أعود – مُكْرَها – إلى هذا الموضوع لما له من خطر على مستقبل الأمازيغية. أسارع الى تبديد سوء الفهم والتفاهم الذي قد يتسبب فيه عنوان هذه المقالة بحكم إطلاقيته، فأقول: إن مَرَدَّ هذه إلى مقتضى الإيجاز في العناوين ليس إلاّ، وليس المراد مُطلٌق الاقتراض البَتَّة. ذلك بأن الاقتراض سُنّة لغوية لا تخرج عنها لغة مهما علا شأنها وعَظُمتْ حظوتها. إذً تكفي الإطلالة المتعجلة على معاجم اللغات المألوفة لدينا كالعربية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية والفارسية لكي ندرك أهمية عامل الاقتراض في حياة اللغات... فما مَكْمَنُ الخطر المشار إليه إذن؟ الواقع أن الأمر في هذا الشأن كما في غيره لا يخرج عن القاعدة العامة التي تقول: إن الشيء إذا زاد عن حدِّه انقلب إلى ضده. إن الاقتراض اللغوي الذي هو في آن واحد ضرورة لسانية كونية وسنة ثقافية حميدة تدل على انخراط أصحاب اللغة المُعيَّنة في حركة التفاعل مع اللغات الحاملة لمضامين علمية أو تكنولوجية أو فلسفية أو روحية لم تُسَمِّها لغتُهم إمّا لمغايرتها لعقليتهم ونمط تفكيرهم أو لأن حضارتهم لم تبلغ ما بلغته الحضارة "المُقْرِضَةُ" في هذا المجال أو ذاك من المجالات المذكورة، أقول: إن الاقتراض اللغوي بتعريفه ذاك الذي يجعل منه عامل تقدم وانفتاح وعنصر حياة للُّغات قد يتحول، متى أسيء استعمالُه أو خرج عن السيطرة، إلى عامل تدهورِ وانكماشِ ثم موتِ وانقراض للغة المُقترٍضة. ذلك بأن الاقتراض المعمَّم الذي يمتد الى النحو والصرف والنظام الصوتي ليس سوى المرحلة الانتقالية التي تسبق تخلي أصحاب اللغة عن لغتهم الأصلية لصالح اللغة المقتَرَض منها. يشهد على ذلك تاريخ اللغات المنقرضة عموما ومصيرُ التنويعات الأمازيغية في عدة جهات أمام زحف التعريب اللهجي خصوصا؛ حيث لم يجد جيل الأبناء صعوبة في الانتقال من أمازيغية جيل الآباء المختَرَقة بالاقتراض المعمَّم والفوضوي، بسبب الضغط السوسيو-لساني الذي مورس عليهم، إلى اللغة المهيمنة المقتَرَض منها. وليس بين تعريب اللسان وتعريب الانسان، أي تعريب الهوية، إلا خطوة واحدة لا يتردد المُعرَّبون الجدد في خطوها ليصير بعضهم من أعتى خصوم الأمازيغية وأعداهم للمنافحين عنها... مناسبة هذا الكلام ما سبق أن نبه إليه غيري ونبهت إليه من قبل مما تتعرض له الأمازيغية من اجتياح كاسح لا ضرورة له ولا ضابط لمقترَضات لغوية من اللغتين المهيمنتين وطنيا (ينظر مقال الأستاذ بلعيد بودريس تحت عنوان "إنهم يقتلون الأمازيغية" في مظانِّه، وتنبيهاتُ الأستاذ عبد السلام خلقي في بعض تدويناته، ومقالي هاهنا بعنوان "الاستهتار بالأمازيغية"). ولولا ضيق المقام لأفرغت هنا التسجيلات التي أنجزتها لمقتطفات من مختلف البرامج الإذاعية والتلفزيونية ليظهر هول الكارثة التي تحيق بالأمازيغية على يد أهلها من الإعلاميين وضيوفهم في القناتين "الأمازيغيتين": الإذاعية والتلفزيونية. إن الأمازيغية، إحدى اللغتين الرسميتين في الدستور، تبدو للمستمع وَكأن لا حامي لها ولا وَصِيَّ عليها من مؤسسة مهنية أو علمية تعمل على فرض احترامها من خلال إلزام العاملين بالقناتين بتجويد أدائهم اللغوي توقيرا للغة دستورية (على كل حال). ولن يتسنى ذلك إلا بفرض تكوين مستمر مبني على المزاوجة بين التحصيل الأكاديمي والانغماس اللغوي-الثقافي (immersion linguistique et culturelle): الأولُ لكي يكتسبوا وعيا لغويا يجعلهم قادرين على تَبَيُّن الأنظمة الصوتية والصرفية