التناول الإعلامي للمسائل هو يقينا غير التناول المعرفي الذي يقتضي مطارحات فكرية وثقافية عميقة تنأى عن إطلاق الكلام على عواهنه،ولقد وقفتُ على نوع من هذا الإطلاق في مقال السيد توفيق بوعشرين الموسوم ب"العدل والإحسان في مفترق طرق"،وإن مما يجب التأكيد عليه هو أن تناول أفكار وتصورات "العدل والإحسان" بالنقد والنقض ظاهرة صحية تسهم في إثراء النقاش،وفي رؤية النفس التنظيمية في مرايا الآخرين،لاسيما وأن الأمر يتعلق بعمل بشري لا يدعي الكمال ولا احتكار الحقيقة من دون الناس أجمعين،وبفهم نسبي لقضايا الدين والسياسة والدولة والتاريخ،وأنا أقرأ المقال المذكور أثبت عليه هوامش بحسب ما انقدح في النفس وقدرت عليه العبارة: نبدأ بقوله " مريد يخلف شيخه " والمعلوم هو أن كلمتي الشيخ والمريد تحيلان على حقل معرفي لا أظن أن السيد توفيق يجهله وهو حقل التصوف الذي ارتبطت به مصطلحات شكل بعضها متاريس مفهومية حالت دون النفاذ إلى حقيقة الكثير من مسائله، كما أن المسار التاريخي لتطور التصوف آل إلى تصوف تبرُّكي منعزل عن الشأن العام،ولم يتحرج القائمون عليه من تزكية السياسات الظالمة للمستبدين والمفسدين،وعُدِّي الوصف شيخ/مريد إلى المجال السياسي فنصَّب الحاكم نفسه شيخا يعقد ويحل،ولقد كرس الأستاذ ياسين رحمه الله الكثير من جهوده لزحزحة الجماهير عن الأنساق الثقافية والسياسية السلطوية التقليدية لعلاقة الحاكمين بالمحكومين وعلاقة العلماء بالناس، وتناول مثلا بالنقد الشديد مقولة ترددت كثيرا على ألسنة المتصوفة فقال"وقد يقول قائلهم: "يكون (أي المريد) بين يديه كالميت بين يدي غاسله". وهي مقالة خطيرة، لأنّ المريد لا يستطيع تمييز الشيخ الرباني من النصّاب الكذاب، فيسقط في يد نفس طاغية تلعب به كما تلعب بصاحبها"وحذر من "المتصدرين للإرشاد قبل الفطام، بل بدون أن يكونوا خَطَوْا خَطْوَةً واحدة على طريق الاستقامة، من يطيب له أن يخدمه الخلق، ويتزلفوا إليه، ويكثروا الخدمة في منزله، ويضعوا أموالهم تحت قدميه. وهكذا يَهْوِي التابع والمتبوع في دركات الخزي، يستعبد "الشيخ" الأتباع، وترتع نفسه المخبَّثَةُ في هواها، وتتخبَّثُ نفوسُهم، وتنشأ دويلات استغلاليَّةٌ جاهلية كانت في تاريخنا ولا تزال محطّات للتعفُّن الاجتماعي. إن سَلَّمْتَ نفسك لنفس لاصقة بالدنيا فلا تنتظر إلا المصيرَ الرديء في الدنيا والآخرة" (عبد السلام ياسين،الإحسان 1/235) قال:"هذا هو حال محمد عبادي، الرجل الأكبر سنا في مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان والعضو الأقل كاريزمية وسط قادة الجماعة" أقول:هذا القول يفترض في قائله أن يكون قد قام باستقراء وبحث ميداني واستطلاع للآراء،وهو ما لم نعلم أن السيد بوعشرين قد قام به،وما هو إلا تخرص ورجم بالغيب،وليس من الموضوعية في شيء بناء النتائج على انطباعات ذوقية وجدانية أو على تمنيات وتخيلات لا علاقة لها بالواقع إطلاقا،ولو انتخب غير السيد العبادي لقيل نفس الشيء "العضو الأقل كاريزمية" وهكذا وهكذا إلى