انفطر قلب "ليز هو" حين أدركت أنها تتمكن من معرفة مدى قربها من منزلها من لون الهواء.. قادمة من مدينة "تيانجين" نحو "بكين" الأسبوع الماضي، كانت "ليز" تقود بسرعة 140 كيلومتر في الساعة، حابسة أنفاسها وسط أفق ضبابي طباشيري أبيض، وهواء رمادي كالفحم يصعب استنشاقه. تقول "ليز": إنه أسوء ثلوث جوي عرفته "بكين" على الإطلاق. تركت "ليز" اليوم ابتنها حبيسة البيت دون مدرسة، وزوجها بسعال حاد، متأسفة كونها لا تملك خيارا لترك العمل، مؤكدة: "لو كان لدينا فرصة إيجاد عمل في مكان آخر، لهربنا أنا وزجي فورا من بكين". السنة الصينيةالجديدة التي بدأت الأحد الماضي، تتزامن عادة مع سماء زرقاء صافية وسيارات مزينة تخرج من العاصمة صباحا، حيث تقفل المصانع أبوابها ويغادر العمال إلى عطلة رأس السنة. هذه السنة على عكس العادة، عرفت الصين دخان ضبابيا كثيفا، جعل السلطات المكلفة بالبيئة ترسل رسائل نصية إلى سكان بكين تحثهم على الامتناع عن التقليد الصيني الذي اعتادوا خلاله أن يضيئوا سماء بكين بالألعاب النارية. هكذا عرفت "بيكين" خلال الشهر الماضي نوبة طويلة من التلوث الكثيف للهواء، انكشف قليلا ثم عاد أشد كثافة وانتقاما ليوم واحد الأسبوع الماضي ، فيما يسمى "إيرپوكاليپس"، أو "إيرماڭيدون" من طرف مستخدمي الإنترنيت، على أساس أنه يوم قيامة أو فناء لشدة معاناة الناس من تلوث الهواء. وفي ذلك اليوم لوحده، كان مستوى تلوث الهواء أعلى 30 مرة من المستويات التي تعتبرها منظمة الصحة العالمية آمنة للتنفس العادي للبشر. وقد ألغيت بسبب ذلك الرحلات الجوية، وأغلقت الطرقات، وذكرت إحصائيات أن مستشفى في شرق بيكين عالج أكثر من 900 حالة لأطفال يعانون من ضيق التنفس: "كان هواء بيكين في ذلك اليوم أسوء من قاعة تدخين المطارات"! أكثر جانب مهدد في الدخان هو التركيز العالي لغاز "پي إم 2.5" : تركيبة من جزيئات النيترات والسولفات، وهو عبارة عن جسيمات صغيرة بما يكفي لتخترق الرئتين بعمق وتدخل إلى مجرى الدم، وتسبب التهابات الجهاز التنفسي، وسرطان الرئة، والربو، وأمراض الأوعية الدماغية، وخللا في نمو الأطفال. وقد قدرت منظمة الصحة العالمية أن تلوث الهواء يتسبب بمليوني حالة وفاة سنويا، %65 منهم في آسيا. تقديرات المنظمة أمام الكتلة الدخانية الخطرة صحيا ومعنويا على ساكنة الصين سببت استياء شعبيا عارما اتجاه إستراتيجية الحكومة التنموية السريعة، غير عابئة بما قد يترتب عنها من إنهاك الطبقة العاملة وتلوث الجو بسبب كثرة دخان ومخلفات المصانع السامة.. وأمام عجز العاملين عن الاستقالة للتعبير عن معارضتهم لهاته الإستراتيجية وعدم قدرتهم علي تغيير الوضع، امتزجت أحاسيس ساكنة الصين بين الغضب والخوف من المستقبل. وقد اكتسب رمز "پي إم 2.5" في الصين وزنا اجتماعيا موازيا لمعناه الطبي/ البيئي، حيث أن شباب الصين مستخدمي المواقع الاجتماعية باتوا يعبرون عن سخطهم اتجاه هذا التلوث بنشر صورهم مرتدين أقنعة الوجه لترشيح الهواء: بين القناع الوردي الأكثر شعبية، والآخر الشبيه بوجه الپاندا.. ووصل تفاعلهم مع هذه الظاهرة لدرجة أن مهرجانا موسيقيا استضافته "شانڭاي" أسموه: "پي إم 2.5"، لتحسيس الساكنة بخطورة هذا الغاز ولإيصال الرسالة للمسؤولين. وأنتجوا ڤيديو على موقع اليوتيوب بعنوان: "بيكين بيكين.. نسخة هالة الضباب".. حيث صوروا شخصا يبحث في الضباب، وآخر يبكي، وآخر يغمى عليه، وآخر يموت، وآخر يسير بسياراته على طول النفق الضبابي الذي يخنق الطرق السريعة"! يقول الخبراء إن سبب هذا التلوث هو الموجة الباردة التي هفت على بيكين، والتي اضطرت الساكنة إلى استخدام الكثير من الفحم قصد التدفئة، فانعكست هذه التيارات الحرارية النادرة على الهواء، وانحصرت في غطاء من الهواء الدافئ شكل تلك الكتلة الضبابية. آخرون يقولون أنها فترة من الرطوبة العالية التي مرت على بيكين، حاصرت جسيمات الدخان في الهواء.. محاولين بذلك أن يغطوا عن كون المصانع وما ينفذ منها من دخان سام هو السبب الحقيقي للأزمة! اتخذت حكومة بلدية بيكين خطوات متأخرة للحد من التلوث، بإيقاف المصانع والسيارات الحكومية من الطرق السيارة مؤقتا. بينما استخدمت السلطات الدعاية الإعلانية لطمأنه الساكنة بتقارير جوية مغايرة بعض الشيء للحقيقة، خوفا من أن تثار اضطرابات شعبية، بينما سمحت للصحف المحلية بالتعليق عن الأزمة بحرية. وصمم مكتب شنغاي لحماية البيئة شخصية كارتونية لفتاة صغيرة بعينين كبيرتين وشعر أخضر تبتسم وهي تقرأ مؤشر الجو: "ممتاز".. ويتحول شعرها إلى اللون البني وتبدأ بالبكاء حين يتحول المؤشر إلى: "ضبابي دخاني".. لإقناع الأطفال بالمكوث في البيت وعدم الذهاب إلى المدرسة!