واهم من اعتقد يوما، أن الانطلاق من نفس المرجعية العقائدية يؤدي بالضرورة إلى الاتفاق على نفس المخرجات السياسية، فالعقيدة حتى بمعناها اللغوي تعني العقد والشد والربط بقوة وتدور حول معاني اللزوم والتأكد واليقين، واصطلاحا هي الحكم الذي لا يقبل الشك، بينما السياسة تدل لغةً على معالجة الأمور والقيام على الشيء بما يصلحه، وهي رعاية شؤون الآخرين بما يخدم مصالحهم، وبالتالي فهي متحركة، إذن العقيدة ثابتة ومطلقة في حين أن السياسة متغيرة متحولة ونسبية. وقد انبثقت تاريخيا من نفس العقيدة الدينية ملل ونحل، لم تسلم منها كال الأديان بما فيها الأديان السماوية الثلاث، هذا بالدين والتدين فكيف بالسياسة وهي في الأصل غير ثابتة وتخضع لتقدير العاملين فيها ولنياتهم التي لا يطلع عليها إلا خالقهم، وهذا يوضحه لنا الحديث الشريف عن أول ما تسعر النار بهم يوم القيامة، ظاهر عملهم أعمالٌ شريفةٌ نبيلةٌ، لكن هدفهم المضمَر سماع المديح "فعل فلان" فيكون جزاؤهم من صنف نيتهم "فقد قيل"، وقد صنفه العلماء -مثلما نجد في شرح النووي على مسلم- في كتاب الإمارة، وهنا مغزى الاستشهاد. الأحزاب ذات المرجعية الدينية متواجدة في كل مكان، وليست كلها على نفس الخط والمنوال، ولا على نفس النهج والمسلك، ولا على نفس الهدف والمقصد، بين من يريد الإصلاح ومن يروم التغيير، تختلف باختلاف أسباب المنشأ والوجود، وباختلاف تربة الأرض والحدود، فالكيان الصهيوني وهو دولة قامت بالأصل على فكرة ومرجعية دينية توجد فيها أكثر الأحزاب الدينية تطرفا وعنصرية في العالم، وفي الغرب توجد الأحزاب الديمقراطية المسيحية التي نشأت نهاية القرن التاسع عشر مع قبول البابا ليون الثالث عشر نهاية حقبة الهيمنة البابوية، متخلّيا بذلك عن مفهوم الجماعة الدينية أو التنظيم الإيماني العقائدي الخارج عن الدولة، وغير القابل للانخراط في مؤسساتها. أما في الدول العربية والإسلامية، وهنا بيت القصيد، فمع غياب الديمقراطية عدا بعض الاستثناءات -حالة تركيا مثلا- لم يتأت للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية الحضور في المشهد السياسي والوصول إلى السلطة إلا بعد موجة الربيع العربي، وتعتبر المرجعية الدينية رأس مال هذه الأحزاب الذي جاءت جميعها من رحم الحركات الإسلامية الدعوية التي اشتغلت في مجال الدعوة والتأطير الديني، والعمل الاجتماعي. إذن قدم الإسلاميون -وهو مصطلح لا أحبذه- من برج الدعوة الدينية والوعظ والإرشاد وهو برج متعال نقي يمثل المطلق والمقدس وصولا إلى مركب السياسة الآسن النسبي والمدنس، لكنهم لم يأتوا وحدهم بل اصطحبوا معهم الكثير من اعتقاداهم وممارساتهم وأقوالهم وأفعالهم إلى عالم السياسة المتموج. وكان مما اصطحبوا بعض المصطلحات الدينية والشرعية فتراهم يتحدثون عن "الحق والباطل" عوض الحديث عن "الصواب والخطأ"، وعن "الحلال والحرام" عوض الحديث عن "الجائز والممنوع" أو "الحسن والقبيح" أو لربما "المصلحة والضرر" وهكذا دواليك. تبعات هذا الاصطحاب اللغوي كبيرة، وعواقب هذا الخطاب جسيمة وعظيمة، حيث يصبح المخطئ جاهلا، والغلطان آثما، والمخالف ضالا، والمجتهد خائنا، وانطلاقا من هذا يعتبرون مواقفهم نصرة للحق ضد الباطل، فيصبح