انقطاع النفس. قال:"فهو نفسه ردد، أكثر من مرة، قبل اختياره أمينا عاما لأكبر جماعة إسلامية بالمغرب: «أنا رجل بسيط، ولا قدرة لدي على قيادة الجماعة»، وربما هذا هو «سر» اختيار العبادي خلفا للمرشد المؤسس عبد السلام ياسين. إنه رجل «توافق» واستمرارية لنهج المرشد إلى أن تتضح الأمور وسط التنظيم الذي لا يعرف عنه المراقبون من خارج الجماعة الشيء الكثير" كذا،أقول: "المراقبون" وبهذا التعميم المخل يختار المرء أسهل طريق للهزيمة لأنه يكفي أن نأتي بمراقب واحد لنبين تهافت المنطق البوعشريني،ولدينا عشرات المراقبين المغاربة والعرب والأجانب الذين يعرفون عن العدل والإحسان الشيء الكثير،ومن جميع المشارب الفكرية والعائلات السياسية القومية واليسارية والإسلامية فلم تغطية الشمس بالغربال؟ قال:"جماعة العدل والإحسان اختارت منطق «التغيير داخل الاستمرارية» ومنطق اللاحسم، أو الخوف من القفز في المجهول" أقول: كان الأجدى بالسيد بوعشرين ألا يقف عند ويل للمصلين،وأن يفصل القول في مصاديق هذا اللاحسم،هل يطال الجانب السياسي،أم التربوي الروحي،أم الاجتماعي،والذي يعلمه كل أحد حتى المبتدئون في علم الدين والسياسة أن أي تصور إنما يكتفي بتسطير الكليات وفي ضوئها يتم العمل وتستمر الحركة،دون أن يعني ذلك العدول عن التفصيل في الكثير من الأمور،ومنطق الحسم في واقع يشهد تغيرا بسرعة إهليجية هو منطق طفولي صبياني تجريبي يكرر الأخطاء ولا يستفيد منها. قال:"والتغيير الذي ظهر على وجه الجماعة بعد وفاة مؤسسها، أنها ألغت صفة المرشد. هذه الصفة التي تسبغ على صاحبها صفات استثنائية، وتحيل على صفات الأنبياء أو الصالحين الذين يرون ما لا يراه خلق الله" أقول:غريب،هذا ما دأبت عليه الجهات التي انخرطت في تشويه فكر الأستاذ ياسين رحمه الله فظلمته حيا،وها هو يُظلم ميتا،حبذا لو أتانا السيد بوعشرين بنص واحد من أدبيات المرحوم يشهد "لاكتشافه العظيم" الذي لا تسعفه للتدليل على صحته حتى اللغة،فوظيفة الإرشاد غير وظيفة النبوة أو الرسالة،ولو تجشم السيد بوعشرين مشقة البحث عن وصية الرجل لقرأ فيها " مرمى وصيتي هذه وغايتها أن يقف عليها مومن وتقف عليها مومنة يسمعانها بصوتي مسجلة أو يقرآنها مسطورة فيترحمان على ثاوٍ في قبره أسير لذنبه راج عفو ربه. تلك أولى المقاصد... لتشهد(الأجيال) يوم يقوم الأشهاد أن عبد السلام ياسين عبد مفتقر إلى عفو ربه مُقر بذنبه يشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد و لم يكن له كفؤا أحد"فأين إسباغ المرحوم على نفسه صفات استثنائية، وأين الإحالة على صفات الأنبياء أو الصالحين؟ يمكن أن نوافق السيد توفيق بشرطين: أن نلغي عقولنا أو أن نرطن بغير قواعد اللغة السليمة. قال:" مسؤولو الجماعة بدوا مرتبكين وهم يمارسون هذا التمرين لأول مرة منذ تأسيس العدل والإحسان قبل أكثر من ثلاثة عقود" أقول: أتصور أن الذي يقول هذا الكلام "لأول مرة" لا يعيش في المغرب،ولا يعرف "العدل والإحسان" إطلاقا،سنبدأ "بالخُشيبات": التنظيم من أدنى خلية فيه "الأسرة" إلى أعلى خلية "مجلس الإرشاد" قائم على الانتخاب،وهذا ليس خطابا تمجيديا لأنني لا أحبذه ولا أجيده بل حقيقة واقعية للسيد بوعشرين كامل الحرية في أن يتنكر لها حتى لا يُعكِّر عليه أحد صفو التصور النمطي الذي يملكه عن "العدل والإحسان". قال:"وعوض أن تختار الجماعة قيادة سياسية واضحة الرؤية والبرنامج والمشروع، اختارت قيادة مزدوجة «روحية» يمثلها العبادي وهو رجل بسيط جدا، وقيادة سياسية وتنظيمية يمثلها فتح الله أرسلان، وهو صاحب تجربة ومراس في آلة الجماعة. هنا يطرح السؤال: إلى أي حد سيستطيع القائدان معا الجلوس على مقعد القيادة والسير دون حوادث داخلية أو خارجية؟" أقول:لم أكن أعلم أن السيد بوعشرين يفضل مرشحا "عدليا" على آخر،وهو تطور لافت في سياق الحجاج "الفارغ" الذي لا ينبني على أي أساس، وقبل قليل أفادنا السيد توفيق بأن السيد العبادي هو الذي وصف نفسه بالبساطة، ثم عاد ليتبنى هو نفسه ذات الوصف "وهو رجل بسيط جدا" ،ربما يمتح السيد بوعشرين من المخيال الاستبدادي الذي لا يقدم القادة إلى على أنهم ملهمون. قال:"عائلة المرشد المؤسس غابت عن الندوة الصحفية التي أعلن فيها عن القيادة الجديدة. نادية ياسين، كريمة الشيخ التي ابتعدت منذ مدة عن الجماعة لاعتبارات تنظيمية (انظر قصة هذا الابتعاد في هذا العدد)، غابت عن مشهد ترتيب خلافة والدها، ومعها غاب زوجها عبد الله الشيباني، وغاب معهما منير الركراكي، صهر الشيخ الراحل، وهذا ملف حساس لا توجد الجرأة الكافية لدى قادة الجماعة للحديث عنه الآن" أقول:لو حضروا لدُبِّجت مقالات وخطب في الزبونية والمحسوبية والعائلية ،أما وقد غابوا عن الندوة بإرادتهم فإن في الأمر شيئا،"خط زناتي" لاشك. قال:"هناك دائما جدل وتأثير بين الشكل التنظيمي للجماعات والأحزاب والمنظمات وبين الخط السياسي، وهنا مربط الفرس بالنسبة إلى العدل والإحسان. هل التغييرات الجديدة التي حدثت على شكل التنظيم وثقافته ستسمح للأفكار والآراء والاجتهادات المختلفة للجيل القديم والجديد بالتفاعل والحركية، ومن ثم يقود هذا الأمر الجماعة إلى إعادة النظر في موقفها من النظام ومن العمل السياسي في إطار حزب معترف به، ومن ثم تخرج من قاعة الانتظار التي تجلس فيها، وتتفاعل مع المتغيرات الكبيرة التي تعصف بجميع دول الخريطة العربية؟" أقول: بلغة أخرى: أيها الضحية قم وقدم التحية لجلادك،واطلب منه الصفح والعفو والاعتراف بك،تحية للسيد منار السليمي: منع"العدل والإحسان" :"يجب أن تسأل عنه الدولة"، أما قصة الانتظار،فأسطوانة إعادة النظر في الموقف من النظام فأسطوانة مشروخة،و"المتغيرات الكبيرة التي تعصف بجميع دول الخريطة العربية" هي المشجعة على عدم إعادة النظر،والمثبتة لصواب الرؤية السياسية "للعدل والإحسان". قال:"في كل الأحوال، الجماعة في مفترق طرق الآن، وهي لا تستطيع أن تستحم في مياه النهر مرتين. هناك واقع جديد، وهناك مرحلة ما قبل وما بعد وفاة الشيخ" أقول:الشيخ سيدي فكرة،مات رحمه الله وستبقى أفكاره.