جعلت الثورة العلمية والتكنولوجية العالم بمثابة قرية صغيرة يصعب معها إخفاء المعلومات، ومن هذا المنطلق يُثير برنامج جوجل إيرث Google Earth الجدل حول مفهوم الأمن القومي للدول وسيادة الدولة، التي أضحت محل انتهاك بما تقدمة تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين من إمكانية انتهاك تلك السيادة وخصوصيات الدول، والذي ألقى بظلاله على مشهد الأمن القومي العالمي. وجاء في موقع (تقرير واشنطن) انه عندما قامت شركة جوجل Google Company بتصميم هذا البرنامج كانت تهدف بالأساس تقديم معلومات جغرافية لمستخدميها لأغراض السفر والسياحة، ولم تكن تتوقع أن يُستخدم هذا البرنامج لخدمة أهداف عسكرية أو إرهابية. "" ماهية البرنامج وبداياته جوجل إيرث Google Earth هو برنامج خرائط الكتروني يعرض نموذجًا افتراضيًا للكرة الأرضية، مع تغطية شاملة لها بالصور الجوية والفضائية، والتي تتراوح في الدقة بين المنخفضة والعالية. وقد قام بتطوير البرنامج شركة Company Keyhole، وكان اسمه في بداياته "عارض الأرض" Earth Viewer، ثم قامت شركة جوجل بشراء الشركة السابقة عام 2004، وأجرت تعديلات على البرنامج السابق، كما غيرت من اسمه إلى جوجل إيرث. وعندما أطلقت جوجل خدمة جوجل إيرث لأول مرة في عام 2005 كانت الخدمة مجانية، وتُحدد بدقة الموقع الذي يريده مستخدم الإنترنت، من خلال قدرات التصوير والمسح الفضائي من خلال الأقمار الصناعية، وذلك بارتفاعات منخفضة تسمح بمشاهدة أجساماً على الأرض لا يتجاوز طولها الثلاثة أمتار، وبزوايا التقاط تبلغ 45 درجة فقط. ثم تم تطوير البرنامج وأصبحت الخدمة تُوفر خرائط واقعية دقيقة ثلاثية الأبعاد، وبدرجة وضوح ممتازة تكاد تُغطي العالم أجمع، كما غطت زوايا الرؤية بمعدل 360 درجة. تسمح خدمة جوجل إيرث لمستخدميها مشاهدة الصور والخرائط التي التقطتها الأقمار الصناعية لمعظم أنحاء العالم، والتركيز على أجزاء منها لتكبيرها، حيث يتضمن البرنامج صورًا للشوارع والأحياء والمباني، فضلاً عن توافر بيانات خاصة بعناوين المواقع والمرافق المختلفة، فيمكن لأي شخص الدخول على هذا الموقع وكتابة المكان الذي يريد مشاهدته والحصول على كافة التفاصيل عنه. ولكن تُعد خدمة عرض الشارع Street View أكثر الخدمات التي يقدمه جوجل إيرث شعبية، حيث تُمكن مستخدميها من القيادة عبر الطبيعة الأمريكية عند مستوى رؤية أرضي. وبالإضافة إلى بعض المعلومات الثقافية، العلمية والتاريخية حول الأماكن المعروفة، قامت جوجل بالاتفاق مع شركة ديسكفري Company Discovery على إدخال المزيد من المزايا على برنامج جوجل إيرث، بحيث يُمكن مستخدميه من الضغط على منطقة ذات دلالة تاريخية وثقافية وحينئذ ستنبثق إحدى نوافذ موسوعة ديسكفري تضم روابط لكل من ملفات الفيديو ومعلومات الموسوعة حول تلك المنطقة. أطلقت جوجل ثلاثة نسخ من البرنامج، أولها مجاني بوظائفه محدودة، وثانيها Google Earth Plus يقدم سرعة أفضل وطباعة أفضل وخيارات بسيطة أخرى مقابل 20 دولار سنويًا، وثالثهاGoogle Earth Pro وهو مخصص للاستخدام التجاري مقابل 400 دولار سنويًا، ومن الممكن تجربتهما قبل دفع الاشتراك السنوي. حركات المقاومة العراقية والفلسطينية أظهر تقرير إخباري نشرته صحيفة ديلي تلجراف البريطانية Daily Telegraphأن فصائل المقاومة في العراق تستخدم برنامج جوجل إيرث لتنفيذ هجمات ضد المعسكرات البريطانية