ليس جديدا اختلاف الرؤى في المجال السياسي بين مشروع العدل والإحسان ومشروع حركة التوحيد والإصلاح، الاختلاف بين من أصل من زمن غير يسير للمشاركة السياسية من داخل المؤسسات القائمة وتوسيع الهامش المتاح إلى ما هو أوسع وأرحب ، وبين من اختار العمل من خارج المؤسسات القائمة واعتمد منهج التربص والحشد لقومة منتظرة، وإنما الجديد الذي أثارني في رسالة الأخ عبد الله الشباني القيادي في جماعة العدل والإحسان اعتباره هذا الاجتهاد مما يستوجب ندما وتوبة ! حتى قال:"كم كانت جرأتك واستماتتك في اقتراف هذا الاجتهاد" وكأننا بحق أمام ذنب اقترف وإثم حصل يستوجب أوبة وإقلاعا. إن منطق دعوة الحكام إلى توبة عمرية على منهج الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أمر مفهوم بسبب الطريقة التي جاؤوا بها إلى الحكم وبسبب ما اقترفوه من فساد في السلطة والمال، فأين أخي الكريم هذا في الأستاذ عبد الإله بنكيران لا من جهة موقعه في سلم القرار ولا في الطريقة التي جاء بها إلى رئاسة الوزراء ولا في تدبيره للشأن العام في حدود صلاحياته؟ ألم تقل في حقه في رسالتك " لم نكن نشك ولا نشك في حسن نيتك ولا في حسن نية الكثير من إخواننا الذين اتبعوك واقتنعوا بفكرتك." وتقول:"أيها الأخ، شكر الله سعيك وأثابك بأجر المجتهد، وإني لأصدق حديثك عن الآخرة ونصحك الإخوان بالله عز وجل بالآخرة. و لا أشك في عدم اكتراثك بجمع المال وطلب الدنيا" وقلت في شأن حزبه:"و في مجموع رداءة أداء الأحزاب فهو الأحسن و الأقوى، وكيف لا ومرجعيته دين الشعب وقوته شباب مخلص."؟ أليس مثل هذا ومثل هؤلاء أجدر أن يعانوا ويدعى لهم بظهر الغيب وفي أقل الأحوال يكف عنهم ويمنع عنهم الأذى، فما حصلوه خير، إن قدروا على الإصلاح والبناء فذلك المبتغى، وإن لم يقدروا فلا أقل من إيقاف التدهور والفساد والنهب أو التقليل من ذلك ؟ فأنت تشهد للرجل بالكثير من الصلاح وللهيئة الحزبية التي يمثلها بأنها أحسن ما هو موجود في ظل جو الرداءة الحزبية، فلمن يترك البلد عندما تنصحه بالاستقالة والرحيل؟ ألمن سبق أن نهبوا هذا البلد وأنهكوه؟ أم لمستقبل مجهول في احتمالات ملتهبة مع ما يحيط "الربيع الديموقراطي" من مخاطر داخلية وخارجية؟ وهل من الرشد تثبيط عزيمة من يقاوم "التماسيح" و"العفاريت" والانضمام إلى جوقة "المشوشين" وجوقة "المخذلين" وصوغ ذلك في قالب النصح والإشفاق حيث تقول:" كن جريئا كما كنت في الانخراط في هذه المغامرة، وتُب بتقديم استقالتك من لعبة حشرتك نفسك فيها ولا طاقة لك بإنجاز شيء ذي بال،" فأنت تعرف طبيعة اختيار منهج الإصلاح والمخالف تماما لمنهج الثورة والقومة الذي اخترته أنت وجماعتك، فمنهج الإصلاح يؤمن بالتدرج ويؤمن بالمخالطة الإيجابية ويؤمن بالتعاون مع الغير على الخير ويؤمن بمنطق المساهمة والرفق لا منطق الخصومة والمغالبة إلا من أبى ذلك، ويريد المحافظة ما أمكن على البناء وما هو صالح للاستمرار ويقبل حتى الترقيع والتلفيق مادام هناك ما يرقع ويلفق،ويكره الهدم إلا عند الضرورة والاضطرار، وإذا أردت محاكمة مثل هؤلاء فلا تحاكمهم إلى غير منهجهم وطريقتهم، فلا يمكن مثلا أن نحاكم منهج يوسف عليه السلام