هل نقول إن السجال الذي اشتعل في الأيام القليلة الماضية هو مجرد تمظهر إضافي لصراع قديم بين طروحات فكرية ومنطلقات إيديولوجية متناقضة ومتناحرة؟ من الصعب في اللحظة الراهنة، الوقوف فقط عند الجزء الظاهر من جبل الجليد، فما بدا لأول وهلة مجرد حلقة جديدة في مسلسل قديم، كشف هذه المرة استحالة الارتقاء نهائيا بهذا السجال إلى مستوى الحوار العلمي أو حتى النقاش العمومي. فهذا الأخير تحديداً لا يمكن أن يولد وينمو وتكتب له أسباب الحياة إلا إذا كانت غايته الأساسية هي الوصول إلى أرضية مشتركة - بما ان الاتفاق مستحيل-، اعتمادا على قواعد المنطق وأدبيات النقاش الفكري-العلمي، وهو ما يتعذر حصوله حين يكون الإلغاء والإقصاء وعدم الاعتراف بحق الآخر في الوجود - فأحرى في الاختلاف- مخرجا ومدخلا من وإلى الحوار، ورأسمال جميع الأطراف. وإذا تعذر الحوار، بقواعده ومبادئه المتعارف عليها، نصبح تلقائياً أمام معادلة "احتكار الحقيقة" انطلاقا من أن "رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ لا يحتمل الصواب".. ليقع بعد ذلك اصطفاف تلقائي تحت شعار :"أنصر أخاك ظالما..". لقد كشفت الجلبة التي أحاطت بقضية الغزيوي والنهاري للمرة الألف، أن المغرب لا يتوفر على قنوات طبيعية لتصريف الاختلاف، وأن الصراع بدل أن يكون بين الأفكار اصبح بين الأشخاص، وبدل أن يكون سقفه هو المبارزة الفكرية بين أسلوبين أو منطقين أو تصورين متناقضين، مسرحها الأماكن الطبيعية لصراع الأفكار، أصبحت أداته "سين وجيم"، ومسرحه مصالح الشرطة القضائية.. وحين تستعين "النخب" في تدبير خلافاتها بقانون المسطرة الجنائية، هل تحتاج هذه "النخب" أصلاً إلى شهادة وفاة لإعلان موتها؟ إن الواقعة المشار إليها، تدفعني إلى تسجيل الملاحظات التالية: - لن أتوقف طويلا عند الأفكار التي تبناها السيد الغزيوي أو قيلت على لسانه أو نسبت إليه، أو صدرت عنه فعلا لكن أسيء تفسيرها، فهذا لا يغير من واقع الأمر شيئا، على اعتبار أن هذه الأفكار موجودة في الساحة الإعلامية منذ زمن، تظهر وتختفي تبعا لاتجاه "الرياح"، ويرتبط "إشعاعها" بمدى توفر الظروف "الملائمة"، كما أن هناك من يتبناها بوجه مكشوف، بل كانت بوابته الوحيدة لدخول عالم الشهرة. وهذه ليست مشكلة في حد ذاتها، وإنما المشكلة في أن يحاول هؤلاء - وهم أقلية على كل حال- إلزام الأغلبية بالتعايش مع وضع يخالف قيم المجتمع ويناقض معتقداته. المشكلة باختصار، تطفو على السطح حين نجد أنفسنا أمام أقلية تريد أن تفرض رأيها على الأغلبية. إن المعادلة الديموقراطية بسيطة للغاية، وهي معادلة رياضية بامتياز: أغلبية تحدد السياسات العامة، وأقلية تعارضها، بمعنى أن صوت كل طرف يتحدد تبعا لوزنه في الساحة السياسية، عكس ما عليه الحال في المغرب، حيث الأقليات التي لا وزن لها في الشارع، هي الأعلى صوتا والأكثر ضجيجاً لسهولة وصولها إلى وسائل الإعلام، بما فيها التلفزة العمومية التي تحولت مرة أخرى إلى طرف في الصراع المجتمعي بدل أن تكون جسرا لتقريب وجهات النظر وتصريف الاختلاف، وأداة لعرض الطروحات