رغم كل الجهود المبذولة من لدن الفعاليات المدنية الحقوقية النسائية في القوى الديمقراطية عام، مازالت المرأة تعيش حالة من الذعر أمام تحركات وحركات الردة الأصولية وسلوكها الالتفافي على المطالب والمكاسب الحقوقية التي ناضلت من أجلها القوى الديمقراطية، ولعل الأمر المثير للاستغراب هو أن قوى التهريب الديني تخوض حروب الردة هذه وتمارس سلوكها الالتفافي على مكاسب المرأة المغربية عبر أصوات نسائية أصولية، أبرزها ما تمارسه الوزيرة الحقاوي من وقف التنفيذ لما أقرته اتفاقية التعاون مع الاتحاد الأوربي في هذا الاتجاه، وذلك خلف تبريرات ومراوغات فارغة من المضامين. كما طالت تلك المراوغات الالتفافية " الخطة الحكومية للمساواة"، وذلك بتغيير اسمها ونقلها إلى ما أسمته في مراجعاتها ب "خطة المساواة في أفق المناصفة"، في ظل تجاهل وعدم إشراك الوزارة للجمعيات النسائية في مراجعاتها وارتداداتها المريبة، مع العلم أن الدستور يؤكد في مواده (175-19-164 ) على ضرورة تعزيز وإثبات قواعد المساواة بين الجنسين في سائر الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، في ظل تكافؤ الفرص بين الرجال والنساء في ولوج كافة مؤسسات الدولة. وفي هذا السياق عمل الربيع النسائي للديمقراطية والمساواة على توجيه رسالة إلى الحكومة والبرلمان، عملت من خلالها على استشعار الأخطار المحدقة بحقوق المرأة، وبالتراجعات والردة الحقوقية التي سجلتها الحكومة الحالية، وذلك بإمساكها عدة خيوط، سنقف في هذه المحطة وبعجالة على الخيط الديني، والذي تقوم بتحريكه الجمعيات النسائية الأصولية في المساجد والكتاتيب القرآنية ودور الشباب تحت لافتات " الهيئات المدنية"، ومحو الأمية، ودروس الدعم والتقوية، ورحلات العمرة، وما أصبح يسمى ب " السياحة الدينية" نحو الخليج و تركيا وماليزيا....، و"الجمعيات الخيرية والإحسانية"، وهو ما يسير بشكل مواز وداعم وناظم ومنتظم، للمؤسسات المكونة لوزارة الأوقاف والمجلس العلمي الأعلى، وما تحمله مشاريع "هيكلة الحقل الديني وميثاق العلماء"، وتكوين الواعظات والوعاظ ممن ينزلون تلك البرامج منزل التطبيق تحت إشراف رؤساء المجالس العلمية المحلية، الذين كانوا هم مقدمة المحاربين الشرسين لدعاة مطالب التحرر والمساواة النسائية، إلى درجة يرفض فيها وبشراسة السيد بنحمزة وزملاءه مجرد مقترح من لدن الخمليشي ومن داخل اللجنة تغيير مصطلح " النكاح" بمصطلح " الزواج"، فهؤلاء إذن الذين يسيرون الآن المجالس العلمية من داخل وزارة الأوقاف، ويكونون وعاظا وواعظات وأئمة ومرشدين هم الذين كانا يفاوضون ضدا على الحقوق والمطالب النسائية باسم بنكيران وأخواته، والذي كان يحرك الدفة من الشارع، أما الآن فإنهم- رؤساء المجالس العلمية- يعملون على مواجهة الحركة النسائية بأصوات واعظات نسائية ذات حمولة ذكورية، ومتوسلة بالمقدس الديني، لإظهار الردة الحقوقية التي تمارسها الحكومة هي استجابة لأوامر إلهية، وأن من يعارضها فهو يعارض الأوامر الربانية، وسيتمكن الملاحظ بإطلالة سريعة على برامج قناة السادسة هذا الاستفحال للحمولة الأصولية الضاربة والمعادية للحقوق النسائية، وعلى ألسنة واعظات نسائية إخوانية بارزة، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر برنامج" مع الأسرة" الذي تعمل من خلاله مسيرته معبئات أصوليات ومعبئين أصوليين، للهجوم على الثقافة الغربية وأسرها والتخويف منها وتشويهها، والاستدلال في بعض هذه البرامج بأشرطة مصورة من منازل الأصوليين لفريد الأنصاري، وتتكرر الصورة والخطاب في باقي البرامج ونذكر منها" الأسرة