في الإصلاح بمنطق حكم داود وسليمان عليهما السلام، فالأول كانت له وظيفة ومهمة داخل نظام قائم، جاء ليعالج أزمة ويخفف على الناس ويوسع من دائرة التراحم وترشيد الميزانية والنفقات ولم يكن من مهمته تقويض نظام الملك ولا إزالة "دين " الملك، ولا رفض منطق الإصلاح من أساسه وترك النظام ينهار من أساسه. فجلباب المشاركة ليس المخزن من ألبسنا إياه إنما هو جلباب لبسناه عن قناعة وسعينا إليه، فاجتمع فيه عقلاء في السلطة وعقلاء في الدعوة وهو ما أعطى التفرد المغربي الذي تبلور في شعار الإصلاح ومقاومة الفساد في ظل الاستقرار، نعم كما قلت:" إنه لا منجى من كيد المخزن ومكر تماسيحه إلا بصحبة العلماء و لا من صرع عفاريته إلا بالتحصن بذكر الله." ولكن ليس بالضرورة عبر البوابة التي تتصورها، ففي الدنيا علماء كثيرون من الأموات والأحياء والذكر عبادة مفتوحة وميسرة قياما وقعودا وفي المكاتب والإدارات وعلى الجنب وفي المدافعة والمجاهدة السياسية وغيرها وفي كل حين تزول فيه الغفلة وتحدث فيه الذكرى لمن يتذكر ويخشى، جميل أخي الكريم أسلوب النصيحة، وجميل التصريح بالأخوة، ولكن الأجمل من ذلك استحضار مقتضيات تلك الأخوة، فهل من مقتضيات الأخوة التسليم بالإشاعات في حق إخوانك وإعادة ترويج ما تلوكه بعض المنابر الإعلامية المغرضة التي تعلم كيدها ومكرها، والدخول في خصوصيات الناس التي بينهم وبين ربهم بخصوص صلاة الفجر وكأنك جار لهم تعرف مدخلهم ومخرجهم ونحو ذلك من التفاصيل حيث تقول:" أنظر فلقد ذهب هم الدعوة وصلاة الصبح في المسجد عند الكثير منهم أدراج الرياح. رياح الدنيا التي بدأت تُبسط لكم باعتلاء المناصب، إذ يُشاع أن مكاتب بعض وزرائك وبعض الموظفين السامين أصبحت مكاتب لتسيير مشاريعهم ومقاولاتهم، ويحكى أن الوزير الفلاني أصبح لا يقنع إلا بجلابة 3000 درهم و الآخر إلا بهندام 7000 درهم أو أكثر. بينما كانوا يقنعون ب "حوايج البال" وقمصان السعودية." فهل فعلا صاحب هذا الخطاب يريد نصيحة أو شيئا آخر؟ وهل من الأخوة التحدث بلغة التشكيك والإحالة مرة أخرى على وسائل الإعلام حيث تقول:" ويسمح بالجمعيات وبالاجتماعات تحت مراقبة ومتابعة وتوجيهات الخلطي و علابوش. (أنظر ملف الأيام الخاص بك) فيفهم من الكلام أننا جماعة من المخبرين يقودنا ضباط صغار من أمثال من ذكرت..وتستمر في التشكيك أيضا بقولك وأنت تصف مسلسل التحول أو "التنازل" بحسب فهمك:" "فمن البلاغ إلى البيان إلى مجالس المدغري و الخطيب ومجالس أخرى الله أعلم بها ! " ثم أنت أخي الكريم عندك قناعة بالمشيخة الفردية ومبعوث العناية الربانية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنقاذ البشرية، وعلى كل من أراد أن يعمل في الدعوة والإصلاح أن يسلس له القياد ويسلم له فيما يخبر وما يأمر وما ينهى، وتريد أن تضع في هذا القالب أحداث وشخصيات الماضي والحاضر، وتلوم الأخ بنكيران عن استقلاله عن الشيخ الذي تريد، وبحثه الباطني عن الرعاية الأبوية المفقودة أو محاولة تجسيدها "لأتباعه ومريديه" وتنظر إلى مساره الدعوي والسياسي على أنه مسار فردي يجر الآخرين وتناسيت أن من أهم التصحيحات التي قادها في المسار المغاير لاختيار