لاشك إن مقياس نجاح العملية الانتخابية لا يمكن اختزاله في موضوعتي النزاهة والشفافية دون استحضار واستجلاء نسب تعبيرات المشاركة التي ترمز بشكل فعلي عن مدى صحة العملية الديمقراطية برمتها والفعل الانتخابي بتجلياته وإفرازاته ،فلا يمكن اختزال الامر في حسابات الربح والخسارة بالنسبة للأحزاب السياسية ،ولا يمكن ان نسطح العملية الانتخابية ونخندقها في البعد الاجرائي ،وإنما العملية الانتخابية الجيدة وباستخدام المعيار الهندسي (الهندسة الانتخابية) هي عبارة عن نسق متكامل من المقومات والمعايير القيمية والإجرائية والمسطرية التي تتفاعل فيما بينها لتنتج فعلا انتخابيا يجد تعبيراته اكثر في ارتفاع نسبة المشاركة كأحد الاوجه الاستدلالية والدلالية على مدى صحتها وأثرها وتأثيرها impact على البناء الديمقراطي ،وإذا تحدثنا عن سياقات الانتخابات الجزئية لما بعد الانتخابات التشريعية ل 25 نونبر الاخيرة ،نجد انه وعلى الرغم من ان الرابح الاكبر في هذه الانتخابات الجزئية هي الاحزاب الحكومية المتحالفة إلا انه يبقى الخاسر الاكبر في هذا المخاض الانتخابي هي الديمقراطية في حد ذاتها بفعل تدني نسبة المشاركة على الرغم من المسوغات التي يتم سوقها في اعتبارها مجرد انتخابات جزئية حيث لا تلقى الاهتمام والتسويق على شاكلة الاستحقاقات الانتخابية الاساسية والرئيسية. إن هذا التداعي المزمن في نسب المشاركة في الانتخابات الجزئية الاخيرة لا يقع تأثيره على الاحزاب التي خسرت المعركة الانتخابية وإنما يشمل "الكل الانتخابي"،ويؤشر بشكل من الاشكال على وجود ازمة فعلية ليس في النسق الانتخابي فقط وإنما يتجاوزه الى النسق السياسي. فأولى تجليات هذه الازمة هي استمرا ر "تيمات الخصومة مع السياسة والسياسيين" ،حيث مكمن انعدام الثقة هو المهيمن على البناء النفسي السياسي للمواطن ،وبالتالي يبقى العزوف السياسي والانتخابي كسلوك اعتيادي قائم يعبر عن حالات الاحباط والتذمر وقد يصل الامر الى الاحساس بالضياع وفقدان الكنه السياسي لدى المواطن /الفرد ،والخطير في الامر ان الاشكال لا يقف عند حد العزوف فقط بل المواطن غير متتبع وغير مكترث بهذه الانتخابات الجزئية حتى ولو من باب الفضول ،وهذا الوضع يساهم الى حد كبير في ارتفاع منسوب خزان الغاضبين الذين قد يتحولون مع الوقت الى تصريف هذا الغضب والإحباط في الفضاء العمومي وبأشكال احتجاجية مختلفة ويزكي ايضا حالات القلق الاجتماعي التي تدعم عدم الاستقرار السياسي. ثانيا:استمرارية التمثل السلبي الذي يحمله المواطن تجاه العملية الانتخابية باعتبارها مجالا خصبا لاستعمال المال الحرام وغير المشروع من خلال شراء الذمم ،حيث تظل العملية الانتخابية عبارة عن سوق سياسي تتحكم فيه قواعد البيع والشراء ومن يدفع أكثر ،حيث لا تعرض البضاعة السياسية التي تقنع المواطن وإنما النفاذية والاستئثارية تكون للمبالغ المؤداة عن الاصوات ،وهنا نؤكد أن هذه الانتخابات لم تكن بمنأى عن شرور استعمال المال وفق معطيات واقعية دالة وتأكيدية،وهذا ما أكده حتى الحزب الذي يقود الحكومة "العدالة والتنمية". ثالثا:ان حيثيات وتمفصلات هذه الانتخابات تبرهن بان تشكلات الوعي الانتخابي في المغرب مازالت حبيسة الاعتمالات المختلة السابقة وتنهل من