والتركيبية المُسْتَتِرة خلف الأداء اللغوي العفوي، فيعملون على تحيينها في تلفُّظهم على الوجه الذي يُشعِر المستمع بأنه بإزاء لغة لها قواعدها التي تحكم انتاجها واشتغالها، لا مجرد خليط من الكلمات تأكّلتها عوامل التعرية اللهجية وتجمع بينها أنحاءُ (جمع نحو) لغاتٍ أخرى (لغات تكوين الإعلاميين). وبتجويدهم لأدائهم اللغوي من خلال إبراز المُضْمَر من البنيات الصوتية والصرفية والتركيبية الكامنة في الملفوظات سيساهمون في جعل مستمعيهم من مختلف التنويعات الأمازيغية يدركون تلقائيا وحدة اللغة خلف الفوارق النطقية المجالية. وبذلك سيكون الإعلام، إلى جانب التعليم والأدب والمسرح والسينما...، عاملَ توحيد ومَعْيَرَة للأمازيغية دون التضحية بأي مكون من مكوناتها المحلية والجهوية التي لا تبدو متباعدة إلا لأنها لا تخضع لعملية التشذيب التلفظي الذي من شأنه تحييدُ العناصر الصوتية المسؤولة عن التشويش على البنية الصرفية للكلمة؛ ذلك "التشويش" الذي لا تسلم منه أية لغة حية، ما دامت الحياة، لحسن الحظ، أغنى وأوسع من القواعد والبنيات الجامدة. فلا يتعلق الأمر كما يردد المرجفون والعدميون بخلق لغة جديدة من العدم، وإنما بالاشتغال على اللغة الحية القائمة على نَحْوٍ يُبْرِز البنية الصوتية والصرفية للكلمة بحيث تزول عنها الشوائب النطقية المسؤولة عن أثر التباعد بين "الأمازيغيات". إن مسؤولية رَدْمِ شُقَّة التباعد الوهمية هذه تقع، في جزء كبير منها، على كاهل الإعلاميين الأمازيغيين. ولا يبدو، مع الأسف، أنهم يُقَدِّرونها حق قدرها؛ حتى لا أقول إن منهم من يقوم خلال أدائه الوظيفي بعكس ما تمليه تلك المسؤولية: أي المساهمة في المزيد من بلقنة الأمازيغية. ويأتي الشق الآخر للتكوين المستمر للإعلاميين (شق الانغماس اللغوي-الثقافي) لِيُمِدّ َ"النحوَ" بالبلاغة: ذلك بأن اللغة تحيا وتغتني بالخبرة الجماعية للمجموعة اللغوية؛ خبرةٌ تتأتى عن الممارسة الاجتماعية بمختلف وجوهها ومجالاتها، وعن التاريخ وقد تَحَوَّل الى ذاكرة جماعية، وعن التفاعل اليومي مع المحيط الطبيعي... فاللغة هي التي تستقبل تلك الخبرة مُثَبِّتَةً إياها في صيغ وتعابير وصور بلاغية تُسمّي وتُعيِّن أو توحي وتُخَيِّل أو تؤسْطِر... إن الخبرة الحية هي النسغ الذي يسري في جسد اللغة فتصير بلاغة. ألم يَقُل قائلهم: إننا بالبلاغة نحيا؟ فإن أبسط تلفظ يومي يُنجِز، دون أن يدرك ذلك صاحبه في الغالب، عددا لا يستهان به من العمليات البلاغية. ولست أعني بالبلاغة هاهنا المُحَسِّنات البديعية والزخارف اللفظية، وإنما أعني بها تلك الخاصية التي تتمتع بها اللغات، المتمثلةُ في كونها أبدعت آليّة تجعلها قادرة على تجاوز حدودها بذات أدواتها، فإذا بالضّيْق يصير اتساعا، وإذا بالحدود تَؤولُ آفاقا. إنها آلية (حيلة؟) المجاز أو البلاغةُ في بعدها الدلالي. إن انقطاع العامل في حقل الإعلام عن المجال الحيوي الذي تحيا فيه اللغة، أي الجهات التي تُتَداوَلُ فيها الأمازيغية باعتبارها لغة التواصل الأولى أو الأساسية، يُضعف رصيده اللغوي ويُفقره فيحتاج إلى الاستعاضة عن ذلك الفقر باللجوء إلى الاقتراض المكثَّف من اللغة التي تَكَوَّن بها، وبخاصة العربية. وإذا كان هذا السلوك اللغوي مفهوما، وربما مُبَرَّرا، حين يصدر عن "الانسان العادي" الذي يقتصر أثرُ فعله اللغوي على ذاته ومحيطه المباشر، فإن الوضع ليس كذلك عندما يتعلق الأمر بالعاملين في اللغة وبها. إذْ أن الفعل اللغوي لهؤلاء