يكثر التخابر والتجسس في المجتمع على قدر ما فيه من سواد المظالم التي لا يرعوي أصحابها عن إصلاح ما أفسدته أيديهم، ذلك أن ميزان العدل لا يحتاج معه الحاكم إلى كثرة العسس والشرطة والمخبرين من كل لون لما يتمكن في العامة من معاني الرضا بالحرية والرزق الذي حصلوه بجهودهم ولم ينازعهم عليه لصوص المخزن وزبانيته الذين لا حد لشراهتهم وبطشهم. ولما كان العدل الذي ليس لنا من اسمه إلا يافطة وزارة مشغولة مشلولة فقد خلا الفسيح لأجهزة الجستابو المغربي لإرهاب الناس بشتى الأساليب وعلى رأسها التهم الجاهزة لكل من يعارض لما تقرر عندهم من أن الناس إذا فشا فيهم الخوف من تلفيق التهم، تركوا المطالبة بحقوقهم طلبا للسلامة، وليس حينئذ من منتفع غير شرذمة المستبدين والحائطين بهم، إذ يتوحش سلطانهم ويطول زمانهم وينتشر على رؤوس الأنام بغيهم وبهتانهم. ولقد سبق أن قلنا فيما مضى من نقدنا لنظام السياسة المتغول على الناس المنافق لهم بأن من آيات الخراب في الحكم أخذ الناس بالظنة وجرهم للمخافر بقصد كسر كرامتهم والتشويش على سعيهم في رسالتهم ومطالبهم العلية في شأن تحرير الناس، وهذا لعمري أكبر الضلال ومنتهى الفساد، والله لا يصلح عمل المفسدين. نتساءل اليوم ...ماذا يعني أن يتعرض الأحرار للاختطاف في أوطانهم ويلفق لهم عديمو الشرف تهم الشرف في جو يغني فيه الجميع أناشيد باردة عن وطن هو"منبت الأحرار"..و الحق أنه بات مع عصابة العابثين"مدفنا للأحرار". وإذا كان تلفيق التهم للرجال الأحرار منقصة ليس تحتها في سلم التردي منقصة، فإن تلفيقها للنساء الحرائر نهاية العجز ومبلغ الفسالة عند من ينتصبون لتولي هذه المصائب التي لا تليق إلا بمن نسوا الله فأنساهم أنفسهم. كيف لا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الأمير إذا ابتغى في الناس الريبة أفسدهم". نقول هذا ونحن نستحضر سؤالا مقلقا: ماذا يعني اختطاف الأستاذة هند زروق حرم الأستاذ عبد الله بلة الذي سيم الاختطاف قبلها في ملف مكشوف شهد على بطلانه كل الشرفاء في الداخل والخارج؟ عندما قرأت الخبر ليلة أمس أصابني الذهول لوقاحة الباطل وجراءته، ويا لكثرة ما يصاب المرء من الذهول في مغرب الدستور الجديد والعهد الجديد.. فقد عرفت الرجل وعرفت زوجه في سماء الحق والطهارة والعفة كالنجوم، فهامت على نفسي الهموم كأنها وكأنهن فرائس و صقور، ولست أعلم كيف قفزت إلى الذهن عبارة للأستاذ بيير فيرمورين من كتابه مغرب المرحلة الانتقالية يصف بها مجتمعنا بأنه "مجتمع كل التناقضات" فصل من فصول بحث عن"مجتمع منهك"، وهو يستعرض في كتابه أوجه التناقض الذي لا يجد المتابع عناء في لحظه لما تقع عليه عيناه في"المملكة السعيدة" عجائب الفجائع، ففي الوقت الذي يُطبل فيه لحقوق الإنسان في إعلامنا البليد يتولى جماعات المنافقين جلد الناس وسوقهم للمخافر بسبب و بدونه، وفي الوقت الذي يكابر رئيس الحكومة و وزيره في العدل بأن المغرب قد تغير و يخرج للناس ليبشرهم بأن عهد الاستبداد مع الدستور الجديد قد ولى و أن الرخاء قد أناخ بالديار و حل، لا تتأخر عصابات البوليس السري العاملة تحت إمرته في الفتك بالمسالمين و ترويع الآمنين،... ما أشبه يومنا بأمسنا... فالتاريخ يحدثنا أن زياد بن أبيه كان أول من رأى... و لبئس ما رأى..! أن في قتل الأبرياء صلاح الأمة حين فرض منع التجول على البصرة، و كان يأخذ بالشبهة و يعاقب على الظنة، و يرسل جواسيسه و مخبريه ليأخذوا معارضيه بالتهم الباطلة نساء ورجالا، و مثله كان الحجاج بن يوسف حتى قيل إنه وجد في سجنه بعد موته ثلاثة وثلاثون ألفا لم يَجِب فيهم قتل ولا صلب. فمتى ينعم الناس بحريتهم في هذه"المملكة السعيدة"...؟ ومتى ينشغل الأمن عندنا بالمفسدين الحقيقيين وسارقي المال العام ومن يتاجرون في خبز المغاربة وأعراضهم من الكبار، ومتى يتركون الناس ليستريحوا في أمان من غير أن يقتحم عليهم عصابة المخابرات هدوءهم ويفسدوا عليهم حياتهم..إنها مهنة قذرة تلك التي تتعقب فيها هذه المخلوقات الناس وتكيد لهم،... مهنة الخزي الذي لا تطيب نفس أحد من العاملين فيه إلا إذا كان من الأسافل... "من واجبي أن أبصرك بما ينتظرك في هذه الخدمة، إن أحسنت فلن تتلقى الشكر، وإن انزلقت في مكروه فلن تجد عونا منا، فهل هذا مما تطيب به نفسك"... تلك كانت كلمات الكولونيل للجسوس شندن الذي يعده لهذه المهمة القذرة في رواية "كنت جاسوسا" لوليم سومرست موم... *أكاديمي مغربي