والإسلام" باستضافة أصوليات من جمعيات أصولية،وبرنامج " النور الخالد" الذي تقدمه إحدى الواعظات الأصوليات بالدارجة المغربية لتمرير وتسهيل تفويت تلك الأفكار الأصولية خلف عروض متسترة ب " السيرة النبوية"، فالظاهر في هذه البرامج الذي لا يحتاج إلى تفسير ولا تأويل هو أن الواعظات اللواتي أصبحن إذاعيات لتسيير برامج ما فتئن يخضن صراعا مكشوفا وملاكمة سريعة وصارعة ضد خطاب يعتبرنه "آخر ومنحرف ومارق"، ولذلك يتجنبن في خطابهن حتى اسم المرأة ويستبدلنها في برامجهن ب " أسرة"، ويعتبرن ذلك" تطبيقا للقرآن"، مع مراعاتهن لبعض أساليب تنميق الخطاب، في الوقت الذي يتم فيه إطلاق العنان لخطاب الترهيب الذي تمارسه الواعظات في المساجد ومقرات الجمعيات المغلقة، ما دام المقام يقتضي القصف المباشر الذي يستهدف " إخضاع النساء" ومحاربة " النوع الاجتماعي" و"المساواة"، ولذلك عملت الأستاذة فاطمة المرنيسي منذ عدة سنين (1991) إلى دعوة النسويين إلى دراسة جادة للتعاليم الإسلامية، لا أن يتركوا تبيان تلك التعاليم بالكلية إلى قراءات متزمتة وكارهة للنساء، كما أن الشيء المثير للانتباه هو أن خطاب الواعظات وحركاتهن المعوية من داخل دور العبادة وغيرها لا يستمد مرجعيته من الموروث التقليدي لمؤسسات القرابة كمؤسسات سابقة على الحداثة، ولا من الدولة كمؤسسة حديثة، إنما عملت على شق خط ثالث دخل في مواجهة مع الخطين التقليدي والحداثي باسم السلفية، ويستمد مرجعيته من تعاليم المذهب الوهابي، مضيفا إلى تلك الإجراءات المجحفة ف ي حق المرأة ثقلا آخر يرنو خدمة الرهان السياسوي الإخواني الأصولي، ولذلك أقرت فاطمة المرنيسي بزيارة الأضرحة التي حاربتها الواعظات الأصوليات، معتبرة إياها في خطبهن بأنها "سلوك الشرك والبدعة والضلالة"، وذهبت فاطمة المرنيسي إلى أن زيارة الأضرحة ظلت تمد النساء بالمساندة العاطفية والنفسية، وبحيز مكاني يجهرن فيه بشكواهن، وبمناسبة للوقوف مع النفس وتحليل مشكلاتهن الشخصية، ولكن النساء حينما يغشين المحاريب في إشارة إلى الواعظات الداعيات" فإنهن يستنفذن كل جهودهن لجعل القوى الخارقة تؤثر لصالحهن في الهيكل القمعي، وهذا لا يغير في شيء من هيكل السلطة الرسمية في العالم الخارجي." ولذلك تستنفر الداعيات الواعظات كل قواهن وجهودهن بحمل خطاب الفحولة المتقدس عن الوعاظ الأصوليين الذين يتسمون ويتصفون بسمات وصفات "العلماء" لتغطية سمات وصفات الفحولة المنتصبة و المتشنجة، وللإيحاء للآخرين بأنهم تخلوا عن المقاييس البشرية من " ذكورة وأنوثة" وأصبحوا يتحدثون باسم "الرب"، مع العلم أن الكثير من هؤلاء ومنهم خطباء جمعة يتلبسون لبوسات جنسية متوحشة تجاه زوجاتهم، نتحفظ خجلا من ذكرها في هذا المقام، وفي هذا الصدد تسجل عالمة الأنثربولوجيا" آن بتريدج" أن إحدى الواعظات في جلسة موعظة نسائية" أنذرت أي امرأة لا تجيب طلب زوجها أن توفر له المتعة الجنسية بأنها سوف تعلق من ثدييها في جهنم، وتعقيبا على ذلك الوعظ المنطوي على كره النساء همست شابة في أذن جارتها: " وإذا لم يجب الرجل زوجته إلى طلبها هي ذلك، مم يعلق؟" وحينما كان يمنع النساء من الرقص أجابت امرأة صغيرة السن بسخرية:" وإذا كان الرقص خطيئة إلى هذا الحد فلماذا إذن يسمح للرجال بأدائه؟؟". ولهذا يمكن للملاحظ البسيط أن يلمس تقدمية المرأة التقليدية أمام أصولية المرأة الإخوانية، لتمسك المرأة التقليدية بهويتها، ولبراءة حركيتها الاجتماعية من أي رهان سياسوي ولا من أي طائفية متأسلمة ولا مزايدة، وليست هذه الحالة مقتصرة على المغرب بل هي ظاهرة مغاربة تشترك