اجتهادهم السياسي ومقاربتهم الإيديولوجية هي الحق والوفاء، وكل اجتهاد آخر أو مقاربة أخرى هي الباطل والخيانة. لم يترجل بعض الإسلاميين من منبر الخطابة المثالي المدغدغ للعواطف والمشاعر إلى عالم السياسة الواقعي وهو طعام ذو غصة، فلم يتكيف الخطاب ولم تتحول الرسالة، ظلوا يعتبرون أن كلَّ من خالفهم عدوٌّ لهم، وما فتئوا يتبنون نظرية المؤامرة في الكثير من الأحوال، ويعتقدون بوجود "الصهاينة" في كل مكان، ويعتمدون منطق المظلومية في كل المواضيع، ويعيبون على غيرهم ما لم يحرمه الشرع ولم يمنعه القانون، وما لم ترفضه الأخلاق ولم يتعارض مع الاستقامة، والأمثلة كثيرة في هذا الباب، وأكتفي كمثال إدانتُهم لجمع المال والسلطة، وهذا لعمري لو كان حقا لما رأينا عثمان بن عفان خليفة للمسلمين. ليس عيبا أن يرجع الإسلاميون إلى مرجعيتهم للاستئناس بها وللنهل من كلياتها ومقاصدها لاستصدار مواقفهم ولبلورة مواقفهم بل بالعكس، لكن يجب ألا تُستعمل هذه المرجعية سلاحا فتاكا في المسائل الخلافية لضرب الآخرين، والدخول في نياتهم والحكم عليهم، ونزع المصداقية عنهم واتهامهم بالعمالة والخيانة والتفريط والتملق والمداهنة مما يذكرنا بالاتهامات بالزندقة التي كانت تكال للمخالفين والمعارضين في عصر الخلافة. غاب عن بعضهم أن الداخل إلى عالم السياسة مثله مثل السباح المنقذ حارس الشواطئ، لا يمكنه أن يقو م بعمله دون النزول من برج المراقبة، ولا يتصور إنجازه لمهمته دون أن يتبلل وينغمس في عباب البحر، هدفه القيام بمهمته كاملة دون أن يخاطر بحياته، يعوم في بحر هائج ممسكا في نفس الوقت بحبل النجاة، يمسكه حراس أقوياء ذوو عضلات فتيلة -وهُم حراس المعبد في المجال السياسي- دورهم جذب الحبل وإطلاقه في الوقت الصحيح وبالطريقة المناسبة، إن جروا الحبل أكثر من اللازم أُخرج المنقذُ إلى الرمال، ولم يخلّص أي أحد من الغرق، وإن تركوه وأطلقوه دون عناية خاطروا بحياته، الحصافة في كيفية جر الحبل وإطلاقه، ولنذكر شعرة معاوية وحنكته السياسية. الإسلاميون قوة سياسية ضاربة، واستمرار قوتها يكمن في استكمال نضجها بالممارسة والاحتكاك بالواقع، وتدبير الإكراهات والاستفادة من التجارب دون تهويل أو تخويف، باستخلاص العبر عند كل امتحان واختبار، باكتساب الخبرة وإعادة ترتيب الأوليات دون تنازل عن الأبجديات بين ما هو تكتيكي مرحلي ومؤقت، وما هو استراتيجي دائم ومستمر. إن الثبات على المبادئ قوة لم يعطَها أي أحد، وإن الوقوف مع القضايا العادلة مثل قضية فلسطين ومواجهة الكيان الصهيوني لا منة فيها من أحد، لأنها أقل الواجبات تجاه أم القضايا المجمع عليها بين الإسلامي واليساري، بين القومي العربي وبين الوطني القُطري.. إلخ، وكلمات الرئيس محمد مرسي رحمه الله: "لن يتحقق لكم سلام بالعدوان"، "لن نترك غزة وحدها"، "مصر اليوم مختلفة تماما عن مصر الأمس" ستبقى خالدة، لكن ماذا وقع بعدها؟ أهو المصير المحتوم والطريق الأمثل الذي وجب اتباعه؟ أم هي الحرب والمكيدة، وهي كلمة رجل صحابي خاطب بها أشرف خلق الله؟ بمعنى آخر، إذا كنت تلعب لعبة شطرنج بنفس الخطة وتنهزم فيها دائما، فما لك إلا حلّان، تغيير الخطة أو تغيير قواعد اللعبة؟ فاختر أيهما تُطيق.