جماعتك، هو التأسيس مع عدد من إخوانه القياديين للشورى الحقيقية ولمبدأ المؤسسات التي يتداول فيها الرأي ويتبلور فيها القرار، ورفض المشيخة الفردية والتأسيس لمبدأ التداول على المسؤوليات فرأى الناس في الحركة بعد عبد الإله بنكيران محمد يتيم وأحمد الريسوني ومحمد الحمداوي ورأوا في الحزب بعد الخطيب رحمه الله سعد الدين العثماني وبعده عبد الإله بنكيران بينما عايش كل هؤلاء الشيخ عبد السلام ياسين ولا يزال أطال الله في عمره، واعتمد الإخوة في المؤسستين الشفافية المالية في المداخيل والمصاريف ووضع الميزانيات وهيئات المراقبة، فبنكيران أحد روادنا ولنا أمثاله أو قريبا منه بحمد الله كثير وليس هو الكل في الكل وليس كما توهمت حيث تقول:"فكيف ولدت عندك الفكرة ونشأت ثم بنيت عليها القناعة فأصبحت اعتقادا يقينيا جرف معه قناعات إخوان جماعة الثمانينات ثم الجماعات التي التحقت بعد ذلك ضمن قطبي "الاصلاح و التجديد "و "رابطة المستقبل الاسلامي" ؟ فليس ثمة عندك غير جار ومجرور، وقوة جارفة تمثلت في بنكيران جرفت معها باقي القناعات.فأصبح بنكيران الزعيم "بين شباب فقدوا الثقة في الأب الروحي والقائد الأول ووجدوا فيك بعض العوض." وأخطر ما قلت:" إن ما يؤخذ عليك هو عدم تورعك في تصدر جماعة شباب صادق طاهر وسوقهم إلى خدمة الملكية والمخزن دون التسلح لذلك بسلاح العلم والصدق والإيمان اللازم للموقع والمكافئ لهذه المهمة." وقلت أيضا:"عجبا لك كيف تجرأت لتحمل هذه المسؤولية العظمى!" وكأن بنكيران لم تفرزه صناديق الانتخاب بعد تداول عميق وإنما يجثم بكلكله على الحزب ويفرض نفسه شيخا ملهما ويجر قطيعا أصم أبكم يفعل به ما يشاء وليس وراءه مؤسسات وشورى وانتخابات ونقاش ومعارضة وتداول، والحال أن الرجل واحد من إخوانه يبسط رأيه ويرى المناضلون فعله ونضاله ويقارنون بينه وبين غيره ويختارون المناسب لكل مرحلة ولمدة محددة وبولايات محددة، والجماعة عندنا والتي تتولى الاختيار هي من يقدر عناصر" العلم والصدق والإيمان اللازم للموقع والمكافئ للمهمة" ولا دخل لبنكيران في الموضوع، وإذا كان من لوم عندك فوجهه لهذه الجموع التي لا تحسن الاختيار ! ثم لماذا تقول "اخترت مضطرا" وأيضا " فلذلك فهمت و اخترت ثانية -وأنت مضطر أيضا -أن تحشر الشباب في الحزب-القالب، " والحال أن المشاركة اختيار استراتيجي وضعنا له الخيارات الممكنة إما إطارا مستقلا وإما العمل من خلال حزب قائم أو حتى العمل كتيار أو أفراد المهم القطع مع مجرد النقد والفرجة، فكان خيارا مبنيا عن موازنة وقناعة وقراءة واقعية واستلهام للسيرة النبوية ولمبادئ ديننا الحنيف وبمشاركة عدد من القيادات كيتيم وسعد الدين وبها والمقرئ وغيرهم،ومؤسساتنا في المؤتمرات والمجالس الوطنية والهيئات الشورية . ثم لماذا تصف كل من يناقش أفكار الشيخ واختياراته بأنه واقع تحت تأثير"العقلية الوهابية السعودية" ؟ أليس صفاء العقيدة والتزام السنة ونبذ البدع والخرافة أمور مشتركة بين أهل السنة والجماعة في طول البلاد الإسلامية وعرضها بغض النظر عن المذاهب الفقهية والاختيارات الفكرية والسياسية، وتريد أن تنزع عنا حتى النظرة الإصلاحية القرآنية وبأننا نعتمد الإصلاح بالمفهوم الغربي الحديث، فتقول:" ويتصدر "الإصلاح "، بالمفهوم الحديث لا بالمفهوم القرآني، استراتيجية الجماعة وبرنامجها إلى أن آن الأوان لمستوى أعلى من الحركة وهو الأداء السياسي بالمشاركة في الحياة السياسية."