رسالة مفتوحة إلى السيد رئيس الحكومة الأستاذ عبد الإله بنكيران تحية طيبة، أما بعد، تحدثتم، طوالَ الشهور الماضية التي تقلدتم فيها مسؤولية رئيس الحكومة، من ثلاثة مواقع: تحدثتم بضمير المفرد المتكلم، فقلتم: فعلتُ وسأفعل، وبضمير الجمع الحاضر: فعلنا وسنفعل، وبظاهر الجمع الغائب: المغاربة يريدون والمغاربة لا يريدون. كل هذا بصفتكم رئيسا للحكومة. لله ذركم جمعتم المختلف وقربتم المتباعد. نريد، حفظكم الله، أن نعلم باسم من تتحدثون في المقامات المختلفة حتى يتسنى لنا ضبط خطابنا إليكم. فما يصلح أن نقوله من موقعنا البلاغي لحزب العدالة والتنمية الذي أنتم كاتبه العام، والناطق باسمه، لا يتطابق مع ما ينبغي أن نقوله للحكومة التي تنسقون عملها، وتصوغون موقفها الممثلَ لكل أطرافها، وما نكنه للحكومة من وجدان وأفكار لا يتطابق مع ما نَعُمُّ به الشعب المغربي الذي أنت فيه "مجرد" واحد من بضعة وثلاثين مليونا. لقد رأيتكم تتحدثون بكل الضمائر وبجميع الأسماء، وتنوبون عنا فيما فوضناه لكم وفيما لم نفوضه! لقد أربكتم مُحبيكم، أيها المحترم، وفتحتُم البابَ لكل مجترئ وقائل ومُتقوِّل ليصول عليكم دون أن يلام. وإليكم البيان: 1 حين تتحدثون عن العطاء والهبات بمناسبة صندوق المقاصة والدعم المباشر تقولون، مرة بعد مرة، ومن منبر وطني إلى آخر أجنبي: أستطيع، أو يمكنني، أن أُعطي كل مغربي قنينة غاز وأربح كذا من الملايين...الخ. وأستطيع أن أعطي كل أرملة كذا من الدراهم.. وأعطي ثمانية ملايين من فقراء المغرب كذا درهما في اليوم... وزِدتُ في منحة الطلبة كذا...الخ، وحين استأنستم بضمير المفرد المتكلم قلتم: "عفا الله عما سلف"، متنازلين عن حقوق الدولة، متجاوزين لسلطة القضاء! أعتقدُ أن الذي يُعطي هنا، بعد الله جلت نعمه، هو الحكومة، والحكومة تُعطي من أموال الشعب، وليس من مال رئيس الحكومة الذي هو عبد ضعيف مثلنا، يتقاضى أجرته من الدولة، ويتقاضى فوق الأجرة تعويضا عن السكن، برغم وجود سكن وظيفي معطل (أنصحه باستعماله حماية للمال العام والقدوة الحسنة). ولذلك فالضمير المناسب في العصر الحديث هو: "تستطيع حكومتنا أن تعطي..."، أو، على الأقل، نستطيع أن نعطي، لينصرف الضمير إلى الحكومة التي ستتضامن في تحقيق هذه الوعود داخل توازناتها. وينصرف، من وراء الحكومة إلى كل المغاربة الذين ستَفرضُ الحكومة مشكورة على الميسورين منهم مزيدا من الضرائب للوفاء بوعودها. إن تضامن المغاربة ليس منة من أحد على أحد. وإذا نجحت هذه الحكومة في رد فضل أغنيائهم على فقرائهم فسيكون أجرها عظيما في الدنيا والآخرة. فلا تحتكروا هذا الفضل وتحولوه إلى رصيد انتخابي، فذلك سيبطل الأجر مثل ما تَبطًلُ الصدقة بالمن والأذى. أتمنى ألا يكون استعمالُ ضمير المتكلم، في هذا المقام، استراتيجية مقصودةً لمحو الضمائر الأخرى، أتمنى أن يكون مجرد عطب خطابي من قبيل: "فهمت ولا لا"! 2 وحين تتحدثون عن السلب تقولون (في مجلس المستشارين): "لن نسمح لكم... " موجهين الخطاب إلى المعارضة، بل إلى مكون من مكوناتها بالتحديد، وتقولون عن هذا المكون أنه أدخل الناس إلى السجون، وتتحدونه بالنزول للشارع. تقولون هذا كلَّه داخل الحصة الزمنية المخصصة لرئيس الحكومة تحت قبة البرلمان، وليس في تجمع حزبي مغلق. يفهم من هذا السياق أن ضمير الجمع هنا يعود على الحكومة.. فهل نستنتج من هذا الحديث، يا سيادة رئيس الحكومة المحترم، أنكم نسقتم مع السيد أمحند العنصر والسيد حميد شباط والسيد بن عبد الله في كل هذه التهديدات والاتهامات؟ هل وافقوكم على النزول للشارع، مثلا، لمقارعة الأصالة والمعاصرة؟ محال! وهيهات! لا أصدق أنك تطمع في إنزال الحركة الشعبية إلى الشارع في هذه المهمة بالتحديد، ولا في أية مهمة! وإن نزلوا فإنهم ما إن يروا رفاقهم القدماء في G8 حتى يسحبوا الرمال من تحت قدميك. أما الرفاق التقدميون فالراجح أنهم سيلزمون أمكنتهم في الحافلة التي نقلتهم خطأ إلى ساحة المعركة حتى يأتي سائق جديد من تحت الغبار، سيقولون لك بكل أدب: "حْنا جايين نْكوْرُو ما جيين ندابزو على قلتْها فايدة"! إذهب أنت ولفيفك الحقيقي فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، إن نريد إلا الإصلاح ما استطعنا. وحين ينكشف غبار المعركة، وتنقلب راجعا بمن بقي معك من المجاهدين، وأنت في غاية الإنهاك، ستجد الفارس المغوار السيد شباط مدججا بكل الأسلحة، واقفا على فرسه الأدهم، وسيدعوك لمبارزة فردية Duel individuel. "إيوا هارا ما عندك!!". To be or not to be. كَرٌّ وفَرٌّ: "إن الحديدَ بالحديد يُفحُ Diamond cut diamond، لا نتمنى مثل هذه النهاية لمسار الأحداث في المغرب. هذه مجرد افتراضات تبدو مستحيلة، مُهمتُها هنا حجاجيةٌ صرفٌ: تدفع الاعوجاجَ إلى مداه لينفجر من تلقاء نفسه لتؤكد أنك لا تتحدث باسم الحكومة. إن ضمير الجمع الذي تقارع به البام خاصةً، والمعارضة عامة، قادم على هامش الشعور، وهو موجود بين الشعور واللاشعور. يراه "علم نفس الخطاب" رأي العين، ضمير الجمع الذي يُسخِّن الأكتاف هنا يستحضر جبهة أخرى ولفيفا آخر! فيه رجاءُ النُّصرة من "الإخوة في الله"، المعركة ستقع بين الأبيض حيثما كان، والأسود حيثما كان، وستأتي على الأخضر واليابس. وسيكون قطري بن الفجاءة ومن معه طرفا فيها. هل حقا هذا ما يُكنه ضمير الجمع أمام مجلس المستشارين؟ أيها المحترم، لا تنس حين تقف أمام الكامرات أنك واقف في كفة ميزان من ذهب أمام خبراء في كل الميادين، لا تنس أن القوى الديمقراطية تراهن على نجاح هذه التجربة. نريد، حفظكم الله، رئيسَ حكومة يكون حُجةً لنا على المخزن ورجال المخزن المتربصين، لا حجةً للمخزن علينا. ها هم يقولون: هل هذا هو رئيس الحكومة الذي تستطيع أن تضع أجهزة الأمن والدرك والمخابرات والقضاء تحت إمرته وتصرفه؟ ها هو يُصدر الأحكامَ على الهواء حسب هواه! لو كان له من الأمر شيء لكان اعتقل من كانوا "يدخلون الناس السجون"، فهو يعرفهم...الخ. نريد رئيس حكومة ببرامج وأرقام وأجندات في حدود ما هو متاح، المهم أن تُحترمَ عقولُها، نريد عقلانية وأدباً في الحوار يقمع كل متنطع متطلع للتهريج وقلة الحياء. أين قوله تعالى: "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه"؟ والمغاربة يقولون: "أوقر الشيخ من راسو". مؤلم ما قُلتَ، ومشين ما قيل لك. "تابوهاليت"، كما قال أحد الكتاب، وشرب الماء المغلي والجذبة حرفة أخرى غير حرفة الرئاسة. من شروط رئيس القوم عند القدماء أن يكون ثقيل السمع، أي "لا يُقعقعُ له بالشِّنان، ولا يُغمزُ جانبُه كتغماز التين". لا يمر الكلام من سمعه إلى ملامح وجهه وحركة يديه ورجليه قبل أن يزنه عقله ويلونه. لقد خرجت من "دائرة الحوار" فظلمت نفسك. أجمعتِ التعليقاتُ الصحفية خلالَ هذا الأسبوع على إدانة ما وقع، وهذا جميل. الصحفي الوحيد الذي فكر في التخفيف من مسؤوليتكم في واقعة الجمعة الماضية كان مضطرا لضرب قدسية الخبر، فقدم وأخر، وجعل النتيجة سببا: ابتدأ من قول من قال: هذا مريض تفو! قبل أن يُعرِّج على نصيبكم من المسؤولية. والواقع أن ترتيب الأحداث خلاف ذلك. وإذا كان الترتيب لا يبرئ أحدا فإن مسؤولية المبتدئ أكبر كما يقولون: "الشر بالشر والبادئ أظلم". كما الرئاسة والقدوة تضاعف المسؤولية، فالذي ترجى بركته لا يدخلها "بسباطه". (قوس: لا يخدش التعليق السابق احترامي للجهود التحديثية الملموسة التي بذلها وزراء من التقدم والاشتراكية بتبصر وشجاعة نضالية، أخص بالذكر الأساتذة سعيد السعدي ونزهة الصقلي والحسين الوردي الذي يخوض الآن معركة قاسية بصبر، وذلك برغم الخذلان الذي لاقوه من الحلفاء قبل الخصوم). 3 قرأت هذا اليوم (15/12/2012) في يومية أخبار اليوم عبارات منسوبة إلى جنابكم بمناسبة تبرير سحب اعتماد صحفي فرنسي (بروكسي) تتحدثون فيها بما ملخصه: المغاربة يريدون، والمغاربة لا يريدون. وقد ذكرتُم أن المغاربة يريدون الاستمرارَ في الطريقة التي عاشوا عليها منذ قرون، ويرفضون الحديث عن شيء اسمه حزب القصر، وصولا إلى تبرير سحب الاعتماد من الصحفي. أنتم، يا سيدي عبد الإله المحترم، تعرفون أن هناك هيئات وأشخاصا مغاربة احتجوا على سحب اعتماد الصحفي المذكور، كما احتجوا قبل ذلك، وأنت منهم، على سحب اعتماد قناة الجزيرة. وتحت ضغط الاحتجاج قدم وزيرا الاتصال الأول واللاحق عدة بيانات لم تقنع المحتجين. وأنت، يا سيدي، تعرف أن حزب البام شُبِّهَ، عند نشأته، بحزب "جبهة كديرة"، ولا شك أن الراحل لعفو الله، الدكتور الخطيب، قد شرح لك بالتفصيل الممل كيف تكونت الجبهة، ومَن جمَّع خيوطها وأطر تلك المجموعة التي كان الخطيب وأحرضان، إلى جانب كديرة، الأثافي الثلاثة التي وضع عليها قدرها الذي أفسد اللعبة السياسية في المغرب إلى اليوم. وحزب المخزن، أو القصر، كان لغة مشتركة بين المعارضة اليسارية والأصولية الدينية (أنا لا أقول الإسلامية احتراما للمسلمين غير المنتمين للتنظيمات الأصولية المحافظة). الكل كان يدين استعمال المؤسسة الملكية في الصراع الحزبي، ومعنى ذلك أنها مستعملة، والكل كان يفسر الانتشار الباهر ل"الوافد الجديد" بعلاقته مع القصر. وربما كان هذا العبد الضعيف أولَ من نبه إلى خطر ظهور حزب جديد على مقاس الفديك في مقال بعنوان: "المنشطات المخزنية في السياسة المغربية". قلت "أولَ"، لأن المقال كُتبَ قبل الإعلان رسميا عن الحزب، ونُشر وقتها في الصحافة الورقية، ثم في كتابي منطق المخزن وأوهام الأصوليين، وهو موجود في موقعي على الأنتيرنيت. كانت "جمعية لكل الديمقراطيين" قد استكملت كل أعضاء الحزب المختبري، فحذر مما هو آتٍ. وفي هذا الوقت كان البعض ينحني أمام العاصفة، والبعض الآخر يدس رأسه في الرمال، وبعض ثالث يلتقط الحب المتساقط على طول الطريق الموصلة إلى الرحامنة. لهذا فإن كلامكم عن المغاربة جميعا لا يمثلني، ولا يمثل كل من يعتقد أن هذا الحزب صناعة مخزنية، بل إنه لا يمثلك أنت نفسك، بدليل ما تفوهتم به تحت قبة البرلمان، فأي الرجلين، أو الرجال أنت؟ (أنا أتحدث هنا عن نشأة البام، أما مساره الحالي فهو تحت المحك، ولا أشكك لا في ماضي بعض المنتسبين إليه ولا في نواياهم، ولكن التاريخ يسير حسب قوانين لا يمكن تجاهلها). وقد برهنتُ قبلا على أنكم لا تمثلون أيضا كل من استنكروا سحب اعتماد بروكسي. نأتي، بعد ذلك، إلى كبيرة الكبائر، وهي جزمكم بأن المغاربة يريدون أن يستمروا في العيش كما عاش أجدادهم! هذا القول يُلزمكم وحدكم. وقد عاب القرآن الكريم قولَ من قالوا: "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون". إن من يقرأ تاريخ المغرب في القرون الخمسة الأخيرة ويستوعب ما عاناه الشعب وطليعتُه المتعلمة والمتدينة المراعية لحقوق الله من طغيان الحكام وجهالتهم سيستعيذ بالرحمان الرحيم من أن يعود للعيش في أي فترة منه. حتى في عهد المنصور الذهبي أو مولاي إسماعيل، وهما قمة ما يَفتخرُ به ضحايا الكتب المدرسية المزيفة للتاريخ. لا شيء يوازي جور الحكام في هذه القرون التي استوحوا فيها النموذج التركي غير الأوبئة التي كانت تحصد الناس بدون رحمة. وهاك نموذج هو قمة ما يُحتج به: سمعتكم مؤخراٌ تفتخرون بصناعة السكر، في عهد السعديين (إن لم تخنكم الذاكرة، كما قلتم). لا، ياسيدي، لم تخنكم الذاكرة، الذي خانكم هو أن تعرفوا أن تلك الصناعة (ومثلها صناعة السلاح والصيدلة...الخ) لا علاقة لها بالمغرب والمغاربة، كانت نبتة بدون جذور، بل كانت محنة على المغاربة الذين صودرت أراضيهم وشردوا من ديارهم لصالح الأجانب الذين كانوا ينتجون السكر فعلا ويصدرونه، ولصالح الجهاز المخزني الطفيلي الذي حول المغاربة إلى بقرة يمتص دمها مثل القراد. والدليل على ما أقول هو أنه لم تمض سنتان على موت المنصور حتى أصبحت معاصر السكر الثماني عشر، ومعامل السلاح والأدوية، أثرا بعد عين بفضل سياسة ذلك الماضي الذي لا تعرفه وتحن إليه. أسهل عليك الأمر وأحيلك على مقال لي في الموضوع في العدد الثاني من مجلة النهضة الذي يفترض أن يدخل السوق هذا الأسبوع. تاريخ المغرب في القرون الأخيرة أسود يجب التعامل معه تعاملا نقديا، ونهايتُه تدل عليه: الحماية والاستعمار، وبعدهما الفقر والأمية. ومن البؤس اعتبار هذا الواقع رصيدا لمقارعة الحداثة والعقلانية. ها أنتم ترون، يا سيدي، أنكم تقولون باسمنا ما لا نُجيزه، وتختارون لنا ما نحن منه بُرآءُ. أي أنكم لا تُمَحِّصون كلامكم، ولا تحترمون مقامات خطاباتكم، وهذا بالضبط ما يقصده من ينعتونكم بالشعبوية. أتمنى أن تفكروا بصفتكم رئيسا للحكومة في الخروج من دائرة العشيرة والمريدية (القائمة على الانتقاء والطاعة واحترام التراتبية) إلى دائرة الوطن (الذي يتسع لكل الألوان والنغمات وتحل فيه الجراءة محل الطاعة، والفرد محل الطائفة). وقتَها ستجدون من العبث القول: "دعونا نشتغل وحاسبوني في الأخير"، أو "ما كان عليكم أن تعارضوا بل أن تنصحوا". إن أول ما تتطلبه اللعبة، أيةُ لعبة، هو ضبط قواعدها، وضبط القواعد وتحديد أسرارها لا يكون من طرف لاعب واحد كما تخيل مرسي حين تصدى للقضاء المصري العتيد بالبيانات الدستورية الرئاسية، بل يكون باتفاق الطرفين، أو الأطراف. دوركم جاء في وقته، ومرحبٌ به، فلا تفسدوه بالطمع في استغفال القوى الحداثية الحية فهي فوق كل ما يتخيله المزكوم بروائح النفط الذي يردد: لقد آلت إليكم يا بني أمية فتلقفوها تلقف الكرة. والسلام عليكم ورحمة الله. *باحث في البلاغة وتحليل الخطاب www.medelomari.net