشطاء الأمازيغ لحملة تحت شعار "من أجل اسقاط عبارة المغرب العربي من التداول الرسمي"، جاءت أول الردود من وكالة المغرب العربي للأنباء التي احتفت مؤخرا بإطلاق نسخة بوابتها الإلكترونية باللغة الأمازيغية. فلا شك أن اعتماد الوكالة الرسمية للأخبار والإعلام لللغة الأمازيغية في موقعها الرسمي يمثل حدثا هاما بأبعاد سياسية ولغوية وتواصلية واضحة، كما أن هذا الاقرار يحمل في طياته جوابا على الأسئلة التي يحاول البعض إعادة إثارتها في سياق تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، كمعيرة اللغة وحرف الكتابة. كما أنه من شأن هذه الخدمة الإعلامية أن تساهم بشكل كبير في تداول اللغة وتمكينها من وظائف جديدة، بل وتوحيد المصطلح والرفع من وثيرة التداول والاستعمال التي تبدو في غاية الأهمية في المرحلة الراهنة. لكن هذا المنجز لا يعفي الحكومة والوكالة من الاقدام على خطوة بسيطة للغاية، وذات دلالات ورمزية سياسية حاسمة في هذا الإقرار، ونقصد تغيير تسمية المؤسسة انسجاما مع مقتضيات دستور2011، وذلك بتغيير وتعويض عبارة "المغرب العربي بعبارة "الاتحاد المغاربي". فأي تأخر في تصحيح هذه التسمية اللادستورية، في مقابل التقدم في توظيف اللغة الأمازيغية ضمن سجل خدمات الوكالة، لا يمكن فهمه إلا باعتباره خيارا سياسيا لا يرى إمكانية توظيف اللغة الأمازيغية في المجال الإعلامي إلا في إطار الثابت أو الإرث الإيديولوجي والسياسي السابق الذي يحظى فيه مصطلح "العربي" بدلالات الاستيعاب الهوياتي والهيمنة الثقافية. فماذا يمنع الحكومة الحالية من استصدار مرسوم مثلا، يلزم جميع المؤسسات والقطاعات الحكومية والإدارات والجماعات المحلية ووسائل الإعلام بتغيير تسمية "المغرب العربي" في وثائقها وخطابها وتسميات مرافقها... بعبارة "الاتحاد المغاربي" أو "المغرب الكبير" تطبيقا لنص دستور 2011؟ وما ذا يمنع وسائل الاعلام الوطنية وقناة وإذاعة كميدي1 وميدي سات من إجراء هذا التغيير المطلوب على مستوى قاموسها الإعلامي؟ فلا جواب أو مبرر لهذا الإصرار والاستبداد الاصطلاحي سوى العامل الإيديولوجي والالتفاف السياسي وسوء التقدير الثقافي والأخلاقي، أو الاعتقاد الساذج في أن وصف "العربي"، وبعد سقوط العديد من الأنظمة التي غدت هذا الاحساس وهذه الانتهازية الثقافية والسياسية في شمال إفريفيا، لا يزال مدغدغا للوجدان وآسرا للعقول والأبدان! ففي الدول والمجتمعات التي تحترم نفسها، تستطيع المؤسسات، بل الأفراد والجماعات، وبشكل سلس أن تمتلك الجرأة والنزاهة الكافية للتغلب على النزوات الذاتية والإيديولوجية لتحقيق الانتقالات التي يفرزها تطور الوعي الحقوقي والثقافي والسياسي في فضاء المجتمع وخيارات تدبير المشترك العام الوطني. لكن التحول في الدول والمجتمعات التي راكمت وابلا من المكبلات الذاتية وطرق الممانعة والالتفاف حول الحقائق والتعاقدات يبقى مستعصيا، وأحيانا يتطلب عمليات قيصرية وإجراءات حازمة، وهذا ما يحصل في مغرب ما بعد دستور 2011. فهذا التأخير والالتفاف المدعوم بنوع من التمييع والامبالاة الحكومية، لا يخفي رهانه السياسي على الزمن لتفريغ بريق التحول الديمقراطي والحقوقي وتدبير التعدد الحاصل من مضمونه وجدواه. فالعديد من الأوصاف والتسميات التي ورثتها شعوب المنطقة عن سنوات الاستبداد السياسي لا وجود لها إلا في أذهان شيوخ ومريدي الايديولوجية القومية، ونسختها الإسلامية الحالية، وضحاياها من المواطنين والمواطنات المغاربيين. والتحولات التي تعرفها دول شمال افريقيا، وخاصة مع تساقط الانظمة الاستبدادية التي رعت الخيار القومي الاقصائي وبعض النخب السياسية والثقافية التي نابت عنها بالوكالة في دول المغرب الكبير، تؤكد أن طريق الديمقراطية لن يستوي دون تصحيح الخيارات الهوياتية انطلاقا من الحقائق التاريخية والواقع الاجتماعي، والتدبير العادل للتعدد اللغوي والثقافي، وتغيير جزء هام من العبارات والمفاهيم التي تأكد زيفها الاصطلاحي والسياسي، وعلى رأسها تسمية "المغرب العربي".