"عدلتَ فأمِنتَ فنِمتَ يا عُمَر" مبعوث ملك الفرس للفاروق عمر طار رئيس حكومتنا إلى الديار المقدسة من أجل قضاء عمرة في الأرض المطهرة، مفضلا تقضية عطلته الرسمية الصيفية، التي لا تتجاوز ال10 أيام، هناك.. بعد سنة حكومية حبلى بالمواقف والخرجات الإعلامية، وهو يصول ويجول في الإعلام وأمام نواب الأمة بقفشاته الهزلية أحيانا وغضباته المتذمرة أحيانا أخرى.. بوتيرة غير عادية جعلت منه رئيس حكومة غير عادي ومحط أنظار العديد من المتتبعين ومقدم فرجة متميز لدى أبناء الشعب.. ولعل اختيار بنكيران السفر إلى أرض الحجاز فيه دلالات واضحة لمن يريد فهم العقلية التدبيرية ل"حاكم" نهل من أصول المنظومة الإسلامية لسنوات طوال، وهو الذي كان ينادي وراء الصفوف بالإصلاح ودرء الفساد، قبل أن يجد نفسه أمام تلك الصفوف يحارب من أجل كسب معركة كبرى، تجري أشواطها في ثلاثة فصول: - وجد بنكيران نفسه ومنذ توليه رئاسة الحكومة في صراع نفسي، بمعية وزراء حزبه، من أجل الالتزام بالمبادئ التي بوأته ذلك المنصب، من الصدق في القول والوفاء بالوعود وبعث الأمل في نفس شعب يأس من كل شيء إلا من رحمة الله.. وهو ما كان أمرا عسيرا تطلب شيئا من الجلد والتريث والتردد.. وأنتج لغة انتقاد داخلية شديدة في صفوف حزب "المصباح".. - ولم يلبث بنكيران أن وجد أمامه معارضة تعددت مشاربها وتنوعت ألوانها، منها ما كان معارضة فولكلورية تستعرض عضلاتها المفتولة والمنتفخة انتفاخ البالونة بالمضخة الهوائية، والتي سرعان ما تتفرقع مع وخزة إبرة خياطة.. معارضة شأنها الصراخ والعويل ليس إلا.. ومنها ما كان معارضة انتقامية تفتح ملفات الماضي وتثير النعرات.. استطاعت أن تبني منطق تصفية الحسابات الضيقة باسم "المعارضة"، سواء أكانت داخل البرلمان أو على شوارع المملكة.. ومنها ما كان معارضة واضحة الأهداف وبناءة الانتقاد.. لكنها قليلة المفعول وضعيفة التأثير، وهي المعارضة التي تلزم بنكيران من أجل تقويم اعوجاجه وتعديل مَيْله وإصلاح خرجاته، وهو منطق الخليفة عمر بن الخطاب مع قومه حين قال لهم: "إذا أحسنت فأعينوني، وإذا أسأتُ فقوّموني"، فقام له الرجل قائلا: "لو رأينا فيك اعوجاجاً، لقوّمناه بسيوفنا!"، فرَدّ عمر: "الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقَوِّم عمر بسيفه!".. - أما الشوط الثالث من معركة الإصلاح فتتجلى في الإرث الثقيل الذي ورثه بنكيران مما سبقه، إرث كريه الرائحة لفساده وأسود قاتم لغموضه وغارق في غبار الإهمال والنسيان.. ولا يتبقى من رئيس الحكومة وفرقة الإنقاذ التي ترافقه في المشوار سوى تنقية ذلك الإرث وتنظيفه من كل شوائب الفساد وإزالة الغبار عليه لتحريكه.. رحلة بنكيران إلى بيت الله الحرام، ليقعد قليلا بجانب قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، هي رحلة استراحة قصيرة لمحارب يبدو أن معركة الإصلاح أنهكته كثيرا، رغم قصر عمرها لحدود الساعة، وهو ما يفسره بنكيران بوجود عفاريت وتماسيح، واتساع دائرة "جيوب المقاومة" في كل الجوانب، كما هو معروف في مقاييس التغيير الاستراتيجي.. أي "مقاومة التغيير". رئيس حكومتنا وأنت بأرض الحجاز زائرا بقبر الرسول صلى الله عليه وسلم، يجب أن تتذكر جيدا أن الرسول أوصى أبا ذر قائلا: "لا تَخَفْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ"، فالشعب ينتظر قرارات جريئة واستغلال الصلاحيات الواسعة التي منحها دستور 2011، لإصلاح الوضع وإنقاذ ماء وجه المغرب من التخلف العالمي.. ويجب أن تتذكر كثيرا وأنت تزور قبر الخليفة أبي بكر، كلامه حين تولى الخلافة: "الضعيف فيكم قويّ عندي، حتى أريح عليه حقه.. والقوي فيكم ضعيف، حتى آخذ الحق منه".. فالمجتمع يحتاج العدل، والمظلومون الضعفاء في هذا البلد السعيد كثيرون .. أما الظالمون الأقوياء فهم طلقاء ولا رادع يردعهم .. ويجب أن تتذكر كثيرا وأنت تزور قبر الفاروق عمر حين قال: "لو ماتت شاة على شطّ الفرات ضائعة، لظننت أن الله تعالى سائليّ عنها يوم القيامة".. فكم من مسلوب مغلوب مستضعف لقي حتفه لغياب الأمن في بلده، وكم من أم توفيت في الجبال أو في الطرقات أو أمام المستشفيات وهي تضع مولودها لغياب عناية صحية داخل مستشفياتنا.. أليس الله سائِلُك عنها يوم القيامة؟؟.. ويجب ألا تنسى وأنت تزور قبر الخليفة عثمان ما قاله حين تولى الخلافة: "إنكم بحاجة إلى إمام عادل وليس إلى خطيب فصيح".. فكثرة الكلام لا تنفع شعبا أنهكته الضراء وغلبه الزمان وتأزم معاشه.. الكلام الكثير وفي غير مقامه لا يجدي نفعا، والشعب ينتظر الفعل والتغيير الحقيقي.. ولا تنسى إذا مررت بقبر آخر الخلفاء علي بن أبي طالب أن تتذكر كثيرا قوله: "فأنتم عباد الله.. والمال مال الله.. يقسم بينكم بالسويّة، ولا فضل فيه لأحد على أحد".. فالفساد استفحل وأموال الشعب تنهب وتسرق سرا وعلانية.. والمال مال الله وثروات البلاد وجب أن توزع بالعدل والميزان على أهلها.. أيها المحارب..