الاختلاف بين الأمس واليوم مثالية حالمة أن يتصور المرء تنظيما بشريا، قد رسم لنفسه هدفا و جند له طاقات سعيا في طلبه، قد خلت من صفوف أفراده الاختلافات. مثالية تلك حالمة تنافي سنة الله في الكون و في صنع الإنسان، تنافي طبيعة التجمعات البشرية و ما يحكمها من اختلافات و ما ينبثق عنها من نزاعات و صراعات و أفهام. نستقرأ التاريخ و تطور أحداثه ف : "تلك القرى منها قائم و حصيد" كما أخبرنا الله عز و حل في محكم تنزيله. آيات الله تحثنا، معشر المسلمين، أن نتدبر فنعتبر بالقرى التي حُصِدَت و تلك التي هي قائمة. نستقرأ التاريخ بغية فهمه، فمن لم يقرأ التاريخ بعين متبصرة يوشك أن يعيد التجربة الفاشلة التي مرت منها الأمم الخالية. ننظر نظرة مقتضبة في التنظيمات الثورية، ثم ننظر بعدها في تاريخ المسلمين فنستخلص العبر من هؤلاء و من أولائك. ننظر في التنظيمات الثورية لتقارب الأشكال التنظيمية و ما يفرضه منطق العصر من احترام لقوانين عامة متعارف عليها، و ننظر في تاريخ المسلمين لقضية البواعث الإيمانية و المرجعية الدينية. أطرت التنظيمات الثورية الاختلافات داخل منظومتها الفكرية بوضع ميكانزمات الاشتغال في حقل حريات التعبير و النقد ، و ذلك لضمان حق الاعتراض على القيادة، و واجب هذه الأخيرة للانصياع لهذا الحق. فأسست لذلك مبادئ و مناهج و مفاهيم، فكانت النتيجة على مستوى الممارسة – بالرغم بما فيها من إيجابيات- تصدعات و خلافات، باعثها أفهام متفاوتة حينا و أنانيات أحيانا، أدت إلى ظهور تيارات و انقسامات، عنف و كيد و تنافر، تصفيات جسدية و دماء ....... فباسم الثورة في الإتحاد السوفيتي و حماية الثورة تمت تصفية عشرات الآلاف من المعارضين من داخل الحزب، و باسم الثورة الفرنسية أعدم مهندس الثورة ذاتها روبيس بيير ااا، و عند المسلمين ؟ يشهد التاريخ أن زمن سادتنا أبي بكر و عمر ابن الخطاب و عثمان - قبل الفتنة- ، رضي الله عنهم، كان الاختلاف مقدورا عليه و متحكَّما في نتائجه. لا يكاد يجد لنفسه بين المؤمنين موطئ قدم حتى يخبوَ فينمحيَ من الوجود، أو يتطور فيتولد عنه خيرٌ و بركة تزيد الناسَ فهماً و علما و سعة صدر. فما الذي وقع بعدها ؟ نتأمل حديث الخلافة قليلا ليكون لنا منارا في فهم سر الاختلاف غير المقدور عليه و الذي انبثق عنه انحراف نظام الحكم. يقول الحبيب المصطفى، عليه الصلاة و السلام: "تكون فيكم النبوة .... تم تكون خلافة على منهاج النبوة .... ثم تكون ملكا ..." ااا لماذا ؟ لماذا كانت خلافة على النهج و الطريق النبوي ثم أمست ملكا ؟ من عكّر صفوها ؟ ما عكّر صفوها؟ هذا الانتكاس على مستوى نظام الحكم، هذه الدركات التي هوت بالأمة إلى التحت، ثم هوت بعد ذلك إلى تحت التحت، ما هو إلا انعكاس لصورة المسلمين حينها، لصورة ما أمسى عليه أبناء الإسلام لما أقبلت عليهم الدنيا و شهواتها. تكون ملكا لالتفاتهم عن المعين المحمدي، هذا الالتفات منعهم الأهلية كي يحضوا بهذا العطاء العظيم، ألا و هو الخلافة على النمط النبوي بما فيه من رحمة و عدل. أصاب المسلمين الوهن (1)، هذا الداء العضال سبب الأمراض كلها، و منها عدم القدرة على الاختلاف و عدم القدرة على تقبل الآخر. حال المسلمين يومها يجسده بجلاء بيان سيدنا علي، كرم الله وجهه، حينما سأله أحد الأعراب قائلا فيما معناه:" لم استوى الأمر لأبي بكر و عمر و عثمان و لم يستو لك ؟؟؟"، فأجاب: "لأنهم كانوا أمراء على من هم مثلي، و أنا أمير على من هم مثلك " اااا . كما يجسد سببَه استنكارُ سيدنا عبد الله ابن عمر على فتور إيمان المسلمين حين قال: " نحن أوتينا القرآن قبل الإيمان، و أنتم أوتيتم القرآن قبل الإيمان فأنتم تنثرونه نثر الدقل". وَهَنٌ أصاب القلوب، تسابقٌ على الدنيا عم السلوك، أنانيات و أحقاد طفت على السطح، تجاوزت الخلافاتُ سقفَ الحكمة، فحسم السيف الخلاف، ثم كان السيف الحكم. كيف تنأى بنفسها التنظيمات الإسلامية من خطر هاته الاختلافات، خاصة تلك التي تعني علاقة القيادة بالقاعدة؟ كيف تنأى بنفسها بين إكراهات القيادة في إطار تدافعها السياسي و الذي يقتضي، من بين ما يقتضيه، انحناءات خامة الزرع، لينا و مداهنة و خدعة....، في المواقف و بين اعتراض القاعدة مطالَبة بعدم الزيغ على الخط؟ كيف تحافظ القيادة على مركزيتها في اتخاذ القرار مع فتح الأبواب واسعا لانتقادات القاعدة ؟ هل تستطيع التنظيمات الإسلامية أن تتحمل الاختلاف ؟ و هل إلى ذلك من سبيل ؟ أتكون التنظيمات الإسلامية اليوم أكثر حكمة من سلفها ؟ مرتكزات استثمار الاختلاف نخلص من خلال ما سبق أن العنف و الكيد و التنافر و كذا التصفيات الجسدية كان نتيجة حتمية للاختلافات التي عرفتها معظم التنظيمات الثورية. كما كان الاحتكام إلى السيف نتيجة حتمية لأمة استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير فاتجهت نحو الأسفل تربية و نحو الجور دولةً. هذا السير نحو الأسفل و الجور و الاقتتال إلى خلافِهِ نحن نتجه. أي نعم. فالأمر فينا نحو البشارة المحمدية يسير متأنيا، نحو الخلافة يزحف ثابت الخطى. نتأمل تتمة الحديث: " .... ثم تكون ملكا ... ثم تكون خلافة على منهاج النبوي"، معنى هذا بمفهوم المخالفة للشطر الأول للحديث أنه سينجلي بين ظهراني الأمة رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه و ما بدلوا تبديلا، رجال عزموا القومة لله و لرسوله، طليعة مؤمنة بِسَمْتِها و زُيالها تعطي النموذجَ خُلُقا و سلوكا و تضحية، تمشي في الناس بنور ربها فتحيى الأمة بمبعثها من جديد. فبم لهؤلاء المؤمنين من رغبة في الله و لقائه، ومن رغبة في خدمة نبيه، صلى الله عليه وسلم، يتحمل التنظيم الإسلامي وعتاء الاختلاف. بآلية المحبة و آلية الطاعة و آلية النصيحة (2) يتحمل التنظيم الإسلامي ما لا تستطيع تحمله الجبال، بله التنظيمات الأرضية. يتحمل التنظيم الإسلامي أهوال الاختلافات لأنها لا تحمل في طياتها رياء و لا تهافتا على مصالح أرضية. كما لا تحمل قلوب أصحابها غلا و لا حقدا. يتحمل التنظيم الإسلامي أوحال الاختلافات لما للشورى من قيمة سماوية تعبدية تجعل من "خطأ الجماعة" فضلا على "صواب الفرد"، كما تجعل من الفرد تسليما قلبيا و رضا و قبولا لنتائج المشاورة. يتحمل التنظيم الإسلامي الاختلافات لتجاوزه الحدود الكونية و ارتباطه بالمصير الأخروي. لابد للتنظيمات الإسلامية من اختلافات تنشأ في صفوفها، فالاختلاف سنة من سنن الله في خلقه، و فيه من الخير و من تصحيح للمسارات ما من شأنه أن يطوي المسافات لأصحابها. لذا يتوقف نجاح الحركات الإسلامية على مدى استيعاب قيادييها و قاعدتها لضرورة الاختلاف و فلسفة الاختلاف و فن الاختلاف. يتوقف نجاح الحركات الإسلامية على مدى فسحها لآفاق النصيحة بين صفوفها، معتمدين في ذالك لما لهم من مرتكزات روحية تربوية و توجيهات شرعية : "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و رسوله و أولي الأمر منكم". فبما للاختلافات من ضرورات جزرية لضبط النفس و صبرها، بما لها من تقبل للنصيحة و الرضوخ لنتائج الشورى، بما لها من بعد تعبدي نرى من يرفضون التناصح أو يتخوَّفون من وقوع الاختلافات، و نرى الذين يتصلبون في النصح و لا يرون من غيرهم صوابا، سببا في إحْداث شروخ و تمزيقات في جسم التنظيمات، و إقصاء للعلم و أهله. مزالق ما ينبغي لأولي الألباب لا من هؤلاء و لا من هؤلاء الوقوع في شَرَكه. لذا أعتبر هذا المقال نداءً. نداء فبما للاختلافات من بعد تعبدي، أعتبر هذا المقال نداء لجميع قيادات الحركات الإسلامية، نداء للمزيد من ترتيب البيت الداخلي و مزيد من لَمِّ شمل الأسرة الكبرى بإعادة إدماج أبنائها المتخلى عنهم فذلك ضيق في سعة الصدر على احتواء من له رأي مخالف. فالتنظيمات التي يعز عليها احتواء منتقديها من داخل الصف و يصعب، لا محالة ممتنعة عنها شرائح شتى من المجتمع ليس لها نفس المشرب، بل لها من العقليات و النفسيات و الأنانيات و السلوكيات ما يتطلب سعة صدر أكبر و أرحب و أعظم من تلك التي يتطلبها أعضاؤها و إن عَنّفوا. كما أعتبره نداء لنوابغ التنظيمات و علمائها و مثقفيها الذين ما استطاعوا تفهم قيادييهم فعنفوا في القول أو جانبوا صواب الحكمة في التبليغ. نداء لهم كي يكون لهم السبق في رأب الصدع فيهبّوا لمد يد الأخوة و البناء من جديد. كان هذا مدخلا رصدنا فيه البواعث التربوية و المرتكزات الروحية التي يمتلكها المؤمن دون غيره لتقبل الاختلاف نفسيا و تربويا فيسهل عليه الأمر لإدارته عقلا. فبأي آلة يتم التدبير ؟ نواظم التنظيمات الإسلامية (1) و هو:"حب الدنيا و كراهية الموت" كما قال الحبيب المصطفى، عليه الصلاة و السلام. (2) آلية المحبة. آلية الطاعة. آلية النصيحة: سنتطرق لهاته المفاهيم في تتمة المقال