»الصورة التي رسمها أرسطو للمرأة بالغة الأهمية، فقد ترسبت في أعماق الثقافة الغربية، وأصبحت الهادي والمرشد عن النساء بصفة عامة« (سوزان بل) 1- لابد من الإشارة إلى أن المرأة، بصفة عامة، تعيش في وضع أشبه بالكارثي. فهي ما تزال تعتبر »ذكرا ناقصا« وانحرافا طبيعيا -كما يرى أرسطو- بمعنى أن الطبيعة لا تصنع النساء إلا حينما تعجز عن صنع الرجال. وهذا الوعي هو الذي ما يزال يهيمن على المجتمعات، وبحدة أكبر في البلاد العربية المحكومة بوعي قضيبي يجعل المرأة مجرد أداة تابعة لسلطة الرجل. وهذا الوعي لا ينحصر في العلاقة الموجودة بين الرجل والمرأة، إنما يتعداها ليتجذر داخل البنيات الثقافية بكل تجلياتها داخل الجماعات. فكانت النظرة إلى العالم لا تخرج عن الفهم ذكوري القضيبي، مختزلا »الحقيقة« في هذا البعد، ومكرسا فهما عن المرأة من حيث هي »مجرد موجود عارض« ينبغي لها أن ترى انطلاقا من الزاوية التي يرى من خلالها الرجل العالم وتتمثل فهمه في كل مدركاتها. 2- وإذا كانت هذه النظرة قد هيمنت بالاستعانة بأدوات معرفية تكرس هذا »النقصان«، مادام أن الطبيعة لا تفعل شيئا باطلا، فإن التاريخ يشهد على أن المرأة لم تكن سوى ضحية أوهام صنعها المجتمع وقيدها وجعل طبيعتها تتشوه وتختفي إلي حد بعيد، كما يرى ج.س.ميل. فالمرأة لم تترك لتسير في طبيعتها بحرية مثلما كان الحال لدى الرجل، ومع ذلك فقد برهنت عدد من النساء عن مدى عمق نظرتهن وتفوقهن، واعتبر اليونان سافو Sapho(الشاعرة) من بين أكبر شعرائهم، واعتبرها أفلاطون ربة الفن العاشرة، كما أن سقراط اعترف بأنه كان يلجأ إلى أسازيا في طلب العلم وأنه اعترف بأنه تعلم منها الكثير. إن المرأة كانت ضحية تسلط ذكوري كرس وعيا قضيبيا امتد ليشمل كل مناحي الحياة، وعمل من خلاله على الإخضاع والتعديل والمراقبة. وهي طوال هذا التاريخ الذكوري، لم تكن أقل حظا على مستويي الإبداع الأدبي أو الفني (كما برهنت عن تميز في تسيير شؤون الحكم أيضا)، إنما السؤال الذي ينبغي أن يطرح اليوم: مدى أصالة ما تكتبه المرأة اليوم، وما الذي يمكن أن يكسبها خصوصيتها باعتبارها إبداعا »مختلفا« عن ما يكتبه الرجل؟ وكيف يمكنها أن تكتب من غير أن تكون مسكونة بخلفية مسبقة: أن تكتب لكي تصنع الاختلاف عن الرجل؟ هل ما تكتبه المرأة هو أصيل حقا، أم يظل مخترقا بالنظرة الذكورية؟ وهل من الواجب عليها أن تخضع لآليات الإبداع الموظف من قبل الرجل، أم ينبغي لها أن تبحث عن آليات خاصة ومكيانزماتها للبحث عن ذاتها وإعادة اكتشافها بعيدا عن هذا النمط »القضيبي« الذي ظل يخترقها وما يزال؟! ثم ما الذي يمكنه أن يجعل من المرأة ذاتها وتحقق حريتها؟ وهل ينبغي إقصاء النمط المهيمن مطلقا لتتحقق الخصوصية؟ وما هي سبل البحث عن »أصالة« فنية خاصة بالمرأة. نعرف أن هناك حركية هامة وعميقة تشتغل بجدية وقد تمكنتت من إعادة مساءلة العديد من القضايا، وطرحت أسئلة خلخلت العديد من المسلمات التي اعتبرت بدهية وغير قابلة للنقاش مما أثر في مسار الخطاب الفني، وأعاد فهم الإبداع بطريقة كشفت عن اختراقات دفينة وعميقة تسكن الخطابات الفنية (لا يسع المجال لذكرها). وإجمالا، فهذا الوعي بالذات من حيث هي آخر مختلف، لا يقل قيمة أو درجة عن الرجل، جعل المرأة تستعيد ذاتها التي ظلت تحيا داخل ذاكرة وصورة لم تسهم فيها هي إلا كضحية وعي زائف سلطوي خارج عنها تحكمت فيه عوامل تاريخية وثقافية جعلت المجتمع البشري محروما من جانب كبير من الإبداع. 3-إذا كان ما تحدثنا عنه ينطبق على المرأة بصورة عامة، فإنه يعكس، في الواقع مسار المرأة الغربية التي حققت الكثير على مستوى الإبداع والحقوق (التي شملت الحق في الجسد وفي الاختيار..) فإن واقع المبدعة/المرأة العربية يبقى يشكل استثناء داخل حركية الوعي الجديد. وإذا كانت المرأة العربية، من حيث هي مبدعة، قد راكمت منجزا فنيا هاما ومحترما تميز في مرحلته الراهنة بالبوح وكتابة الواقع والكشف عنه وتعريته ومواجهة الواقع »بكشوفاتها« و »اكتشافاتها« لعوالمها السرية، فإنها لم تستطع - في عموميتها- أن تتجاوز الاختراقات الثقافية التي يغذيها الوعي القضيبي الذي راكمه تاريخ طويل من حضارة الذكورة والتسلط الذي تعيد إنتاجه من خلال عدة مستويات وسلوكات. وإذا كنا لأول مرة نقرأ إبداعا لنساء يتحدثن عن نظرتهن للجنس بمزيد من الحرية والتحرر من بعض القيود التي تفرضها الثقافة السائدة، فإن القضية لم تتجاوز في بعض الأعمال تغيير الموقع بالتعبير عن أن المرأة فاعل لا مفعول به (أو فيه). يمكننا أن نعتبر هذا في حد ذاته - في مجتمع تقليدي متكلس- إنجازا له أهميته. لكنه إنجاز على المستوى الموضوع. فماذا يغير،وماذا يضيف؟ هذا سؤال. ثم إن السؤال المطروح بإلحاح: هل ثمة من خاصية فنية؟ الجواب على هذا السؤال قد يحتاج إلى وقت كي تبلور المرأة رؤيتها وتؤسس لأصالة فنية بعد أن تستعيد طبيعتها وحريةتهاالإبداعية التي ربما ستحتاج إلى وقت ليس بالقصير. 4- إذا كانت الكاتبة في المجتمعات الأكثر تقدما، وحيث استطاعت أن تراكم خطابا هاما، إن على مستوى التنظير أو الممارسة، ما تزال تعاني من إعاقات بسبب الترسبات التاريخية أو الثقافية (التي أشرنا إلي بعضها آنفا)، فإن الأمر يزداد استفحالا حين يتعلق الأمر بالأديبة العربية التي ما تزال تعاني من التسلط الذكوري للرجل العربي كصحفي أو أستاذ أو ناقد أو مثقف متتبع أو قارئ مهتم. فالأديب العربي لم يتخلص، بل إنه لا يبدو مكترثا بما يدور حوله وهو ليس على استعداد للتنازل عن عاداته وثقافته السلطوية. ففي الوقت الذي تسعى الأديبة إلى أن تحرر بالمعنى الإبداعي، وتسعى إلى تعميق مداركها بأصالة باحثة عن تميزها وما يجعل منها مختلفة، نرى