المختلفة وترك الحكم النهائي للرأي العام. إن الأفكار التي "نسبت" للسيد الغزيوي، ليست اختراعا مغربيا، بل هي "عادة" مشتركة بين جميع "النخب العربية"، وتحديداً منها تلك التي لا تتوفر على عمق شعبي في الشارع، وتحاول التغطية على هذا النقص بوسائل عديدة، منها الترفع على أدوات الديموقراطية، والحجر على الإرادة الشعبية، ونقل المعركة من ساحاتها الأصلية إلى حواري خلفية تحت عنوان فضفاض وملتبس هو "الحرية"، التي سرعان ما يتم اختزالها في الجنس والخمر.. وما إلى ذلك. في إحدى المناسبات، كنا قد أنجزنا ضمن احد أعداد "المجلة المغربية" ملفا حول ممكنات الحوار الإسلامي - العلماني في المغرب، والغريب أن أحد الوجوه "الحداثية" البارزة، خصص أكثر من ثلاثة أرباع مساهمته للحديث عن "الخمر" رغم أنه يعتبر من المنظرين الاقتصاديين والمناضلين اليساريين... إن وجود العقل في أعلى مكان في الجسد، لم يحدث صدفة، كما أن الذين يضعون العقل في المحاجم أو تحت الأقدام، لا يفعلون ذلك اعتباطا، بل رهانا منهم على أن ما لا يؤخذ كثيره بالنقاش العلمي يمكن تحقيق قليله بالعزف على وتر الغريزة. - إن الاختلاف في الرأي، مهما بلغت حدته، لا يمكن أن يبرر النزول إلى الأسلوب "الزنقوي" القائم على التهديد المتبادل وعبارات من قبيل "شهدوا عليه"، بأي شكل من الأشكال، لأن "النقاش" أداته الوحيدة هي اللسان، ولا مجال فيه لاستعراض العضلات، فاللكمة لا يمكن أن تعوض الكلمة. من جانب آخر، لا يمكن في كل مرة مسارعة طرف بعينه إلى ارتداء لبوس الضحية، وافتعال معركة وهمية على أساس تضخيم خطر غير جدي، أو غير موجود أصلا. وأظن أن بعض العاملين في مهنة المتاعب، يتوصلون بين الحين والآخر، برسائل عبر البريد الإلكتروني أو حتى مباشرة، تهددهم وتتوعدهم، فمنهم من يحولها إلى بوابة للإثارة والبحث عن الشهرة، ومنهم من يقرأها على أنها نجاح مهني، ومؤشر على أن كلماته وصلت إلى حيث كان ينبغي أن تصل...وأنا هنا أتكلم من موقع العارف.. كما الموضوعية تقتضي منا التعامل مع فتاوى إهدار الدم ومع تسخير الإعلام العمومي وأجهزة الدولة لترهيب المخالفين على نفس الأساس. - في المغرب هناك، دائما منطق مقلوب يمشي على رأسه. فما يعتبره أغلب المتخصصين والمحللين والمتابعين لمجال ما، فشلا ذريعاً، قد يعتبره مهندسو المرحلة نجاحا منقطع النظير، والمثال بين أيدينا. فبعد سنوات مثلا من تنزيل ما سمي "إصلاح الحقل الديني".. النتيجة الوحيدة الملموسة على الأرض، تتمثل في تحييد العلماء وتحنيطهم وتحويلهم إلى "موظفين" خاضعين لصرامة التراتبية الإدارية. وقد سبق لنا قبل سنوات في "المجلة المغربية" أن أنجزنا ملفا خاصا حول "الفتوى"، وقد لهث الزميل المكلف بإعداد هذا الملف طويلا على أمل الحصول على وجهة نظر المسؤول عن لجنة الفتوى، لكنه بعد محاولات متكررة ومكالمات غير مثمرة، طُلب منه في النهاية إرسال الأسئلة إلى وزارة الأوقاف التي لها وحدها صلاحية إحالة الأسئلة على المعني بالأمر، حتى لو كانت ذات طبيعة صحفية ولا تتعلق بمسألة فقهية. فهذا هو أكبر إنجاز حققه ورش