بعد أن علقت أطياف واسعة من الشعب المغربي آمالها على لحًى خالتها قادرة على محاربة الفساد وإعادة الحقوق إلى ذويها، فوجئت ببنكيران يعلن استنكافه عن مطاردة الساحرات متخذا شعار "عفا الله عما سلف" عنواناً لسياسة هجينة في عرف الدول الديمقراطية، حيث تسمى الأشياء بمسمياتها ويعد برنامج "عفا الله عما سلف" الذي سنها بنكيران وعليه وزره ووزر من أخذ به حتى يوم القيامة، إعلانا صريحا بتوقف الحكومة عن محاربة المفسدين وإصدارها عفواً شاملاً ليس من صلاحياتها، يتعارض في جوهره مع مبدأ ربط المسؤولية بالمساءلة كما ينص على ذلك الدستور الجديد. إن بنكيران في حديثه عن العفاريت والتماسيح والزواحف ليس جاهلا بمن تكون تلك الرؤوس الكبيرة التي تضع له العربة أمام الحصان، وإنما القدرة هي التي تعوزه وتجبره على النكوص والتراجع إلى الوراء حتى لا يحترق بأوهام كونه رئيساً لحكومة ذات صلاحيات حقيقية. ولعل جرداً سريعاً للقرارات التي أفلح البي جي دي في اتخاذها منذ ترؤسه الحكومة، يبينُ عن الطرف الذي انتصر عليه بنكيران من جهة، والطرف الذي مرغ أنفه في التراب من جهة ثانية، معيداً إياهُ إلى حجمه الحقيقي الذي لا يتعدى "موجات صوتية وبلاغية" في زمن قدر لهُ أن ينتهي ويُأْتَى بالحزب كي يبين إذا ما كانت يداه مخضبتين بالحناء كما يقول المغاربة. من بين المعارك التي خرج منها الحزبُ صاغراً نذكر "واقعة الدفاتر" فبعد أن نوقشت مضامين الأخيرة بمشاركة كافة المهنيين وباركتها الهاكا، لم يكن قد تبقى إلا تطبيقها في القنوات العمومية، بيد أن الخلفي ألفى نفسهُ عقب استدعائه من قبل الديوان الملكي مضطراً إلى مراجعة دفاتره، قبل أن يتم في الفترة ذاتها إعفاء أحمد غزالي لتخلفه أمينة لمريني الوهابي المرأة الحداثية والمنادية بمساواة كاملة بين الرجل والمرأة في مسألة الإرث، وهي مساواة يضيق الإسلاميون بها ذرعاً كما نعلم. إلى جانب دفاتر الخلفي، خسر الحزب الملتحي معركة الولاة، وحين أقحمت بعض الأسماء التي لم يكن الحزب راضيا عنها بسبب سمعة تزكم الأنوف، خرج بنكيران بنظرية أخرى مفادها أن بعض سيئي الذكر من الولاة أصلح لبعض المناطق، ناهيك عن ديبلوماسية عرجاء يقودها العمراني والفاسي في حين يتكفل العثماني باصطحاب كلينتون إلى وضع الحجر الأساس لبناء السفارة الجديدة. وبما أن بنكيران خرجَ بخفي حنين من معاركه مع الكبار واضطر لإخفاء رأسه كالنعامة، لم يجد حرجاً في الاستئساد على شعب مستضعف، بإقرار زيادة في المحروقات رافقتها زيادة في الأسعار، ثم الاتجاه بالتعليم العالي إلى الخوصصة، والضحك على الذقون بطمأنة الطلبة المنحدرين من الطبقتين الفقيرة والوسطى بشأن عدم دفعهم لأي أقساط، والجميع يعلم أن الجامعة المغربية ليست مآلاً إلا لمن تقطعت به السبل وجار عليه الزمان أما الصفوة فيطير أبناؤهم إلى باريس وواشنطن. بعد عقود من نضال لم تخبو جذوته، وسنوات من السجون والمنفى دفعها مناضلون يساريون من أعمارهم رغم كل ما قد يقال عن مسرحية التناوب، نجد أنفسنا اليوم بعد ما نسميه تقدما عن محيطنا الإقليمي الذي صنع "الاستثناء المغربي" أمام رئيس حكومة يقال إن رياح التغيير هي التي أتت به، يخبرنا أن محاسبة المفسدين، المطلب الذي عمدته دماء شهداء العشرين من فبراير، قد تم تغييره بنظرية بنكيرانية على حظ كبير من الدهاء مؤداها الصراخ في وجه مصاصي دماء هذا الشعب "بركة" أو "عفا الله عما سلف". وحين ينفذ الكلام في حضرة الحكومة الملتحية لا يتبقى إلا بيت الشاعر حين قال: (أسد علي وفي الحروب نعامة/ ربداء تجفل من صفير الصافر)