كان وما زال البحث في فن الشعر يقود إلى تساؤلات عن حقيقته ومفهومه، فقد أثار جدلا كبيرا بين النقاد، إذ تعود الأدب العربي في بناء القصيدة أن يبدأ بذكر الحب والحنين، والبكاء من شدة الشوق وألم فراق المحبوبة، لذلك تشكل قضية النسيب في الشعر مهمة صعبةّ، فكل ناقد ودارس سعى إلى تقديم نظرياته في هذا اللون الفني الذي ما تخلو قصيدة من ذكره، لما في النفوس من محبة الغزل وإلف النساء. فالشعر هو كلام موزون مقفى على حد تعبير قدامة بن جعفر، يعني أنه يلتزم بالوزن والقافية، ويعرف المخضرم حسان بن ثابت الشعر بقوله: وإنما الشعر لب المرء يعرضه على المجالس إن كيسا وإن حمقا ويمكن القول أن مفهوم الشعر عند حسان هو لب المرء وهو في هذا السياق متصل بالأخلاق، إذ هو خلاصة صفات الإنسان الباطنية، عقلية كانت أو قلبية، معبرا عنها تعبيرا جعلها ظاهرة أمام المتلقين، وهذا يظهر لهم جلاء ما فيها من الكياسة، الرفق أو الحماقة، فالشعر هو المرآة العاكسة لشخصية قائله، لذلك عرض بعض الشعراء على تنقيح أشعارهم وبالغوا في ذلك حتى قيل عنهم عبيد الشعر، أمثال أوس بن حجر، وزهير والخطيئة، كما نسبت أيضا أقوال في تعريف الشعر، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الشعر كلام مؤلف فما وافق الحق منها فهو حسن، وما لم يوافق الحق فلا خير فيه، كما عرفه أيضا بقوله: كلام، فمن الكلام خبيث وطيب"، ونستشف من خلال هذه الأقوال أن الرسول الكريم يؤكد أن الميزان الذي يوزن به الشعر يتمثل في مدى مطابقته للحق أو عدم مطابقته، فالشعر الذي يجافي الحق فهو الخبيث الذي لا خير فيه. والشعر عند الناقد المتميز الذي يتمتع بثقافة واسعة وبعد نظر وتفكير عميق، ابن رشيق القيرواني الذي استطاع أن يخلد اسمه في تاريخ النقد الأدبي بفضل مؤلفاته التي حظيت باهتمام الدارسين على مر العصور، وأبرز مؤلف له: كتاب "العمدة"، الذي حاول من خلاله تقديم تصور عن الشعر ومفهومه، فالشعر عنده لم يكن مجرد ألفاظ موزونة ومقفاة، أو أقوال تدل على معنى، وإنما الشعر عنده يقوم بعد النية على أربعة أشياء وهي اللفظ والوزن والمعنى والقافية، هذا هو حد الشعر، لأن من الكلام موزونا ومقفى وليس بشعر، لعدم القصد والنية. فقد أراد بقوله هذا أن يفرق بين الكلام الموزون المقفى بنية وقصد، والكلام الموزون المقفى ولكن دون نية وقصد، فما يكون منظوما وموزونا ويدل على معنى، ولكنه لا يعبر عن الإحساس والشعور النفسي ولا يثير المتلقي، فهو ليس شعرا، بل لا بد له من خاصية تميزه، وتتمثل هذه الخاصية في الإحساس الصادق العميق الذي ينقل إلى المتلقي رأي الشاعر في موضوعات معينة، وهذا يدل على فهمه الدقيق لماهية الشعر، وبالتالي فهو يجعل الإحساس الشعري عنصرا هاما من عناصر الشعر، بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك حينما قرر أن الشعر ما أطرب، وهز النفوس. وبهذا فالشعر عنده يرتكز تأثيره في نفوس المتلقين، على أساس وجود عملية توصيل كاملة، وهذا ما عبر عنه أبو هلال العسكري بقوله: البلاغة كل ما تبلغ به قلب السامع فتمكنه في نفسه، كتمكنه في نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن، فالشعر لا بد أن يكون نابع من إحساس صادق متميز عن غيره ويعد ابن رشيق القيرواني من المهتمين غاية الاهتمام بوحدة القصيدة، ومهتم بلم شتاتها فهي كل موحد، فقد شبهها بجسم الإنسان، في تماسك أعضائه وتناسقها وترابطها، فالقصيدة كائن تتكون من أجزاء متناسقة متناسبة، ولكل قسم أو جزء مكانه بحيث لا يغني الواحد منها عن الآخر. ويعد رأي رشيق القيرواني في الوحدة العضوية رأيا تأسيسيا في مجال الوحدة، وبذلك فهو يحتل مكانة هامة بين النقاد. وهذا الرأي يبدو واضحا ظاهرا في كتابه: "العمدة" الذي يبرز مدى اهتمامه بقضايا النص. ويستوقفنا هذا الأمر في باب "المبتدأ والخروج والنهاية" فهو باب تحدث فيه عن بناء النص الشعري، المتمثل