إصلاح الحقل الديني، علماء ممنوعون من الكلام حتى في المواضيع التي تحولت إلى حديث المقاهي، وهو أمر عجيب في بلد يتوفر على أقدم جامعة إسلامية في العالم، ولا يقل علماؤه علما عن نظرائهم في المشرق.. وكأن هذا ربما هو ما سعى إليه أصلا مهندسو "الإصلاح" في نهاية المطاف. ولنستحضر فقط كيف أنه في الوقت الذي تتفاوض في الدول الأوروبية مع عصابات القاعدة في الصحراء الكبرى بل وتدفع فدية تلو أخرى لتحرير رعاياها المختطفين، بادر علماؤنا الأجلاء إلى تكفير الزرقاوي وتوعده ب"هول الجحيم" بعد "حكم" تنظيمه الإرهابي بقتل كل من عبد الرحيم بوعلام سائق بسفارة المغرب في بغداد وزميله عبد الكريم المحافظي التقني بنفس السفارة، بل منح العلماء المختطفين رتبة "شهيد" مسبقا، وطوي الملف، الذي كان في حاجة إلى تحرك ديبلوماسي وليس إلى بلاغ ناري عجل ربما بإعدام الضحيتين. ونفس الشيء تكرر في واقعة الشيخ القرضاوي الذي هاجمه السادة العلماء وجعلوه ضمن "من هب ودب" وفي زمرة "متنطعين مغرورين أساء بعضهم استخدام العلم في غير ما ينفع الناس واتخذه سلما لاعتلاء كرسي الرئاسة والزعامة العلمية فأعطى لنفسه الحق في إصدار فتاواه لأهل المغرب ونصب نفسه إماما عليهم متجاهلا ما للمغرب من مؤسسات علمية وشيوخ أعلام متخطيا بذلك كل الأعراف والتقاليد التي احتكم إليها العلماء قديما وحديثا..".. ومازلنا ننتظر الفتوى "يتيمة الدهر" الموعودة حتى تطمئن قلوب المغاربة لمعاملاتهم البنكية. والغريب في الأمر، أن رسالة ملكية وصفت القرضاوي بعد ذلك بصاحب الفضيلة، وأثنت عليه الثناء الحسن...وجبت ما قاله في حقه السادة المالكية... - ونظرا لانشغال السادة العلماء "الرسميين" بالتوقيع على بلاغات من هذا النوع، أؤكد أنه لو أجري استطلاع للرأي لاتضح أن أكثر الوجوه "تمثيلا" لعلماء المغرب هم شيوخ السلفية الذين زج بهم في السجن ثم استفادوا من العفو، فضلا عن الشيخ النهاري والشيخ الزمزمي. بالنسبة لهذا الأخير، لا يحتاج الأمر إلى توضيح، فالرجل توفق على نظرائه المشارقة من هواة الآراء الشاذة، وصار لفضائيات الإثارة مصدر إلهام مقره الدارالبيضاء، بعدما كان الأمر مقتصرا على القاهرة وبعض دهاليز الجزيرة العربية. أما الشيخ النهاري، فالأكيد أن بعض مقاطع الفيديو المبثوثة على شبكة الأنترنيت تغني عن التعليق. لست هنا بصدد محاكمة النوايا ولا أدعي الاطلاع على ما تخفي الصدور، لكن لنكن موضوعيين وواقعيين، ألا يبدو أحيانا أن هذا الشيخ عبء على الدين تماما مثل زميله وربما منافسه الزمزمي، بما أن ما يفعله ويقوله، يتعدى أثره ذاته ودائرته الضيقة؟ من أكثر المقاطع مشاهدة تلك التي ظهر فيها الشيخ، وهو يكسر إطار صورة أثناء اعتلائه المنبر، خلال إحدى خطبه بطريقة هستيرية جعلت البعض يعلق بالقول إن حضور صلاة الجمعة مع السي النهاري يتطلب الاستعانة ب"خوذات" وربما سواتر ترابية. هذا من حيث الشكل، أما من حيث المضمون، ففقه "الواقع" يقتضي بداية "سد الذرائع" أمام المتربصين، و"درء المفاسد" ولو على حساب جلب مصالح يمكن تأجيلها. فالشيخ جمال قطب مثلا، وهو من كبار العلماء في مصر (رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف)، رفض مؤخرا الرد على سؤال في الفرائض على الهواء مباشرة، وطلب من المتصلة أن توافيه بسؤالها كتابة، تفاديا لأن يستدرج إلى إطلاق فتوى على غير بصيرة. هذا في الفرائض، فما بالك بالمواضيع الشائكة والمتشعبة؟ ألا يوجد في اللغة العربية متسع للتعريض والتورية وما إلى ذلك؟ ألم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم، يستعمل أساليب تبين الحكم الشرعي دون تحديد الشخص الذي كان سبب النازلة، أو فضحه على الملإ؟ ألم يؤد الشيخ النهاري خدمة مجانية بفتحه لهذا الباب الذي أطلت منه أفاعي استغرقت في سبات مطول منذ أن قلب الربيع العربي الطاولة على مروجي الأفكار المستوردة، بعدما عاشت أزهى أيامها عقب التفجيرات الإرهابية التي عرفتها مدينة الدارالبيضاء؟ هل صدّق الشيخ في لحظة ما أنه قائد جيش الفتح القادم من وجدة "الشرقية" لدك قلاع الفجور في الدارالبيضاء "الغربية"؟ إن هذه الخرجات غير الموزونة وغير المتزنة، التي لا تختلف في شيء عن خرجات الشيخ الزمزمي في ما يخص حجم الضرر الذي تلحقه بالإسلام والمسلمين، تبدو بلا غاية في النهاية، لأنها تؤدي فقط إلى توفير أسباب الحياة لأفكار طارئة على المجتمع المغربي كانت في حالة موت إكلينيكي قبل أن يمدها الشيخ النهاري وأتباعه ومريدوه والمتعاطفون معه بعبوة أوكسيجين إضافية؟ وماذا سيكون موقف الشيخ ومن يناصرونه، لو تطوع أحد "المجاهدين" بتطبيق "حكم الله" في حق "الديوث" المفترض؟ ألا يظن السي النهاري أن المؤمن الكيس الفطن، لا يمكن أن يترك "فرجات" لشياطين الجن والإنس؟ ألا تدخل خطوة الشيخ ضمن منطق الاستدراج الذي يسعى البعض من خلاله إلى إشعال حرائق والتفرج عليها، اعتمادا على "سذاجة" بعض الملتحين الذين يعتقدون أنهم ينصرون الله ورسوله، والحال أنهم يخدمون أجندات أعداء الدين من حيث لا يعلمون؟ إن العالم الحقيقي ليس هو من يعرف كل شيء، بل هو الذي يعرف ماذا يقول ومتى يقوله، ولمن، وكيف.. وبعد، المغرب ليس في حاجة لمن يوزعون صكوك الغفران، كما أنه ليس في حاجة لمن يبيعون صكوك الديموقراطية، والنقاش الجاري الآن وبالمستوى المنحط المسجل، لن يساهم في التأسيس لوطن يتسع لجميع أبنائه، لأنه من نوع حوار الطرشان الذي يحضره العميان. لقد سقطت كثير من الأحزاب الأوروبية التي بنت خطابها السياسي على "الإسلاموفوبيا"، وذلك بعد فترة قصيرة من نجاحاتها المفاجئة (هولاندا مثلا)، لأن الرأي العام هناك أدرك بسرعة أن معاداة المهاجرين بسبب معتقداتهم، لا يمكن أن تحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية العالقة، وأن الحجاب والمنتوجات "حلال"، ليست هي سبب الأزمة الخانقة التي قد تؤدي إلى تفجير النموذج الليبرالي. المطلوب في مغرب اليوم، أن نفكر ونعيش ونتعايش كمغاربة، وألا يتصرف البعض كما لو كانوا حراس العقيدة، وألا يتعامل آخرون مع المسلمين في هذا البلد كما لو أنهم مجرد جالية أجنبية.. فاللهم لا تواخذنا بما فعل السفهاء منا touhami69@hotmail .com