أن الرجل لا يظهر أي استعداد للتنازل عن »امتيازاته« و»مكتسابته« وتظلت نظرته نمطية تنظر إلى المرأة »أداة وجسدا«، بما في ذلك المبدعة، تحركه ثقافة جنسية ملوثة بالوعي القضيبي. الأمر الذي ينعكس على الخطاب الإبداعي موظفا أدوات »لافنية« في الغالب، تتحكم فيه المصالح الخاصة والخاصة جدا. وهذا ما يجعلنا نفجأ بسطوع نجم وأفوله في مدة قياسية. لأن الكاتب العربي ينظر إلى »الإبداع« من خلال »المبدعة«، وهذه بدعة لم يقو الكاتب العربي حتى الآن التخلي عنها أو تجاوزها. من هنا لم تكن أغلب »القراءات« سوى »تحيات« أو جسرا لايحركها النص أو البحث عن القيم الفنية وأدواتها بقدر ما يحركها »الرجل« وما يحمله من هواجس ورغبات، بما في ذلك التجريح الذي يندرج ضمن هذا الفهم. ولعل هذا السياق المشحون بأنماط ثقافية تقليدية هي التي دفعت المبدعة العربيةإلى التخبط في متناقضات تؤثر سلبا على الخطاب الإبداعي الذي تحوله في بعض النصوص إلى »وسيلة« (ومجرد وسيلة). إنها تتشبع بقيم فنية ونقدية وحقوقية وتنشغل نظريا بما تنشغل مثيلتها في الغرب، لكنها بالمقابل تجعل من نفسها أداة استعمال بين يدي رجل لكي تحقق كسبا هو أقل بكثير مما يمكن أن تحققه لو أخلصت للإبداع والسؤال والبحث عن جوهر القضية. يبدو لي أن الاحتفاء ببعض الأعمال بسبب »جرأتها« أوعنف انتقادها لوعي متكلس، لا يخرج في الواقع عن الحدود التي رسمها الوعي الذكوري، ومن ثم فإنها تقف عند عتبة السؤال، ولم تبلغ النقطة التي يمكنها أن تخلخل نظرة الرجل، وهي بذلك تزيد من مركزيته وهيمنته. من هنا تأتي سطحية بعض التجارب التي تنبئ في ظاهرها عن تأسيس خطاب مختلف/مغاير لكنه في الواقع عاجز عن تجاوز الواقع السائد، هكذا تعيد إنتاج وتصريف ما تزعم مجاوزته. فماذا حقق الإبداع الذي تنتجه المرأة العربية؟ ماذا يقول النص إذا ما تجاوزنا الموضوع؟ ما هي القضية الكبرى التي تطرحها هذه النصوص؟ وما هي الرؤية الجديدة التي تريد أن تصرف من خلالها قيما بديلة؟ أعتقد أن الإبداع الذي تكتبه المرأة ما يزال يتنفس هواء فاسدا (بفعل ما ألحقه به الوعي الذكوري/ القضيبي) وهو في حاجة إلى التخلص من المجال الضيق الذي اختارته له المرأة ليتنفس فيه. لقد آن الأوان للانفتاح أكثر على الذات (المرأة) والإنصات إليها والنظر بشيء من المصالحة إلى القضايا بعيدا عن »مع« أو »ضد««...فالمرأة العربية -على الأقل- ما تزال تكتب للرجل انطلاقا من وعي الرجل. وهذا ما يدفعنا إلى طرح السؤال التالي: ألا تعيد المبدعة العربية لعب دور شهرزاد مرة أخرى بينما والرجل يستمتع بلعبة الحكي التي يدرك جيدا أنه هو الذي يُحكى له ووفقا لقواعد وتقنيات وموضوعات هو من يتحكم فيها؟ أعتقد أنه على المبدعة العربية أن تتخلص من لعنة شهرزاد ولعبة الحكي المؤَجِّل لنهاية تحتاجها المرأة كي تبدأ بدايتها....