والذي أعلمه أن النظرة الإصلاحية انطلقت فيها الجماعة والحركة من منظور شرعي قرآني وشعارنا في الحركة قوله تعالى:"إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفقي إلا بالله" وفي ميثاقنا شرح لذلك وتأصيل له، وما أدري ماذا تعني في شأن الدكتور أحمد الريسوني حيث وصفته بعد الاستقالة من مسؤولية الحركة وبأنه اختار المنزلة بين المنزلتين، فما أعلمه أنه لا يزال معنا في المكتب التنفيذي يواظب على الحضور ويقوم بمهامه كاملة في المكتب، أم ترى أن تعدد الآراء والاجتهادات والمواقف الفردية لا تفهم على وجه الدقة لمن ألف هيمنة الرأي الواحد والاجتهاد الوحيد، وحتى ما اعتبر إنجازا وانتصارا للعدالة والتنمية في الانتخابات الجزئية من طرف الخصوم قبل الأصدقاء والتي تعرف في العادة ضعف حماس مشاركة الناس فيها وقلة الإقبال عليها، أصبحت عندك مؤشرا سلبيا على التراجع وانفضاض الناس عن الحزب حيث تقول " أنظر فلقد بدأ يستيقظ أتباعك من الحلم الجميل -لا الرؤيا -وينتفضون عليك في أكادير و وجدة و طنجة ،وانصرف الناخبون عن صناديق الاقتراع فلم يصوت إلا أكثر من 10 % بقليل في اقتراع المقاعد الأخيرة." ثم أسأت الظن في إخوانك السلفيين في احتمال انضمامهم للحزب المعلوم حيث لم تستبعد" إن سمعنا أن الفزازي أو أبي حفص أو الكتاني أو الحدوشي أصبحوا يوما في الحكومة القادمة عن طريق حزب "سيدي فؤاد" وما أدري من أين كل هذا الظن ممن يفترض أن ينضموا لجبهة الإصلاح ومقاومة الفساد. ولم ينج من لمزك الصحابي الذي أفضى إلى ربه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه حيث قلت عنه وعن خليفة بني العباس " عدم تورعهما عند تأسيس و تثبيت الملك الوراثي في الأمة ،على خلاف الخلفاء الراشدين المهديين الذين تربوا تربية المهاجرين و الأنصار -لا تربية مسلمة الفتح –" قال عبد الله بن المبارك رحمه الله : معاوية عندنا محنة ، فمن رأيناه ينظر إليه شزراً اتهمناه على القوم ، يعني الصحابة . انظر البداية والنهاية لابن كثير (8/139) . فالرجل وإن كانت له أخطاؤه لم نزن حسناته ولعلها أوفر عند ربه، وقد تولى لعشرين سنة أمر الشام وبعض ذلك الزمن كان زمن عمر وما أدراك ما عمر !نعم لا يقارن بالخلفاء الراشدين ولكن أضعف الإيمان أن لا يشار إليه بسوء على منهج أهل السنة والجماعة، وإجماع الأمة على تعديل الصحابة رضي الله عنهم دون استثناء من لابس الفتن منهم و من قعد .. و لم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة .. فقد وعد الله المتأخرين ممن أسلموا بالحسنى كما قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (الحديد: 10) . والخلاصة أخي الكريم أن الرسالة لم تكن موفقة ولم ألمس فيها رشدا ولا إحسانا، ولكن عند الله نطلب جميعا الرشد والسداد والهداية والتوفيق والخير للدعوة وعموم البلاد والعباد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.