معين ثقافة انتخابية غارقة في الشخصنة ،وبالتالي يغيب التمثل الايجابي للانتخابات على انها لحظة ديموقراطية واجبة التحصين من كل ما من شانه ان يحور من مساراتها ومضامينهاو اهدافها . رابعا :كثيرا ما تذهب التحليلات السياسية في اتجاه ان ظاهرة العزوف الانتخابي تعبر عن سلوك سياسي سلبي لا يخدم البناء ألديمقراطي إلا ان الوضع يثوي معطيات معاكسة لهذا التحليل بحكم ان هذه النسبة الكبيرة التي تقاطع الانتخابات سئمت وكلت وملت من هذه الاحزاب، والنخب السياسية ومن الوعود الكاذبة، التي سرعان ما تذهب ادراج الرياح وتندثر في سماء البراغماتية والمصالح الحزبية الضيقة ،حيث المقاطعة تكون كرد فعل عن البضاعة الانتخابية الكاسدة على جميع المناحي والمستويات. خامسا:ان الاحزاب في اطار تفاعلاتها مع العملية الانتخابية لم تقطع مع الاساليب الماضوية التي ساهمت في تأزيم الفعل الانتخابي في المغرب ،حيث تعيد اجترار نفس الممارسات والسلوكيات وتوظف الادوات التقليدية في التعبئة الجماهيرية ،ومازالت ايضا رهينة تكريس ثقافة الحشد والقطيع في التعبئة الانتخابية ،حيث تبقى البرامج الانتخابية سلعة كاسدة غير قابلة للتسويق والترويج في السوق الانتخابي بفعل بوارها المزمن،خصوصا وان الانتخابات الجزئية خضعت في الغالب لمشاركة ضيقة شملت انصار الاحزاب ومناضليها والمتعاطفين حيث لم تستطع الاحزاب جلب المواطنين الى ساحة التباري الانتخابي. سادسا:استعصاء تشكل ما يمكن ان نصطلح عليه بالكائن الانتخابي الذي يملك سلطة الاختيار والتعبير والاستقلالية في فعله الانتخابي بعيدا عن إكراهات الوصاية والانتماء العائلي والقبلي والعلاقات الشخصية والالتزام الحزبي الاعمى الذي يخضع لمنطق "انصر حزبك مهما كان ظالما او مظلوما"، وبالتالي من الصعب اعتبار ان حصول الاحزاب الحكومية على المقاعد يعتبر بمثابة صك تجديد الثقة في الحكومة تحت سباب عدم انضباط العملية الانتخابية بمدخلاتها ومخرجاتها للضوابط المعمول بها والسارية في الانظمة السياسية المقارنة سواء في بعدها الاجرائي وأيضا السوسيو-ثقافي والسوسيو-سياسي،فالبيئة الانتخابية في المغرب لم تنضج بعد من اجل اعتمادها كمدخل لأحداث تقييمات او اصدار احكام استدلالية على ان هناك مخاض ديموقراطي حقيقي مادامت تشوبها الكثير من الاعضالات والاعتلالات. سابعا:ان الاقتران والربط بين ضعف نسبة المشاركة وهزيمة المعارضة يؤشر بدوره على ازمة البديل السياسي الذي من شانه ان يقدم مشروعا مجتمعيا سياسيا بإمكانه اقناع المواطن،فالأحزاب التي توجد في المعارضة كانت بالأمس القريب في مواقع المسؤولية ولم تقدم للمواطن أي شيء ،وتموقعها في المعارضة ايضا جعلها تتخبط في الكثير من المشاكل الداخلية حيث زاد ذلك من هدر عنصر الثقة من لدن الاعضاء وايضا المواطنين ،فهذه الاحزاب تحتضر سياسيا وبيولوجيا ان صح التعبير. وعليه فالعملية الانتخابية بفاعليها ومشمولاتها تعيش على ايقاعات الدوران في حلقة مفرغة ولا تنبئ بان الغد الانتخابي في مغرب اليوم سيكون بخير ،والرهان على الاستحقاقات القادمة بحاجة الى احداث ثورة انتخابية تحدث قطائع مفصلية مع هذا الواقع الانتخابي الذي عمر طويلا ومازال يمتد في الحاضر الانتخابي ويأسره دون الاتجاه نحو التغيير والتبدل.