والأمريكية هناك، وتؤكد تلجراف أن هذه المعلومات تم اكتشافها من خلال "مستندات عُثر عليها في أثناء مهاجمة عدد من المنازل التي كان يختبئ فيها المسلحون". وأشارت الصحيفة إلى أن عناصر المقاومة قد استخدمت برنامج جوجل إيرث في تحديد المناطق المستهدفة، حيث يظهر في الصور التي تم العثور عليها محيط مدينة البصرة ومبان تفصيلية داخل المعسكر البريطاني، بالإضافة إلى أهداف يمكن قصفها مثل الخيام وأماكن الغسيل، كما أن خطوط الطول ودوائر العرض للأهداف المخطط قصفها كانت محددة على ظهر الصور، في الوقت الذي تتعرض فيه المعسكرات البريطانية في البصرة من وقت لآخر لقذائف الهاون. ولم يقتصر استخدام هذا البرنامج فقط على حركات المقاومة العراقية، ولكن ذكرت العديد من التقارير في إسرائيل أن المقاومة الفلسطينية تستخدم هي الأخرى هذا البرنامج في تحديد الأماكن المستهدفة؛ لمساعدتها على تحديد وضرب الأهداف العسكرية الإسرائيلية، وهو ما أكدته الفصائل الفلسطينية المسلحة ذاتها، حيث يتم قياس مدى الصواريخ للتأكد من انسجامها مع المدى المطلوب لضرب أهدافها في العمق الإسرائيلي. إلى جانب استخدام عناصر المقاومة العراقية والفلسطينية لبرنامج جوجل إيرث في تحديها أهدافها، ظهرت الخلافات بين شركة جوجل ووزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون Pentagon) مع قيام الأولى بنشر صوراً لقواعد عسكرية أمريكية في برنامج جوجل إيرث، مما دفع البنتاجون إلى منع الشركة من تصوير القواعد العسكرية الأمريكية، كما بعث بأوامر إلى كافة قواعده ومنشآته في أرجاء الولاياتالمتحدة، مطالبًا فيها القيادات بعدم السماح لفريق جوجل إيرث بأخذ صور فيديو بانورامية من داخل هذه المؤسسات. وجاءت تلك الخطوة بعد اكتشاف صوراً لقاعدة فورت سام العسكرية Fort Sam Military Base بولاية تكساس Texas ضمن خرائط البرنامج، التي أثارت مخاوف البنتاجون؛ لتشكيلها تهديدًا محتملاً لأمن المنشآت العسكرية وللأمن القومي الأمريكي، خاصة وأنها غطت زوايا الرؤية بمعدل 360 درجة، وتضمنت مواقع الحواجز والقيادة والتسهيلات، فضلاً عن كيفية الخروج والدخول إلى المباني وإجراءات الأمن المتبعة عند بواباتها، وهو ما يمكن أن يستخدم من قِبل الارهابين. وعلى الرغم من أن فرق جوجل قد دخلت قواعد الجيش الأمريكي بإذن مسبق لإعداد الخرائط، فضلاً عن أن العديد من تلك الصور تم التقاطها من الشوارع، وهو ما يعني أنه لا يحق للجيش الأمريكي قانونًا المطالبة بإزالتها، إلا أن جوجل أزالت بعض تلك الصور والخرائط من خدمتها الخاصة بخرائط الشوارع بناءً على طلب من البنتاجون. ويأتي طلب البنتاجون بعد أيام قليلة من نشر تقارير أشارت إلى أن متظاهرين استخدموا معلومات مأخوذة من موقع جوجل إرث للتخطيط للوصول إلى سطح مبنى البرلمان في العاصمة البريطانية لندن. إسرائيل على خلاف مع شركة جوجل دخلت إسرائيل هي الأخرى في نزاع مع شركة جوجل بخصوص ما يعرضه برنامج جوجل إيرث، حيث ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية Yediot Aharonotأن هذا البرنامج يكشف مواقع عسكرية وأمنية إسرائيلية هامة، وهو ما يجعل من هذه المواقع أهدافًا سهلة محتملة لمن يريد مهاجمتها، لاسيما بعد أن طورت جوجل صور الأقمار الصناعية الخاصة بإسرائيل وضاعفت من درجة وضوحها ودقتها، حيث تتكون الصور من بيكسل واحد لكل مترين مربعين بالمقارنة إلى الصور