ادريس رابح قد يسهل تفسير الأسباب الحقيقية وراء انقراض العديد من اللغات في العالم، لكن في المقابل قد يصعب تفسير ''استمرار'' لغات أخرى حية في أداء وظائفها وفي التداول بين الناس رغم توفر ظروف وشروط الانقراض والاندثار. لقد أرجع أغلب المؤرخين والمختصين ''موت لغة معينة'' إلى عوامل خارجة عنها، كالتصفية العرقية والإبادة الجماعية للناطقين بها(أدت الإبادة الجماعية لقبائل الهنود الحمر من قبل المستوطنين الغربيين لأميركا الشمالية إلى ضياع واندثار العديد من لغات تلك القبائل البدائية)والاستعمار الطويل والاضطهاد والفقر والكوارث الطبيعية والهجرة والحروب وغياب الدعم والرعاية الرسمية لها وتشجيع لغة أجنبية على حساب لغة الأم...، حيث عرفت لغات قديمة وحاضنة لحضارات وثقافات عظيمة طريقها نحو الانقراض كالتدمرية والسبئية والعمورية والادموتية والامهرية والبونية والحبشية القديمة والفينيقية والنبطية والحضرية والمندائية والبابلية والمصرية القديمة وأخرها اللاتينية أم الحضارة الغربية أصبحت لغة متحفية. ولكن الغريب أن تتوفر شروط الانقراض للغة معينة ورغم ذلك تستمر في الحياة. ولو درسنا لغات العالم حالة بحالة لوجدنا أن القلة القليلة منها قد حافظت على وجودها ضدا على مكر التاريخ والسياسة والطبيعة وما كسبت أيدي الناس وما جادت به قريحته من أفعال. وتنتمي الأمازيغية إلى هذا الصنف من اللغات، حيث بقيت حية صامدة ومتداولة، رغم أنها تعرضت هي كذلك للغزو والاستعمار والهيمنة الأجنبية، ولمدة ثلاثة آلاف سنة تقريبا، ليطرح السؤال عن الميزة والخاصية التي تنفرد بها اللغة الأمازيغية والتي مكنتها من الصمود إلى حدود اليوم. حاول العديد من الباحثين تبرير صمود الأمازيغية رغم توفر شروط الانقراض والاندثار كما حدث للغات القديمة التي عاصرتها، وقدموا مجموعة من الفرضيات تهتم في غالبيتها بالعوامل الخارجية عن اللغة وتروم تفسير هذه الوضعية بناء على معطيات تاريخية ومقارناتية مع وضعية لغات أخرى تشبه في وضعها اللغة الأمازيغية، وبذلك فقد اعتبرت ثلة من المختصين أن صمود الأمازيغية يعود إلى جغرافية المناطق التي يسكنها الأمازيغ وانغلاقها عن المحيط الخارجي، كسكان الجبال والصحاري، ثم هناك من يرجع ذلك إلى نفسية الممانعة والمقاومة التي يتميز بها الإنسان الأمازيغي وإلى حيوية اللغة الأمازيغية الشفوية وطبيعة النظام الاجتماعي الأمازيغي ، حيث حافظ على لسانه رغم توالي الاستعمار والتدخل الأجنبي. لا يمكن نفي هذه التبريرات بالمطلق ولكن في المقابل لا يمكن جعلها عوامل حصرية، فهي حاضرة ولها تأثير كبير على صمود الأمازيغية لقرون رغما عن الظروف التي لم تكن تصب في مصلحتها. غير أن الملاحظ في التفسيرات التي قدمت إلى حدود اليوم أنها لم تأخذ بعين الاعتبار الأسباب الذاتية والداخلية، أي تلك المميزات التي ينفرد بها النسق الداخلي للغة الأمازيغية، فأهمية هذا النوع من الأسباب يكمن في كونه يعطي إيضاحات عجزت عن تبريرها العوامل الخارجية التي تبقى غير كافية إذا علمنا أن تحققها قد أدى في كثير من الحالات إلى انقراض العديد من اللغات، الأمر الذي لم يحصل مع اللغة الأمازيغية، مما يجعل الاهتمام بالأسباب الذاتية للغة الملاذ الأخير لتفسير صمودها. المعروف أن جل اللغات في العالم تقريبا، بما فيها اللغة الأمازيغية، تشترك في خاصية ''ليونة استيعاب نظامها الاسمي للمقترض '' واستدماجه بعد إخضاعه للقواعد اللغوية المعمول بها داخل اللغة، فنجد مثلا أن كلمة ''تاكورت'' قد تقبلت حركات التأنيث في الأمازيغية وأصبحت متداولة دون يطرح ذلك أي مشكل على المستوى الصرفي أو على المستوى التركيبي واستعمالها في الجملة، وهي الظاهرة ذاتها التي نجدها في اللغة العربية(الديداكتيك، تكنولوجيا) أو في اللغة الفرنسية(technologie)، غير أن هناك ميزة تكاد تنفرد بها اللغة الأمازيغية عن سائر اللغات الأخرى، وتتمثل في قدرة ''النظام الصرفي والاشتقاقي للفعل والمصدر'' على تطويع الدخيل