غالبا ما تتيح الجلسات الثنائية بين أعضاء لجان المجلس الأوروبي واللقاءات غير الرسمية الفرصة للتداول في بعض من المواضيع المثيرة. وفي لقاء جمعني صُدفة مع ديبلوملسي روسي في المقهى المجاور لبناية المجلس الأوروبي خلال انعقاد الجمعية العامة في أواخر السنة الفارطة، بادرني "الرفيق" الروسي بالسؤال عن الربيع العربي وعن المد الإسلامي في البلدان العربية وتهديده للديمقراطية في العالم حسب قوله. في خضم تبادل الرأي وإدلائي ببعض الشروحات حول ما يجري في مصر بالخصوص، انتقل بنا الحديث إلى الشيشان ثم إلى الوضع في روسيا بعد عودة بوتين. لم يُمهلني رفيقي الروسي أن أُكمل سؤالي وانفجر على عادته في الاجتماعات الرسمية غاضبا يتكلم عن مؤامرات الغرب ضد الديموقراطية الروسية وعن خطر الالحاد وارتفاع عدد المُلحدين في روسيا متهما إياهم جميعا بالفلول وبأعداء دين الله حسب تعبيره الحرفي. بدا لي الرفيق الروسي في لحظة من اللحظات وكأنه أحد زعماء الإخوان المسلمين يتهم المتظاهرين ضد الرئيس مرسي بالفلول وأعداء الديموقراطية، أو بزعيم جماعة إسلامية سلفية متطرفة يتكلم عن خطر الإلحاد والملحدين العلمانيين على الأمة الاسلامية وعلى شرع الله. بذهول واستغراب لما سمعته سألت الرفيق الروسي أن يشرح لي العلاقة بين كل هذه العناصر وعن علاقة الإلحاد والملحدين بالاستقرار وبالتوتر والاحتقان الاجتماعي والسياسي الذي تأجج في روسيا بعد عودة الرئيس بوتين. لكن الرجل أجابني بوثوقية غريبة قائلا " النظام الشيوعي السابق أسس في روسيا وغيرها دينا جديدا يقوم على الإلحاد ومعاداة الله ومنع الكنيسة وكل الأديان ، وقتل بذلك الحرية التي ادعى أنه جاء بها والمساواة التي كان يعتبرها من ركائزه. جواب الرجل الذي يحمل دكتوراه في البيولوجيا ويُزاول العمل الديبلوماسي منذ العهد السوفييتي، وكان عضوا في الحزب الشيوعي السوفييتي صدمني بقدر ما أثار فضولي لفهم عمق ما يريد الرجل أن يشرحه وتفكيك ألغاز رسائله النابعة من تجربة معاشة في ظل النظام الشيوعي السابق ، وسألته عن معنى أن يهدد الالحاد الديموقراطية وهذه الأخيرة متهمة من طرف الجماعات الدينية بأنها من صنيعة العلمانيين والملحدين ؟ أسئلتي أضحكت الرجل وأجابني بنفحة استهزائية "الاسلام والإلحاد حليفان كما هم المسيحية والالحاد وجميعهم يحاربون الديموقراطية والحرية وما عليك إلا أن ترى ما يحدث في الشرق الأوسط حيث المسيحيون مهددون من طرف الملحدين والمسلمين على السواء، وان إسبانيا التي تُمثلها اليوم في هذا المجلس سبق أن طردت أجدادك من المسلمين واليهود بذريعة أنهم ملحدون (باغانوس Paganos (" . حاولت أن أتمالك نفسي من الضحك أو الصراخ وسألت الرجل ‘عن جدية ما يقول وأن الواقع يشير إلى عكس ذلك وأن العلمانيين متهمون بغير وجه حق من طرف الأصولية بأنهم ملحدون وأنهم متهمون بالتحالف مع أقباط مصر ضد الإسلام، وأن ليس كل الجماعات والأحزاب الاسلامية أصولية، شأنها شأن الأحزاب المسيحية في أوروبا، وأن الاستيلاء على السلطة عبر الديموقراطية وصناديق الاقتراع للقضاء على الديموقراطية والحرية الفردية لايبرر استمرار أنظمة شمولية ديكتاتورية ، كما أنها لا تختلف عن تلك التي تحاول الوصول إلى السلطة في سوريا وغيرها عبر السلاح و تتهم النظام السوري حليف روسيا بالعلماني المُلحد. لم يكن رفيقي الروسي يُعير اهتماما لشروحاتي بقدر ما كان يتأهب من جديد لإعادة تحليله للعالم الذي بدا لي أنه لا يخرج عنده عن الصراع بين الايمان والإلحاد ولو أنه استفزني بتفسيره للإلحاد الذي أسهب في شرح أخطاره على الحرية باسم مواجهة التطرف الديني وهي نفس الأخطار التي تهدد الديموقراطية من طرف حماة الدين والإيمان وكلاهما يؤديان إلى أنظمة شمولية .. تقتل الانسان. أعترف أنني انتبهت خلال حديثي الشيق مع الرفيق الروسي أن تحاليله لا تخلو من بعض الصواب، وفهمت أن الذي يُميز الديكتاتوريات في العالم أنها كلما رأت رياح التغيير و الديموقراطية تقترب وتهدد وجودها إلا وسارعت لصنع صورة للخصم قابلة للتسويق في مجتمعاتها من قبيل توزيع تهم الإلحاد أو الأصولية المتطرفة ونعت كلاهما بالتآمر ضد الوطن أو بعدو الله. مثل هذه الأنظمة لا تختلف عن معارضيها الذين يحاولون الاستيلاء على السلطة بدل تداولها الديموقراطي، وفي ذلك يلتقي نظام بوتين القيصري بالسوري الذي يدعي العلمانية وبمعارضيه من الجيش الاسلامي الحر أو بنظام آيات الله في إيران . كل هؤلاء يلتقون في تبرير حكمهم ومصالحهم البعيدة عن مصالح الشعوب وفي استعمال العنف في الوصول أو الحفاظ على السلطة رغم تباين مواقعهم واختلاف الايديولوجيات التي يبنون عليها نظام سلطتهم. الخلاصة أن الديموقراطية لم تكن منذ اكتشافها مرادف لإديولوجية بعينها بقدر ما كانت حامية لتعايش الايديولوجيات والتداول على السلطة، والإسلام لم يكن يوما عدوا للديمقراطية بقدر ما كان ثورة على الاستعباد ، كما أن العلمانية ليست مرادفا للإلحاد بقدر ما هي إطار لحوار الأفكار على مائدة العقل وتعريتها من رداء القداسة الذي يُغطيه به أعداءها، وعين العقل التوافق على دساتير تُنظم العلاقة بين البشر لأن الله لايحكم بذاته ولكن عن طريق بشر لهم مصالحهم وأخطاؤهم التي لا بد من تنظيمها، ويحضرني في هذا السياق قوله تعالى في سورة يونس(99) " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تُكرهُ الناس حتى يكونوا مؤمنين" صدق الله العظيم.