السابقة التي كانت تتكون من بيكسل واحد لكل 10 20 متر مربع على الأرض. وفي السابق كان برنامج جوجل إيرث يعرض صورًا منخفضة الجودة للمواقع الإسرائيلية الإستراتيجية، وهو ما آثاره الصحفي المصري محمد حسنين هيكل في حلقة من برنامجه (مع هيكل) الذي تبثه قناة الجزيرة، حيث أشار الى أن إسرائيل كانت قد أبرمت في عام 1996 اتفاقية مع الولاياتالمتحدة في عهد الرئيس بيل كلينتون تم تحويلها إلى قانون أصدره الكونجرس الأمريكي يفرض على الشركات التي تبيع أو تنشر صورًا ملتقطة بالأقمار الصناعية لإسرائيل الحصول على موافقة مسبقة من الإدارة الأمريكية قبل عرض هذه الصور. إلا أنه ومع بداية الربع الأخير من عام 2007، عندما خرج للنور آخر إصدار من برنامج جوجل إيرث، استبدلت الصور القديمة للمواقع الإسرائيلية بأخرى حديثة واضحة وذات جودة عالية، كما ظهرت معالم وتفاصيل المدن الإسرائيلية والمنشآت الصناعية والكثير من المعالم الحيوية والهامة في الدولة العبرية في الإصدار الجديد. وفي الوقت الذي استقبلت فيه وسائل الإعلام الإسرائيلية ذلك التطور بكثير من الانزعاج وأشاعت بسببه هلعًا، أظهرت الحكومة الإسرائيلية في المقابل عدم اكتراثها وأبدت قدرًا كبيرًا من اللامبالاة، وهو ما فسره بعض المحللين الاسرائيلين على أنه يرجع إلى اعتقاد الحكومة الإسرائيلية بعدم أهمية هذه الصور، فقد كانت مخاوف مماثلة قد ثارت من قبل عندما أفرجت الولاياتالمتحدة عن بعض الصور لمفاعل ديمونة منذ عشرات السنين، على اعتبار أن تلك الصور قد يكون لها تأثير سلبي على أمن إسرائيل، إلا أن الواقع كشف أن تلك الصور لم تتح أية معلومات قيمة يمكن أن يتم الاعتماد عليها في هجمات على إسرائيل. ومن بين المواقع البالغة الحساسية التي يمكن رؤيتها تفصيلاً في برنامج جوجل إيرث مقر وزارة الدفاع في تل أبيب، وقواعد أساسية تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي، والمفاعل النووي السري في مدينة ديمونة بالصحراء الجنوبية، وكذلك مقرات القيادة العسكرية المركزية، فضلاً عن موقع آخر ترددت مزاعم أنه المقر السري لوكالة الاستخبارات الإٍسرائيلية (الموساد)The Israeli Intelligence Agency (Mossad) . وفي السياق ذاته دخلت إسرائيل من جديد في نزاع مع شركة جوجل بعد أن اعترضت السلطات الإسرائيلية في بلدة "كريات يام" على قيام فلسطيني بكتابة معلومات عنها على برنامج جوجل إيرث تفيد أنه تم إنشاء البلدة على أنقاض بلدة عربية بعد حرب 1948 اسمها "جوارينا"، وأن اليهود استولوا عليها بعد الحرب ولاقى أهلها التشريد والنزوح إلى المناطق المجاورة، على عكس ما يدعيه المسئولون الإسرائيليون في البلدة من أنها تأسست في عام 1945. ولهذا تقدم المسئولون في هذه البلدة بشكوى رسمية للشرطة لإجبار جوجل على تغيير هذه المعلومات الخاطئة على حد قولهم إلا أن جوجل رفضت ذلك بدعوى أنه من غير القانوني أن يتم حذف مثل هذه التعليقات وذلك تمشيًا مع سياستها والتي تمنع إزالة أي تعليق على الصور، ذلك أن برنامج جوجل إيرث يتيح للمستخدمين الحرية في كتابة التعليقات التي تقدم معلومات حول مكان معين على الخرائط الموجودة على البرنامج دون تدخل من الشركة، بصرف النظر عما إذا كانت تلك المعلومات دقيقة أم لا، حيث تعتبر جوجل أن الخرائط الموجودة في البرنامج تعتمد على المستخدم من خلال المحتوى الذي يعكس إسهاماته ومدى تفاعله مع البرنامج. التعاون