في طريقة الشعراء العرب في بناء القصيدة ونظمها، وقد توقف عند ثلاث خصائص بنائية تتعلق بوحدة القصيدة الشعرية، وهي المبدأ، الخروج والنهاية، ويقصد بالمبدأ حسن الاستهلال والابتداء، وقد اشترط الحسن في الابتداء، لأنه أول ما يصل أذن السامع، ويعبر عن هذا المعنى بقوله: الشعر قفل أوله مفتاحه، وينبغي للشاعر أن يجود ابتداء شعره، فإنه أول ما يقرع السمع، وبه يستدل على ما عنده من أول وهلة، أما الخروج فهو عندهم فهو أن يخرج من نسيب إلى مدح أو غيره بلطف والمقصودة بالنسيب هنا هو الغزل إذ أن النسيب والتشبيب من مسميات الغزل، فعند الرجوع إلى أهل اللغة نجد أن التشبيب والغزل والنسيب بمعنى واحد عند ابن السيدة، فالغزل عنده هو تحديث الفتيان الجواري، والتغزل التكلف لذلك، والنسيب التغزل بهن في الشعر، وشبب بها في كذلك، وعلى هذا جاء في لسان العرب" شبب بالمرأة": قال فيها الغزل والنسيب، وهو بشبب بها، أي ينسب بها، والتشبيب النسيب بالنساء،ولم يخرج الزبيدي عن دائرة هذه المعاني في شرح هذه الكلمات، كما استعمل بعضها مكان الآخر، فقال: النسيب والتشبيب هو الغزل في الشعر، والنسيب في الشعر هو التشبيب فيه، وإذا كان قد استعمل النسيب بمعنى الغزل في العبارة الأولى، فقد استعمل أيضا التشبيب بمعنى النسيب فقال: التشبيب في الأصل هو ذكر أيام الشباب واللهو والغزل ويكون في ابتداء القصائد، والتشبيب: النسيب بالنساء؛ أي بذكرهن، ومن هنا يتضح عدم التفريق في استعمال المصطلحات الثلاثة، وبأنها مترادفة تدور حول معنى واحد هو النساء ومحادثتهم. (لكن تجدر الإشارة إلى أن فريقا آخر من النقاد والدارسين قاموا بالتفريق بين هذه المصطلحات). ويحتل النسيب كما قلنا أهمية كبرى في القصيدة العربية، سواء من خلال تعبيره عن الأحاسيس الصادقة والمشاعر الجياشة للشاعر من جهة، أو من خلال جلبه لآذان السامعين والقراء، وفيما يأتي سنتطرق على سبيل المثال لا الحصر لآراء بعض النقاد والدارسين في غرض "النسيب" (الغزل) . يقول الناقد محمد سامي الدهان في هذا الصدد: إن الغزل العربي له موضوع ومعنى خاص به حتى اليوم وهو "رضاء المرأة"، فالغزل (النسيب) ألصق الفنون الأدبية بحياة الرجل والمرأة، لأن المرأة نصف الرجل وتمام عيشه وحياته، وهي مبعث الرضا والغضب، لأنها مظهر الجمال الحي في دنياه، منذ دبت الحياة البشرية على الأرض، وقد سعى الرجل إلى رضاء المرأة في أساليب شتى، والرجل في هذا كله فنان يسعى إلى قلب المرأة، فهو بذلك يتحدث عنها ويتحدث إليها، وحديثه هو الغزل (النسيب). وهذا يثبت أن الغزل حسب أسلوب العرب هو التخطيط الفني للكلمات المستعملة فيه، وبذلك يسترضي الشاعر حبيبته وشريك حياته، ودار كل من النسيب والتشبيب والغزل حول المرأة في كل زمان ومكان محتلة مكان الروح في الغزل، ويُرى عند إمعان النظر في أن عمر بن أبي ربيعة وامرؤ القيس وجميل بثينة، وما إلى ذلك من الشعراء، لم تملك قلوبهم إلا هذه المرأة وكانت وما تزال مصدرا ومنبعا للشعر والحكمة. ويقول امرؤ القيس في غرض النسيب: سموت إليها بعدما نام أهلها سمو حباب الماء حالا على حال قالت سباك الله إنك فاضحي أما ترى السمر والناس أحوالي؟ ومنه أيضا قول جميل متغزلا ببثينة: ألا ليت أيام الصفاء جديدة ودهر تولى يا بثين يعود أفنيت عيشي بانتظاري توالها وأبليت بذاك الدهر وهو جديد علقت الهوى منها وليدا فلم يزل إلى اليوم ينمي حبها ويزيد يموت الهوى مني أذا ما لقيتها ويحيا إذا فارقتها فيعود. وقد قدم سامي الدهان بحثا قيما في هذا الخصوص فقال: إن الغزل العربي (أو النسيب) كان حواه حب الشاعر وأمنياته، فكان يمنع الحياء والصبر بعضا من الشعراء في بيان حبهم إلى المرأة، هكذا يتضح في كلامهم الشعري الغموض والرعاية الحسنة، فيسمى كلامهم الحبي هذا بالغزل العذري والأفلاطوني، ومن الجانب الآخر كان بعض من الشعراء يصارحون في الحب مع