يتعدى إلى غيرهم، وخاصة الأجيال الجديدة من الأمازيغيات والأمازيغيين؛ فيَكونُ ذلك سببا للتّطْبيع مع الاقتراض المُعَمَّم الذي يُحِلُّ، بالتدريج، اللغةَ المقْتَرَضَ منها محلَّ اللغة المقترِضة. وقد بلغ التطبيع مع هذا النمط من الاقتراض مبلغا نجد معه ألفاظَ اللغة المشتركة نفسها (ألفاظ الحياة اليومية) تُعَوَّضُ، في البرامج الاجتماعية المفترَض فيها التوجُّهُ إلى العموم، بألفاظ مُقْتَرَضَة، من قبيل: "المرأة"، "الرجل"، "الطفل"، "الحياة"، الوطن"، إلخ. (خاصة حين تكون هذه الألفاظ من صنف ما يسميه أصحاب "تحليل الخطاب" (Analyse du discours) ب"كلمات الخطاب" (Mots du discours): أي تلك الألفاظ التي تشكل بؤرا لرهانات أيديولوجية وسياسية ("المرأة"، "الطفل" في الخطاب الحقوقي مثلا). وإذا كان صحيحا أنه تصعب مقاومة ضغط لغة التكوين على الألسنة، فإن الصعوبة لا تعني الاستحالة؛ خاصة عندما يتعلق الأمر بألفاظ اللغة المشتركة (غير الاصطلاحية). وإن الطريقة الوحيدة للتغلب على سلطة لغات التكوين في انتظار جيل جديد من الإعلاميين المكَوَّنين في وباللغة الأمازيغية، هي: الانغماس اللغوي-الثقافي، كما ذكرت من قبل. ذلك بأنه يضاف إلى سطوة لغات التكوين انقطاعُ الإعلامي الأمازيغي وعزلته، بحكم مقر عمله، عن لغة الحياة في الجهات الناطقة بالأمازيغية. فيَضْمُر لذلك رصيدُه اللغوي وتضعف مَلَكَتُه التعبيرية ويَشِحُّ زادُه البلاغي؛ ويضطر إلى الإكثار من الاقتراض اللغوي غير المعلَّل إلا بنقص فيه هو، لا في اللغة الأمازيغية (في جانبها المشترك على الأقل). وقد يمكن التسامح عندما يتعلق الأمر باقتراض مصطلحات لم يوجد لها بعد معادلٌ في الأمازيغية، أو يوجد لكنه لم يَجْرِ بعدُ على الألسنة، لكن لا يمكن التسامح عندما يطال الاقتراض معجم اللغة المشتركة ذاتها. وإذا كانت لغات معية قد استطاعت البقاء على الرغم من اجتياحها من طرف لغات أخرى (نظيرَ الفارسية في علاقتها بالعربية)، فإن تلك اللغات تحرسها أنظمتُها الصرفية والنحوية. إذ قد تكون كلمات الجملة من اللغة الفارسية كلها عربية لكن يستحيل على غير الناطق بالفارسية أو متعلمها أن يفهم معناها، لكون الفارسية لا تشترك مع العربية في نفس "العائلة اللغوية"؛ وليس هذا شأن الأمازيغية التي تنتمي والعربية إلى ذات "الأسرة اللغوية" الأفرو-آسيوية. هذا فضلا عن أن المقتَرَض اللغوي في الممارسة التلفظية للإعلاميين والنخب المعرَّبة عموما يحتفظ بكل خصائصه الصوتية والصرفية والتركيبية داخل اللغة الأمازيغية، مُشَكِّلا جزرا لغوية واضحة الحدود. وبعد، فلا مِراء في أن الإعلام الأمازيغي – الإذاعي منه خاصة – أنجز تقدما معتبرا في السنوات القليلة الأخيرة. حيث تم تمديد زمن البث الإذاعي والتلفزي؛ واستُحْدِثت برامجُ جديدة: ثقافية واجتماعية وسياسية وبيئية... ويُبْدي الإعلاميون المخضرمون والطارئون قَدْرا كبيرا من الاجتهاد في البحث عن الموضوعات في مختلف المجالات، ومن الحماس في طريقة التطرق إليها. لكن جهودهم تَنْصبُّ على المضامين ولا تشمل الأداة، أي اللغة، إلا استثناء. ومعلومٌ ما للغة الإعلام من تأثير على المتلقّين. فَمِنْ وسيلة للنهوض بالأمازيغية قد يتحول الإعلام الأمازيغي إلى أداة لقتلها وإقبارها عن طريق تهيئة العقول، بواسطة الاقتراض المعمَّم، إلى الانتقال إلى اللغة المُقْرِضة والتخلي عن الأمازيغية، كما أوضحت من قبل. خصوصا وأن العوامل السوسيو-ثقافية تساعد على ذلك، بل وتضطر إليه.