وإخضاعه لمقتضيات عمل التي يتبعها نسقها الداخلي. لاشك أن الفعل يحتل المكانة المحورية في اللغة ويعد القلب النابض فيها، بل يستحيل التواصل بلغة معينة دون الإلمام بقواعد تصريف الفعل حتى ولو كان الفرد متحكما في مفردات معجمها اللغوي، عكس ذلك قد يسهل التداول والتواصل بأي لغة بمجرد معرفة قواعد تصريف الأفعال حسب الزمان والعدد، الأمر الذي يبوئ الفعل المركز والدور الأساسي في اللغة، ولذلك فاستمرار لغة في الحياة والتداول معناه أن نظامها الفعلي لازال يلعب دوره ووظيفته ولازال مستعملا في التواصل والتخاطب بين الناس. وبالعودة إلى اللغة الأمازيغية سنجد أن نظامها ''الفعلي وتصريفه واشتقاقه'' يقدم استثناء وميزة تكاد تنفرد بها اللغة الأمازيغية. يتميز النظام الفعلي والصرفي والاشتقاقي في الأمازيغية بليونته وقابليته لتكييف أي فعل مع مقتضياته وقواعده، عكس اللغات الأخرى التي يمثل فيها ''جهازا مناعاتيا''لا يسمح باستدماج أفعال مقترضة ولا يمكن تصريفها وتطبيق عليها القواعد الإشتقاقية، لهذا فقد ماتت عدة لغات شفوية على الخصوص بسبب مناعة جهازها الفعلي من جهة وبسبب كذلك عدم وجود رعاية رسمية، فلا يمكن مثلا أخذ فعل ''أكل'' من اللغة العربية وتصريفه في اللغة الفرنسية والعكس صحيح، حيث يستحيل مثلا اقتراض فعلmaquiller من الفرنسية وتصريفه في اللغة العربية، فالمعروف عند اللسانيين أن ''النظام الصرفي والاشتقاقي في جميع اللغات'' يتميز بثباته ويعتبر ''مجموعة من السمات'' غير متغيرة. لكن الأمازيغية لا تخضع لهذه السيرورة المناعاتية، فنظامها الفعلي لين ويقبل بسهولة إدماج أفعال أجنبية وضمها وإخضاعها لقواعد التصريف والاشتقاق وبالتالي استعمالها في التواصل والتخاطب حتى تصبح وكأنها أفعال أمازيغية أصيلة، دون أن يستثقلها اللسان أو تعتريها علل تدل على أنها أفعال غير أمازيغية، حيث أن هناك أفعال متداولة اليوم في الأمازيغية ورغم أنها مقترضة من لغات أخرى إلا أن هذه الخاصية العجيبة التي ينفرد بها النظام الصرفي والاشتقاقي للفعل يجعل أن التمييز بينها وبين أفعال أمازيغية أصيلة صعب وغير متاح لغير اللسانيين. وللتأكد من صحة هذه الخاصية وهذه الميزة، يكفي إيراد مثال لفعل ''بدو bdu '' وهو بالمناسبة فعل مقترض من اللغة العربية''بدأ'' أصبح متداولا وأقصى الفعل الأمازيغي الأصيل''سنتي''، فالفعل ''بدو'' يتم تصريفه في جميع ''الصيغ'' العادية منها والاشتقاقية أيضا ويتعامل معه وكأنه فعل أمازيغ أصيل، فنقول مثلا في الصيغة المحايدة'' أد بدوغ(أنا)، أد تبدود(أنت)، أد تبدوم(أنتم)...''، ونقول أيضا في الصيغة التامة "بديغ(أنا)، تبديد(أنت)، بدان(هم)، بدانت(هن)...''، ونقول في الصيغة الغير التامة'' دا بددوغ(أنا)، دا تبددوم(أنتم)...،كما يخضع الفعل أيضا للقواعد الاشتقاقية التي تسري على الفعل الأمازيغي الأصيل، فنقول عند اشتقاق ''الصيغة الجعلية أو السببية'' '' سْبدو(بإضافة سين الجعلية)، ونقول في اشتقاق ''صيغة المشاركة'' مْسبدان(بإضافة ميم المشاركة....ونفس الشيء يقال على الأفعال المقترضة من لغات أخرى غير العربية( مثلا أفعالbloquer ،guider) ولا تقتصر هذه الميزة على تصريف واشتقاق الأفعال، بل نجدها أيضا في ''صياغة المصدر''، فلو أخذنا مثلا مصدر فعل ''بدو'' والذي يطابق ''أبدو''، فسنجد أن الصياغة الاشتقاقية المطبقة على المصادر الأمازيغية الأصيلة تسري كذلك على المصادر المقترضة، فنقول في صياغة مصدر الجعلية ''أسْبدو''. إن هذه الخاصية العجيبة هي التي مكنت اللغة الأمازيغية بشكل كبير على الحياة والاستمرار دون أن تفقد ''هويتها'' فيما يخص القواعد والنظم التي يعمل بها نسقها الداخلي، وهذه الخاصية ذاتها هي التي صدرتها الأمازيغية إلى الدارجة المغربية باعتبارهما لهما نفس البينة التركيبية، فنجد أن أي فعل مقترض يمكن تصريفه وتداوله في الدارجة وبكل سهولة. وأي لغة غير منفتحة على باقي اللغات في الأخذ والعطاء، تكون أشبه ببركة لا يتجدد ماؤها، فتجف.