النساء، ويجرؤون على بيان جمال أجسادهن وأعضائهن الجسدية، وكلام هؤلاء العشاق اشتهر بين الأدباء والنقاد بالشعر المفحش أو الغزل المادي. والنسيب أو الغزل عموما، هو تجسيد للعاطفة والحب، وهذين الأخيرين جزءان لا يتجزءان، وأما الحب والمودة فهي صورة عاطفية عميقة، وهكذا يتعلق الغزل بعواطف الشاعر الشديدة مباشرة، لكن لما نشأ الغزل في العصر الجاهلي فشعراؤه لم ينتجوه تحت ضغط عواطفهم الشديدة، بل أنشدوه لبقاء العرف الأدبي الحسن، الذي لا يجحد طوال الزمن، كما أشار إليه عزيز فهمي بقوله: الغزل وليد العاطفة، ولكن الغزل الجاهلي كان مقدمة لفنون أخرى كالمدح والهجاء والفخر. ويزعم ابن قتيبة على أن غزل الشعر الجاهلي لا يتصف بعواطف الشاعر الحقيقية أصلا، ولا يقرض الشاعر هذه الأشعار إلا لالتفات السامعين، وجعلهم يسمعون إلى كلامهم الواقعي، فيستخدمون له عنوان الحب والحنين الرقيق. يوافق ابن رشيق على هذا الرأي على أن الأشعار الغزلية للقصيدة جزء لا ينفك منها، ولكن لا يحتم أن يكون لسان خال لما طرأ عليه من العواطف والأحاسيس، وبداية القصيدة بذكر ديار الحبيبة فله مكانة مرموقة في العرق الأدبي الحسن من حكم النسيب الذي يفتح به الشاعر كلامه أن يكون ممزوجا بما بعده من مدح أو ذم. الشعر يدل على عواطف الشاعر الحقيقية لأنهم يعتقدون أن الشعراء الجاهليين لم يدونوا هذه الأشعار من النسيب والتشبيب إلا تعبيرا عما يدور في باطنهم من العواطف الحقيقية، وازداد كلام شكر فيصل في هذا الجمال عاطفة أكثرن فبدأ يقول: إن هذه العاطفة التي نلمحها في هذا القسم من الشعر الغزلي، لم تكن عاطفة عريضة فقط، ولا إنسانية فحسب، ولكنها كانت إلى جانب ذلك عاطفة صحيحة سلمية وعاطفة قوية ومع ذلك فإن بن قتيبة وغيره من النقاد يقطعون الرأي في خصوص هذه الأشعار أنها كانت تقرض في بداية الأمر لجلب النقاد السامعين وقراءها، وأنهم يظنون أن الشاعر لا ينجح في أخذ ميلان القراء إليهم إلا بعد إظهار شدة العواطف والانطباعات ولذا أنه يتعرض أولا العناوين المؤثرة للحب واللقاء والوداع والالتهاب وجمال النساء، شكا شدة الشوق الوجد والفراق وفرط الصبابة ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه ويستدعي به إصغاء الأسماع إليه لأن النسيب قريب من النفوس. إنما يصدق ما قال القدماء في جمال الغزل الجاهلي أنه عرف من الأعراف وعادة من العادات، أكثر من العواطف الحبيسة حينما نجد في القصائد الجاهلية كلها تطابقا غريبا وتوافقا عميقا ولونا واحدا بين أشعار النسيب والتشبيب، فلنتذكر في أشعار هؤلاء الشعراء الثلاثة: امرؤ القيس: قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل~بسقط اللوى بين الدخول فحومل فوضح فالمقراة لم يعف رسمها ~ لما نسجتها من جنوب وشمأل طرفة بن العبد: لخولة أطلال ببرقة تمهد ~ تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد وقوفا بها صحبي علي مطيهم ~ يقولون لا تهلك أسى وتجلد زهير بن أبي سُلمى: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ~ بحومانة الدراج فالمتثلّم ودار لها بالرقمتين كأنها ~ مراجيع وشم في نواشر معصم ويتبين بعد إمعان النظر في هذه النماذج الثلاثة أن الشعراء الثلاثة صوروا بيئة تغلب فيها عناصر الوحدة والأطلال والشدة الصحراوية، اللهم إلا أنه يصعب يقينا أن الشعراء الثلاثة أو كلهم من الشعراء الجاهليين لعلهم واجهوا نفس النتيجة في الحب والمودة، ثم ذهبوا إلى مكان واحد من الأطلال للبكاء عليه وبيان الألم والقلق والاضطراب الذي لقوه، فلذا هذا أقرب قياسا وظنا أن أشعار النسيب والتشبيب في العصر الجاهلي لم تر نورا إلا إتباعا للأعراف الأدبية وحفاظا عليها. لكن رغم اختلاف تفسير أسباب اللجوء النسيب في الشعر العربي، إلا أن ما اتفق عليه هو أهميته الكبر ويظهر هذا من خلال توجه العناية إليه، وانصباب العديد من الدراسات الأدبية عليه.