فيها الهوية النسائية لشمال إفريقيا، وذلك ما تؤكده السيدة" بثينة شيرييت" من الجزائر، وهي أستاذة سوسيولوجيا التعليم بمؤسسة" بروكينجر" في واشنطن العاصمة في قولها: " حضرت في عام 1993 طقوس رقصة الغيبوبة، أو الاستغراق الذهني التي يطلق عليها"بنجا" في مدينة " تبسا" التي تقوم بها جماعة" تيدجانيا" وهي الفرع المتبقي من الطائفة الإسلامية الإفريقية الكبيرة التي كانت تقوم بأداء هذا النوع من الرقص من أجل الشفاء، وتعتمد رقصة " بنجا" على فريق طبول عالي التنظيم،،يصاحب الابتهالات الدينية التي تحتفل بالنبي محمد، وتؤدي دقات الطبول إلى دخول الراقص في " إغماء تحرر"، والأمر المثير للدهشة بالنسبة لأداء رقصة" البنجا" هو وجود حضور مختلط: رجال ونساء، شباب وكبار، كلهم معا أمام قارعي الطبول، وتضم قياداتهم امرأة عجوز تتلو الابتهالات الدينية ويقوم الرجال والنساء على التوالي بأداء الرقص..."، وتضيف الأستاذة "بثينة شيرييت" بالقول: " واليوم تهزني هذه الصورة للبنجا كانعكاس قوي للنقاشات الدائرة في الجزائر حول نوع الجنس، وذلك في إطار إشكالية بناء الأمة ومشروعية الدولة الجديدة." وما يعطي الأمر أهمية أكبر هو أن حرية المرأة وحقوقها والمطالبة بمساواتها لا تتوقف عن كونها قضية ذهنيات أصولية متأسلمة فحسب، بل باعتبارها أسيرة الأنظمة السياسية الديكتاتورية، والتي جعلت من المرأة ورقة للمتاجرة والمقايضة السياسية، مع القوى الرجعية المعادية للمرأة، وهو ما نلمسه بوضوح في توافق "رؤية النظام البوليسي" مع "رؤية الحركات الأصولية" تجاه المطلب المساواتي للمرأة، وأكبر مثال على ذلك يطل علينا برأسه الشامخ من مصر، فقد " كان رد فعل نظام أنور السادات(1970-1981) ثم نظام حسني مبارك منذ ( 1981 ) على الأزمات التنموية والسياسية هو التخلي، أو الامتناع عن الدفاع عن الالتزام السابق بنسوية الدولة، كما أن الدولة كونت تحالفات مع الجماعات الإسلامية، في أوائل السبعينات وأوائل الثمانينات وأعطت تلك الجماعات الحرية في نشر مفاهيمها المحافظة للأدوار والعلاقات النوعية على الملأ، وعندما توترت العلاقات بين النظام وخصومه الإسلاميين لجأ كل من الطرفين إلى قوانين أحوال الشخصية كمناورة ينجو بها من الأزمة السياسية." هكذا إذن تصبح المرأة وحقوقها ورقة للمناورة والمتاجرة السياسية في ضبط العلاقات والموازنة بين الأنظمة البوليسية والحركات المتأسلمة، وهو ما تؤكده الأستاذة "بثينة شيرييت" في النموذج الجزائري في قولها: "... ونجد أن نفاذ المرأة في الجزائر إلى ميدان العمل العام- أي تمتعها بحقوق المواطنة- يخضع لديناميات خاصة، ولنضع في اعتبارنا دخول المرأة إلى مجال العمل العام المحبذة بوجه عام، مثل التعليم والصحة والخدمات، إن الدولة لا تمنح تلك المجالات باعتبارها حقوقا " دستورية" ولكنها تستخدم هذا المنح باعتباره " معروفا" والجدير بالذكر أن غالبية النساء يدركن على هذا النحو على كل حال رغم أنهن يواجهن سياقا اجتماعيا كارها إن لم يكن عدائيا، وفي المقابل من المتوقع أن تقبل النساء مكانة ضعيفة وغير مناسبة كمواطنات، وذلك بقبولهن الاستبعاد عن عمليات اتخاذ القرار الأساسية...". وأمام إحساس المرأة والحركة النسائية بالرعب من الحركات المتأسلمة كمهدد للحقوق النسائية ومعادي لمطالب المساواة تواصل النسويات في الجزائر مطالبتهن بتدخل الدولة من أجل وقف التصاعد الإسلامي، وتطبيق نموذج المواطنة في إطار جمهورية ديمقراطية، وتضيف الأستاذة بثينة بالقول: "ولكن مشروعية الدولة قد تقوضت لدرجة خطيرة من خلال تصاعد الدعوة العالمية لثورة