بين جوجل والبنتاجون بشأن دارفور رغم الخلافات التي قامت بين جوجل والبنتاجون، إلا أن العلاقات بين الجانبين شهدت قدرًا من التعاون، حيث قامت شركة جوجل بتطوير خدمتها للخرائط لتقوم برصد الأوضاع في إقليم دارفور غرب السودان، وذلك عبر إنتاج صور عالية الجودة ملتقطة بواسطة الأقمار الصناعية تُظهر ما تعتبره جهات أمريكية "انتهاكات وأدلة على الجرائم الإنسانية التي تُرتكب في إقليم دارفور"، وهو ما اعتبره المحللون وسيلة ضغط غير تقليدية من جانب الإدارة الأمريكية على الحكومة السودانية للموافقة على تواجد قوات دولية في الإقليم يكون لها صلاحيات هجومية؛ بالإضافة إلى حشد الرأي العام العالمي ضد الخرطوم بواسطة الصور التي ينشرها البرنامج. وفي هذا الإطار جاء تهديد الرئيس الأمريكي جورج بوش لنظيره السوداني عمر البشير باتخاذ خطوات لوقف العنف في دارفور وإلا فستفرض واشنطن عقوبات إضافية على الخرطوم. وجاءت هذه الخدمة بناءً على اتفاق أبرمته جوجل مع "متحف الهولوكوست التذكاري" Holocaust Memorial Museum وهو معهد قومي أمريكي في واشنطن معني بدراسة وتوثيق المحرقة النازية ضد اليهود وذلك بهدف عمل توثيق مصور للقرى المدمرة والمشردين ومعسكرات اللاجئين والانتهاكات بحق سكان دارفور. وبدأت جوجل إيرث بعرض بعض التفاصيل التي تعتبرها الولاياتالمتحدة "أول جريمة إبادة جماعية في القرن الحادي والعشرين" حيث تستخدم صور عالية الوضوح تُمكن من تكبير منطقة دارفور لرؤية ما يزيد عن 1600 قرية مدمرة أو متضررة، وهو ما يقدم وفقًا للمتحف أدلة على حدوث إبادة جماعية من قِبل ميليشيا الجنجويد العربية المدعومة من الحكومة السودانية، وهو ما تنفيه الخرطوم، كما يُمكن أيضًا رؤية بقايا أكثر من 100 ألف منزل ومدرسة ومسجد ومبان أخرى قامت الميليشيا بتدميرها في دارفور. ووضعت جوجل على خرائط دارفور علامة الحريق لتحديد القرى المدمرة وعلامة الخيم لمعسكرات اللاجئين، وبالضغط على هذه العلامات يحصل مستخدم البرنامج على بيانات باسم القرية وإحصاءات بالدمار الذي لحق بها. وتستقي الشركة معلوماتها عن الإقليم من وزارة الخارجية الأمريكية والمنظمات غير الحكومية والأممالمتحدة بالإضافة إلى "متحف الهولوكوست التذكاري"، الذي يُعلن أنه معني بكشف ضحايا الجرائم ضد الإنسانية. وتأمل شركة جوجل من خلال هذه الخدمة في أن تلفت أنظار العالم إلى حجم المأساة في دارفور، التي مضى على بدايتها حوالي أربع سنوات، حيث تُقدر الأممالمتحدة عدد القتلى فيها بأكثر من 200 ألف قتيل، في حين يُقدر عدد المشردين بحوالي 2.5 مليون شخص. انتهاك الخصوصية في الوقت الذي أعربت كل من الهند وتايلاند وكوريا الجنوبية وهولندا عن مخاوف مماثلة لمخاوف البنتاجون بشأن حساسية المعلومات التي قد تصبح في متناول الإرهابيين، أبدى بعض المواطنين قلقهم إزاء نشر المعلومات حول ممتلكاتهم ومنازلهم بحرية، وهو ما يتعارض مع حق الفرد في الخصوصية. وفي هذا الإطار، وتحت ضغط من الحكومة الأمريكية تم حجب مكان إقامة نائب الرئيس الأمريكي من برنامج جوجل إيرث في الوقت الذي تتوافر فيه صور عالية الدقة لملكيات أخرى على البرنامج، وهو ما أثار الاستياء من الشركة، حيث اعتبر النقاد أن تعمد حجب أيًا من المعلومات على البرنامج يتعارض مع هدف الشركة المعلن والمتمثل في "السماح للمستخدم بتكبير أي نقطة أو مكان على كوكب الأرض يريد استكشافه".