الأم مدرسة ؛لكنها قد تحضن الأراقم: روت هسبريس عن مصادرها بفاس أن جماعة من المواطنين ،بأحد أحياء المدينة،قصدوا ،في الأسبوع الماضي،ولاية الأمن للتبليغ عن حاجتهم الى أمن أمني بحيهم ؛حيث يعبث المجرمون بكل قوانين الدولة المغربية؛معتدين على الأرواح والأرزاق ؛نهارا جهارا. ولدى عودتهم إلى الحي ؛بادرتهم أم أحد المنحرفين ،محتجة على مسعاهم الهادف إلى التضييق على ابنها ، ومن هم على شاكلته: " مَالْكُمْ كُلْشِي رَاهْ يَكْرِسِي". استوقفتني هذه العبارة،وملكت علي نفسي لأيام؛وكلما حاولت إبعادها عن ذهني، والتفكير في موضوع آخر أكثر أهمية ؛إلا ووجدتها تسد علي جميع المنافذ ؛وكأنها حمى المتنبي ،إذ حاول جاهدا إراحة جسده منها لكن دون جدوى: بذلت لها المفارش والحشايا فعافتها وباتت في عظامي أبنت الدهر عندي كل بنت فكيف نجوت أنت من الزحام. لا علينا أن نتوقف عند هذه العبارة ،الغريبة عن مجتمعنا المغربي؛من حيث صدورها عن أم ،عن مدرسة الأجيال، التي لا يتصور فيها الانتصار للانحراف والإجرام. "هِيتَ لَكِ "أيتها المرأة التي انقلبت على دور الأم الدجاجة-كما يقول الفرنسيون ؛للتعبير عن فضيلة حضانة الصغار والذود عنهم- مفضلة دور الأم الديك ،محرضة أبناءها على الاعتداء والاقتتال. وبعد لأْي انتهى بي الأمر الى تفهم أن ينحرف الابن ،ويتدرج صُعدا في انحرافه –إن لم يجد رادعا من القانون- الى أن يصير من عتاة المجرمين؛ لكن لم أقبل إطلاقا هذا التحول في دور الأم ؛من حضن بيولوجي وأخلاقي يغذي المجتمع ،ويشيع فيه الحق والخير والنماء ؛ويقْدِرُه على الاستمرارية ؛ الى جحر لتفقيس الأفاعي ،وتمكينها من الانسياب الهوينى وسط الناس ، وفي أنيابها العطب. وحينما يهرع الناس لقتل الأفعى –ولو احتمت بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- تصرخ الأم: خلوا سبيلها ؛لا أرى حولي غير الأفاعي. منطق يحتاج الى تحليل يضيق عنه المقام. وقبل هذه المرأة"المدرسة" تم تزييغ قطار –بفاس دائما- عن سكته ؛لأن بعض المجرمين بدت لهم السكة ريعا حلالا؛فنهبوا منها ما تيسر لهم من قضبان. قسمة ضيزى :خردة حديد ،في كفة ؛ وفي الأخرى أرواح بشرية ؛مدججة بكل الترسانة القانونية الجنائية التي تحفظ لها أمنها وأمن القطار. لكن هل تحضر هذه الترسانة في الساعة الصفر؛حينما تزيغ العجلة؟وأي قانون يشفي الغليل ،لمحاكمة العابثين بأرواح العباد؟ وآخر ما استقرت عليه الأخبار الوطنية عصابة الرباط الرباعية ؛بقيادة فتاة في ريعان الشباب. "تزوجت" رُباعَ لتحقيق الإشباع الجنسي ،زائد عشرة أيدي،بخمسين أصبعا- للنشل والضرب والقطع. عدا الأرجل وأصابعها. لعل هذه الفتاة –زرقاء الرباط- تحكي تاريخ الأم ،حاضنة الأفاعي .غدا سينتفض سكان حي ما ضد الإجرام وستصرخ فيهم هذه الفتاة ؛وقد صارت أما: مالكم كلشي كا يكرسي في الرباط. وبيني وبينكم ؛ألا يحصل "لكريساج" الكبير في الرباط؟ ألا يتسبب التفريط- كيفما تجلى- في ارتخاء عضلات القطاعات المعنية بالجريمة؟ بدءا من المدرسة ،وقوانين الأسرة،مرورا بكل الأجهزة الأخرى ؛منظورا اليها كمؤسسات قائمة على قوانين؛ وبمتناولها ميزانيات ،وكفاءات بشرية، وآليات ؛وكل الخبرة العالمية المتراكمة ،في مجال مكافحة الجريمة ؟ من يحقق الأمن الأمني؟ بداهة لا بديل عن الدولة ؛باعتبار احتكارها للعنف ،وتوظيفه في تحقيق اللاعنف بين المواطنين. من أجل هذا اشتغلت نظرية العقد الاجتماعي ؛وعلى هذا المنطق تأسست الدولة الديموقراطية الحديثة. وإذا ساءلنا مرجعيتنا الدينية ،في ما يتعلق بحفظ الأبدان ،الأرزاق ، تقويم الخلق وتحقيق العدل؛ فسنخجل أيما خجل أن تظهر فينا امرأة تقول: ما لكم كلشي كا يكرسي. مجتمع مسلم تصدت فيه امرأة- سابقا- لتقوم فقه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. لكن الدولة اليوم -وباعتبار التطور المذهل في وسائل التواصل،وشيوعها بين الناس ،لرخصها- لم يعد بوسعها المواظبة على الحضور في الوقت المناسب والمكان المناسب ؛حتى لا يتبادل المواطنون العنف في ما بينهم ،وصولا الى حدوث الجريمة. سابقا ،كان يكفي أن تظهر " زينب"(فاركونيط الشرطة) في الحي لتعم الرهبة ،بل قد يتبول بعض الشاكين في أنفسهم على سراويلهم .لا يعود الحي الى سيرته حتى تغادره الزائرة البيضاء ،المولولة والمرعبة. اليوم قبل أن تصل هذه القطعة المتحركة، من الدولة، تصل أخبارها ،ويترصدها من يترصد ؛ويهرب من يهرب ؛ويمتشق الفتية سيوفهم . نعم تسيل الدماء أحيانا ، ويلعلع الرصاص ؛لكن لا أحد يتبول في سرواله. لم تعد الغلبة للرهبة بل للقوة ؛وقد سمعنا عن وحدات أمنية طوردت فتقهقرت ؛ورجال درك حوصروا ؛وهم يزاولون عملهم في الطرقات. الدولة الأمنية- ومعها المجتمع المدني السوي- في صراع مع المجتمع المدني المنحرف. لكن حضور المجتمع المدني السوي لا يتجاوز المطالبة بالأمن. ولعله يؤاخذ رجال الأمن على تقصيرهم- ان حصل- أكثر مما يؤاخذ المجرمين على إجرامهم. بل كثيرا ما كان هذا المجتمع ،في بعض الأحياء، عونا وسندا ،غير مباشر للمجرمين والمنحرفين. ربما نكاية في جهاز الأمن ؛أو خوفا من انتقام أكيد إن أظهر أي تعاون مع الدولة. هكذا تبدو لي الصورة ،تأسيسا على ما تنقله وسائل الإعلام يوميا. إن المقاربة الحالية لتحقيق الدولة للأمن الأمني تسير بسرعة مفرطة صوب الجدار.وها نحن نرى كيف صار المجرمون يجدون سندا من أمهاتهم وآبائهم ، وأحيانا جيرانهم. ان ضخ الميزانيات الكافية لم يعد ممكنا لاعتبارات اقتصادية ظرفية؛كما أن الاقتصار فقط على تكثير رجال الأمن وتدريبهم،وفق أحدث الأساليب ، وتحفيزهم، للرفع من مردوديتهم ،لم يعد كافيا أيضا؛وان كان ضروريا. في ظل هذه الأوضاع كيف تستعيد الدولة تحكمها في الوضع الأمني؟ هل يستطيع المواطنون انتاج أمنهم؟ كما ينتجون غذاءهم ،ويحققون الأمن الغذائي للوطن يمكن أن ينتجوا أمنهم أيضا. ان انفتاح الدولة على المجتمع المدني، ورغم كونه حديث العهد حقق الكثير من اشتغالات التنمية ؛لكن في المسألة الأمنية لا تزال الدولة غير واثقة كلية في هذا المجتمع.بمعنى حمل هذا المجتمع للتفكير في أمنه ،وتقديم تصورات تنبع من حاجياته حيث هو ؛وحسب خصوصيات الأحياء. لا أغفل أن شيئا من هذا يمارس على مستوى بعض وداديات الأحياء ، و اتحاد ات الملاكين والسكان في العمارات؛لكن لا يتعدى إطار ظهير الحريات العامة ، وقوانين الملكية المشتركة. وما يتحقق يتحقق بمبادرات لا تؤطرها الإدارة الترابية. ان حمل المواطنين على المشاركة في إنتاج أمنهم العام يتطلب أكثر مما يتحقق حاليا. يتطلب فتح باب التطوع للشباب ،والمؤهلين من المتقاعدين، للقيام –في حيهم- بأنشطة استباقية تحاصر الانحراف؛من خلال المخالطة والتوعية ؛وحل المشاكل الاجتماعية المفرخة للانحراف. وفي مرحلة متقدمة تقديم السند للفرق الأمنية المتخصصة. كل هذا يحتاج الى انخراط فعلي ،وإيمان بالقضية ،وضرورة كسبها. وفي موروثنا لا نعدم أمثلة للتآزر بين سكان الحي – في المدينة- لدفع الضرر ؛ودواوير القبيلة في البواديي. بل يمكن القول ،وانطلاقا من التجربة، أن ساكنة البادية صعبة الاختراق من طرف المنحرفين ؛لأنها لا تزال تنظر الى أمنها على أنه يخصها قبل أن يخص جهاز الأمن. ان البنية التقليدية للقبيلة ؛ورغم كل الانتكاسات التي سببتها لها الدولة الحديثة، لا تزال بها بقية لتنصب جماعة الأعيان حكما في الكثير من القضايا ؛ومنها الأمنية. ذات مساء ،في قريتي، تناهى الي خبر محاصرة رجل غريب تائه في جبال القبيلة.قام الرعاة بكل ما يلزم ؛ونودي على عون السلطة والدرك ليتبين فعلا أن الأمر يتعلق بمهاجر جزائري تائه ؛والبقية يكملها جهاز الدرك. هذا مجرد مثال. قد يرقى"الإنتاج الأمني المحلي" الى مقاربة ؛حينما تحصل القناعة به ،ويقوم من جميع جوانبه. ولا بد من التأكيد ،حتى لا يساء فهم القصد-كما حصل مع مطلب مخزنة المواطن في موضوع لي سابق- أن الأمر لا يتعلق بإنشاء دولة بوليسية ،يتحول فيها كل مواطن الى شرطي على جاره ؛بل حمل المواطنين- عن طواعية- على الدخول في مجموعات أحياء منظمة لإنتاج الأمن المحلي . ان مقاربة الدولة للمسألة الأمنية تزداد قصورا ،يوما بعد يوم للأسباب المذكورة ؛كما أن استمرار المواطنين في سلبيتهم تجاه المنحرفين ؛والاقتصار على انتقاد أجهزة ؛كثيرا ما تعوزها الوسائل ،لن يحل المشكل. يبقى أن يتحقق – بكل صدق ومسؤولية- التلاحم بين الطرفين ؛حتى لا نسمع أمهاتنا يصرخن في الشوارع ليس ضد المجرمين ولكن انتصارا لهم ،لأن " كلشي راه يكرسي". [email protected]