أتخذ مكاني في ركن قصي من هذه المقهى الأنيقة. (أصبح عندنا في تاوريرت مقاه أنيقة). وقبالة عيني أكواريوم تسبح في مائه سمكة ملونة وسمكة أخرى تشبه سمك السردين. أنا لا أستطيع أن أميز من أنواع الأسماك غير السردين وبوقرينيص. ذاك فن لا أجيده. لا أهتم. طول العلبة المائية متران تقريبا. وعرضها متر واحد. هامش الحركة ضئيل: تعوم السمكتان ويكاد خداهما يلامسان الزجاج الشفاف.. السمكة الملونة نشيطة، أو هكذا يخيل إلي، تسبح جيئة وذهابا، تلون مجال نظري بالبرتقالي الفاتح، وتصر السردينة المسكينة على الإنزواء. لله ما أجمل السمكة الملونة وهي تفتح فاها كأنها تقبل الماء، بله كأنها تناغيني، تستفز العطف الأبوي الكامن في أعماقي: كلما رأيت فما صغيرا ينفرج عن كلمة خلته فم طفلي "يتهجى" الحروف لينطق: أبي ! ترحل بي الصورة إلى عوالم أخرى، آسرة و لانهائية. غير أنها مجرد صورة لا حياة فيها، تسليني أنا المخلوق على حساب مخلوقات أخرى صغيرة وجميلة، تمنحني فرجة مزخرفة تحقق متعة العين لكن القلب لاهٍ لا يعرف كيف تستسيغ العين أن تتسلى بعذابات الآخرين..( حتى وإن كان هؤلاء الآخرون مجرد كائنات مائية صغيرة لا حول لها ولا قوة!) يتقافز في ذهني سؤال صغير: أوليست هذه الكائنات مجدية ونافعة ؟ أتذكر ذاك المليادير، صاحب معامل السيارات العالمية، حين سقط طريح الفراش وقد أنهكه المرض والعمل الدائب، وجاءت ابنته تقول إنه آن الأوان ليستريح وقد بلغ من الكبر عتيا.. ابتسمت عيناه قبل أن يبتسم وهمس في أذن ابنته: حين أموت سيكون لدي كل الوقت لأستريح ! .. كل الكائنات من حولنا تكدح وتعرق وتشتغل، حتى الشمس التي ظلت تشرق منذ ملايين السنين لا تزال تشرق كل صباح، وبعضنا يقيم الدنيا ولا يقعدها.. لمجرد أنه أخفق في تجربة عابرة ! كم يمكن للواحد منا أن يعيش؟ ثمانين سنة، مئة سنة .. ! أعمارنا قصيرة، لا تكفي..لا تسع كل ما ينبغي أن نقوم به،،، حتى نموت، حين نموت، و تظل أصداء أصواتنا تتردد، لا تموت! عاش على الهامش، مات على الهامش! لا شيء..! ظل ينتظر أن تأتي الفرصة، ولم تأت الفرصة ثم مات! الحظ لا يأتي، نحن من نذهب إليه، والنجاح لا يقدم على طبق من ذهب للأغبياء الخائرين الخاملين! أعتذر من كل أولئك الذين لا يزالون يعلقون كل الطوام والمصائب على مشجب الآخرين، يتساءلون: ماذا قدم لنا بلدنا، ماذا؟؟ ..لكن السؤال الأعمق والأدق والأصدق: وماذا قدمنا نحن لبلدنا؟ قد يزعف الكثيرون من كلام كهذا لأنه يضع الأصبع على الجرح: جراحنا التي تنزف في أعماقنا، و لا ندري أن قطاعا واسعا من شبابنا يعاني من نزيف داخلي اسمه: الاتكالية والهزيمة النفسية. وأنا، أيها الأفاضل، لا أحلق لوحدي خارج السرب في فضاءات الأحلام المجنحة. الذي أحلم به، اللحظة، أن يقرأني واحد فينفض عن نفسه غبار الخمول، ويشمر عن سواعد الجد، ويمعن النظر فيفهم أن الحياة لا تحابي أحدا كما لا تبخس حق أحد، لا تقدم الأعطيات والمنح والهدايا المجانية؛ ويطرح على نفسه مثلما تطرح على نفسها سؤالا بديهيا: كيف أستثمر كل إمكانياتي، وإن تكن صغيرة، لأصنع نجاحا، وإن يكن صغيرا.. والنجاح الصغير يفتح شهيتي لأصنع نجاحا أكبر.. وهكذا. الحكاية بسيطة ولا تعقيد فيها. نريد مناخا إيجابيا يشجع على الإبداع. وهذا المناخ لا يخلقه الإنس والجن مجتمعون وإن أرادوا. تخلقه أنت، وتخلقينه أنت، لأنه ينبعث من داخلكما أولا ثم يسري إلى المجتمع برمته. وحين يؤمن كل منا بقدراته وبفاعليته، ويراكم المعارف والخبرات و المهارات، ثم يعمد إلى نفسه يحاسبها ويمحصها قبل أن يمد عيناه إلى الآخرين..حين يحدث ذلك ينخلق المناخ الإيجابي من تلقاء نفسه. دعونا رجاء من ترديد الأسطوانة المعطوبة ذاتها التي سئمنا الاستماع إليها: هل انتظرَ ذاك الصبي الفقير، الكسول، الأصم حتى تكون الظروف ملائمة لينقل البشرية من عصر الشموع إلى عهد المصابيح الكهربائية؟ وهل اتحدت الأمة عن بكرة أبيها لتفرش أرض ذاك الصبي الأعمى بالورود حتى يكون أول عربي يحصل على الدكتوراه و يحوز عمادة الأدب العربي؟؟ .. باختصار، يا صديقي، الطريق من هاهنا..