إسلامية عامة، في محاولة أخيرة للإستيلاء على السلطة السياسية...". إن مطلب المساواة الذي نعتبره مطلبا عادلا وضروريا لا يتحرك في فراغ، إنما تزداد أهميته وقوته أنه يتحرك في ظل التحديث وبناء الدولة الديمقراطية الحديثة والأسرة، ومما يضاعف جبهات مصارعة الحركة النسائية هو أنه يتم تغليف الهجوم على المرأة ومعاداتها باسم الدين وباسم الله تعالى – وهو بريء من ادعاء الأصوليين الوهابيين- والذين يغلفون هذا الخطاب الإخواني العدائي للمرأة باسم" الوعظ والواعظات"، مستغلين" قناة السادسة" وإمكانياتها، و"مؤسسات وزارة الأوقاف" و"المجلس العلمي الأعلى" و"المجالس العلمية المحلية"، مع أننا لا نتردد في القول بأن النصوص الدينية الكلية والقرآنية بالأساس تقر مساواة المرأة للرجل في الإنسانية والحقوق، التي هي الأصل الفقهي للبناء التشريعي فيما يتعلق بقضايا المرأة وحقوقها، من منطلق الخلق الإلهي للرجل والمرأة من نفس واحدة مصداقا لقوله تعالى: " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء."(وهذا ما يدحض مسألة خلق المرأة من الضلع الأعوج) ونحن نؤكد على اتخاذ النص القرآني هو المرجع والأساس الفقهي للبناء التشريعي لحقوق المرأة، وليس الانطلاق من تجارب معينة، كما هو الحال في خطاب الواعظات، إذ كلما ووجهن بسؤال الحقوق النسائية يلجأن إلى الاستدلال بنماذج نسائية مثالية من قبيل السيدة مريم العذراء، والسيدة آسية...، وزوجات الرسول وأهله، وهذا في نظرنا لا يعدو عن كونه مراوغة مردودة، يستحيل أن تكون جوابا علميا مقنعا وقانونيا منصفا للمرأة،لأن هذه النماذج التي يتم الاستدلال بها لا تشكل قاعدة نسائية في المجتمع الإسلامي،بل هي تشكل " صفوة" النساء، كما أنهن يعتبرن من " فضليات النساء" ومن "أعيانهن"، وبناء عليه فقد ظلت هذه النخبة "استثناء" فحسب وبذلك فإنها لم تقدم ولو جوابا فقهيا وتشريعيا لإخراج المرأة من مظلوميتها، وحينما أشرنا في مقامنا هذا إلى مخاطر " الخطاب الإسلاموي" العدائي للمرأة المتستر خلف خطاب الواعظات، ونبهنا إلى أن هوية المرأة المغربية أكثر تقدمية من مخاطر الخطاب الوهابي الذي تروجه الواعظات من داخل مؤسسات وزارة الأوقاف ومساجد المملكة، لكن قدر المرأة ليس هو أن تتقاذفها الأضرحة التقليدية والأبواق الوهابية الظلامية، إنما هي في حاجة إلى تشريع مدني قانوني حداثي مؤسساتي يبوئها مكانتها اللائقة بها، لكننا نقول أيضا بأن التشريع القانوني المنصف للمرأة ليس هو الهدف النهائي، ما دامت جيوب المقاومة متعددة العناوين، تارة تتقدس باسم الرب عز وجل، وتصف الحركة النسائية ب " جاهلية القرن العشرين"، وتارة تتوسم ب " السمات الأخلاقية" لتصف الدعوة إلى المساواة ب "حركة منحرفة للدعارة والفساد"، وتارة تدعي العلم لتصف معارضيها ب "الجهل والأمية"، وتارة تزايد في " الوطنية والمواطنة" لتصف الآخرين ب " العمالة والخانة وحبك المؤامرة، كما عمل هؤلاء في تهجماتهم الباطلة على المواطنة المؤمنة الغيورة الفاعلة الصادقة المغربية والعالمية السيدة " عائشة الشنا" التي أقسم صادقا أني وجدتها امرأة صادقة في عملها ، ومؤمنة خالصة في خطابها وسلوكها، إلى درجة أننا لو جمعنا واعظات المشرق والمغرب على أن يساوين خصلة من خصالها ، أو أن يبلغن رجحان كفة من كفات جهادها الاجتماعي الأعظم ما بلغنه حقا، في الوقت الذي تصدت فيه السيدة لالا عائشة لمنهج المرأة المغربية العملي والفعال، في الوقت الذي تصدت في الواعظات المتأسلمات لمنهج الخطابة الأجوف والأصلع الذي يوافق المنهج المشرقي القائل " جعجعة ولا أرى طحينا".