عندما نطّلع على الأرقام التي نشرتها في 2011 الهيئة الوطنية لحماية المال العام، والتي تخص فقط السنوات العشر من 2000 إلى 2010، حول حجم اختلاسات المال العام التي طالت العديد من صناديق الدولة ومؤسساتها الوطنية، وحول هيمنة الفساد كقاعدة مسطرية "عادية" في إجراءات الصفقات العمومية التي يكون موضوعها مبالغ تقدر بالمليارات، وحول عشرات آلاف الهكتارات من أراضي الدولة التي فُوتت كريع إلى شخصيات سياسة وحزبية معروفة، قد نصاب بالدوخة والدوار، ولا نكاد نصدّق كيف أن أشخاصا طبيعيين يسرقون لوحدهم أموالا يبلغ حجمها ميزانية وزارة بكاملها، ودون أن يتعرضوا لأية مساءلة أو حساب أو عقاب. وبالفعل، فسياسة اللاعقاب هذه هي التي تعطي للفساد بالمغرب ميزة خاصة ينفرد بها، لأن الفساد قد نجده حتى في الدول الأكثر تقدما وديموقراطية، ولكن الفاسدين يُضبطون ويقدّمون إلى العدالة ويحاسبون طبقا للقانون، وهو ما يجعل انتشاره بهذه البلدان محدودا. فهذا اللاعقاب هو الذي جعل من الفساد قدَرا مغربيا، ليس لتفاقمه وتغلغله داخل كل أجهزة الدولة ومؤسساتها، بل لأنه تحوّل، لغياب المساءلة والحساب، إلى سلوك عادي وطبيعي، يمارس بكل جرأة وثقة وطمأنينة، ولا يثير تذمرا ولا استياء، ولا يسبب إحراجا ولا إزعاجا. واستمرار هذا الفساد في التنامي والاستشراء، يقدم الدليل للحالمين والمثاليين والمغفلين أن الفساد بالمغرب ليس ظاهرة ظرفية خاصة بعهد قديم أو جديد، ولا مرتبطا بحكومة يمينية أو يسارية أو إسلامية، ولا حكرا على أحزاب رجعية أو تقدمية، ولا حالة يمكن محاربتها بتغيير في التشريعات وسن قوانين زجرية صارمة، بل هو سلوك، وثقافة، وطبيعة ثانية، وقناعة، وعقل، وفلسفة وذهنية… ومن هنا فهو ظاهرة راسخة مترسخة، أصيلة متأصلة، عميقة ومتجذرة لا يزعزعها عهد جديد ولا قديم، ولا يمين ولا يسار، ولا علمانية ولا تيوقراطية، ولا احتكار للسلطة ولا تناوب عليها، لأنه أصبح بالمغرب، وبكل بساطة، ركنا جديدا رابعا من أركان الدولة، ينضاف إلى الأركان الثلاثة التقليدية المعروفة: الأرض، الشعب والسلطة. هذا الاستفحال المهول لآفة الفساد يكشف أن الدولة بمفهومها الحديث غير موجودة بالمغرب، بل توجد دولة بمفهوم آخر. لأن الدولة هي أصلا تنظيم سياسي مهمته الأولى هي حماية المال العام ومراقبة الطريقة التي يجبى ويصرف بها، وليس اختلاس هذا المال أو تبديده في ما لا يعود بالنفع على المجتمع. فهذه الأرقام الفلكية، التي تخص 135 مليار درهم و5250 هكتارا من الأراضي، كحجم للاختلاسات والتلاعب بالمال والأراضي العامّين، تشبه، بضخامتها وكِبرها، عجائب وغرائب قصص "ألف ليلة وليلة" حيث كل شيء فيها سريالي يقفز على الواقع ويضخّمه ويزيد فيه. أرقام تبدو حقا خيالية وسريالية، لكنها، عكس قصص "ألف ليلة وليلة"، حقيقية وواقعية. اختلاسات وتبديدات قد تفوق مبالغُها، إذا ضُمّت إليها القيمة المالية للآلاف من الهكتارات التي وُزعت على النخب السياسية الفاسدة والريعية، وأضيفت إليها 14 مليار درهم التي تهرّب سنويا إلى الخارج (يومية "الأخبار" ليوم 11 01 2013)، واحتسب المجموع على مدى أربعين سنة الأخيرة وليس فقط منذ 2000 إلى 2010، (قد تفوق) ديونَ المغرب الخارجية وتتجاوز أضعاف المرات ميزانية الدولة لأكثر من سنة! إنه لشيء صاعق وصادم ومؤلم. ورغم كل هذا النهب لمال وأراضي الدولة بحجم ميزانيات لدول صغيرة، ومنذ عشرات السنين، فلا تزال الميزانية العامة قادرة على أداء أجور موظفي الدولة، ولا تزال المرافق العمومية تشتغل بشكل عادي. وهذا يعني أن المغرب من أغنى بلدان العالم لأنه استطاع، ولمدة طويلة، أن ينفق، وبميزانية واحدة، على دولتين: الدولة الشرعية والدستورية من جهة، ودولة اللصوص ومختلسي المال العام من جهة ثانية. ألا يدل هذا على أن المغرب من أغنى دول العالم؟ فلو أن هذه الميزانية الثانية "المرصودة" لدولة الفساد والريع والنهب والاختلاسات، أنفقت في الرفع من مستوى التعليم وتحسين الخدمات العمومية وتحديث الدولة وتأهيل المواطن المغربي، لكان المغرب لا يختلف في شيء عن ألمانيا، أقول ألمانيا ولا أقول إسبانيا التي بها يقارن الكثيرون المغرب، عندما يتحدثون عما كان يجب أن يكون عليه ويصل إليه. إذا كان الفساد، الذي أوردت الهيئة الوطنية لحماية المال العام أرقامه المهولة، هو فساد يحرّمه القانون وبعاقب عليه، فلا يجب أن ننسى "الفساد المشروع"، أي الفساد الذي ينظمه ويحميه القانون، مثل التعيين في المناصب الحكومية ذات الأجور الكبيرة، وفي الوظائف السامية في مؤسسات يحصل فيها أصحاب هذه الوظائف على رواتب وتعويضات عالية مقارنة مع مستوى المعيشة والأجور بالمغرب، وذلك ك"مكافأة" و"ريع" و"رشوة" على المشاركة في لعبة الفساد و"التناوب" عليها، والتي بلغ فيها هذا "الفساد المشروع" قمته مع حكومات "التناوب" الذي أبدى أصحابه شرهاً غير مسبوق ل"الأكل" من هذه "الرشوة المشروعة" التي وجد فيها المخزن أداة فعّالة لإفساد ورشوِ من كانوا ينددون بالفساد والارتشاء طيلة نصف قرن من "المعارضة"، كما وجد فيها هؤلاء ضالتهم التي كانوا يبحثون عنها و"يعارضون" في سبيلها و"يناضلون" من أجلها. فمع وصول "المعارضة" إلى الحكم "التناوبي"، انتصر واكتمل نظام الفساد بالمغرب حيث أصبح دائرة مغلقة بإحكام تتحول داخلها الأسباب إلى نتائج والنتائج إلى أسباب. وقد لا يختلف الأمر مع حكومة الإسلاميين الحالية في تعاملهم مع الفساد الذي بدأوا يألفونه ويقبلونه ويستمرئونه شيئا فشيئا. ونتخوّف، وخصوصا بعد أن طمأن رئيس الحكومة السيد بنكيران الفاسدين والمفسدين بعدم متابعتهم إعمالا لمبدأ "عفا الله عما سلف"، أن يعرف هذا الفساد "نهضةً" جديدة في عهدهم، يتجاوز بها المستوى "المتقدمَ" جدا الذي كان قد وصل إليه في عهد حكومات "التناوب" السابقة، تماما مثلما تجاوز هذا الفسادُ في عهد هذه الحكومات الأخيرة، وبمسافات طويلة، المستوى الذي كان عليه في عهد حكومات "الأحزاب الإدارية". هكذا تكون الحكومات المتعاقبة على تسيير شؤون المغرب، لا تتنافس على تنمية البلاد وازدهارها بقدر ما تتنافس على تنمية الفساد وازدهار سياسة الريع. إن حجم الاختلاسات والنهب والتلاعبات بالمال العام الذي تطالعنا به من حين لآخر لجن تقصي الحقائق بهذه المؤسسة أو تلك، يعطي الدليل، مرة أخرى، على أن الفساد بالمغرب أصبح، ومنذ مدة ليست بالقصيرة، جزءً من نظام الدولة المغربية وركنا من أركانها كما قلنا، وبالتالي فإن القضاء على هذا الفساد يعني القضاء على نظام الدولة المغربية نفسها. وهذا ما يفسر المقاومة الشديدة لكل إرادة حقيقية أو إجراء جدي لمحاربة ظاهرة الفساد، حيث إن الملفات تقف عند حدود "الشواش" وصغار الموظفين ولا تتعداهم إلى مساءلة المسؤولين والمستفيدين الحقيقيين من تفشي هذا الوباء الخطير.