قبل حوالي ثلاث سنوات، قمت بإجراء اتصالات مع عدد من الأفراد العرب، وخاصة المغاربة منهم، في محاولة لتأسيس مؤسسة تعنى بقضايا الراهن العربي. كما حاولت أن أخوض في لم شمل الجالية ليكون لها صوت في منطقة ماساتشيوسيت، مع إصدار صحيفة تعنى بقضاياهم، والعمل على مساعدتهم في العديد من الأمور التي تهم حياتهم اليومية والقانونية.. غير أنني فوجئت بمستوى الغالبية من المهاجرين، وآنئذ فهمت لماذا تشكلت لدى الأمريكيين، بالخصوص، هذه الصورة السلبية والكارثية على الإنسان العربي. فقد حاولت أن أتأمل الفئات المكونة للجاليات العربية (المغربية) المهاجرة فانتهيت إلى أن هناك - فئة من المثقفين والأكاديمين الذين انخرطوا في المجتمع واندمجوا فيه مؤثرين ومتأثرين، وهؤلاء يشكلون نخبة لاتواجه أي مشاكل حقيقية في أن تجد مكانها داخل المجتمع، متواصلة معه ومتحاورة وهي فئة لها مكانتها وتلقى من الاحترام ما يجعلها بعيدة عن كل صدام ثقافي أو حضاري أو اجتماعي.. - فئة من المهاجرين العمال، وهي تتوزع بين فئتين: 1- فئة هاجرت عن طريق حصولها عن التأشيرة، واستقرت سرا في البلد، وهي فئة تعيش أوضاعا نفسية جد صعبة، بحيث إن أرق الحصول على أوراق الإقامة قد كان من وراء تشتيت أسر بكاملها، مادام أن الحل الأوحد الذي بين أيديها هو الزواج، لذلك كان الأزواج يلجأون إلى "الزواج الأبيض" الذي يتحول إلى زواج أسود، فتتزوج الزوجة بزوج مقيم بصورة شرعية، ويتزوج الزوج بزوجة مقيمة بصورة شرعية وغالبا ما تكون أمريكية، أما الأطفال فيظلون ضحية هذه الآفة..وهذا ما جعل السلطات تضع حدا لكل أنواع الزواج مادام أن الأرشيف مليء بملفات الزواج/الطلاق..! 2- فئة جاءت إلي البلد عن طريق ما يعرف ب"القرعة" وهم في الغالب عبارة عن "شباب" حالفهم الحظ بضربة نرد لم يحلموا بها، وسرعان ما تغيرت حياتهم رأسا على عقب، فمن "الحمارة" إلى "الطيارة" -كما يقول المثل- وهؤلاء هم الذين يشكلون فئة عريضة وتتزايد مع مرور السنين، وهي فئة تختزل -في غالبها- كل صور البؤس الثقافي والسلوكي، وقد زادت "صدمة الحداثة" من تعقيد الوضع. فبما أن لديهم أوراق الإقامة، وبعضهم حاصل على الجنسية، فإن سلوكاتهم تنم عن جهل فظيع بكل قيم التواصل والحوار، وهو ما جعلهم ينفقون كل وقتهم في العمل. بعضهم يشتغل أكثر من عملين، وبعضهم يشتغل على مدار الساعة!! وما يلفت الانتباه إلى جانب حبهم الغريب للمال وطموحهم إلى أن يتحولوا إلى أغنياء، هو كرههم الشديد للمجتمع الذي يعيشون فيه ومنه وعليه، فهم لايتورعون في أن ينعتوه بكل الصفات "الجهل" و "الغباوة" و"العنصرية" و"الكفر"، ومن ثم فهم يستبيحون كل شيء، العبث بنسائهم، والتملص من الضرائب، ومحاولة استغلال كل ما تقدمه الدولة من خدمات اجتماعية، ويظلوا يتلفظون بكل الألفاظ التي تدل على تحقير "الأسود"، ولاتراهم إلا مسرعين مهرولين بسياراتهم من عمل إلى آخر، وغالبيتهم يكتفي بكراء شقة مع شركاء آخرين، وتتحول غرف البيت الواحد إلى عوالم، وتتحول أجواء البيوت إلى "زقاق" بكل ما يحمله هذا الفضاء من تنوع وفضاءات، وحتى الثلاجة الواحدة التي توجد في المطبخ ، تفاجئك حين تفتحها فتجد أكياسا مكتوب عليها اسم مالكها، وحتى البيض يكتب عليه اسم من يملكه (من سيأكله)!!! ويوم تجمعهم صدفة ما يجلسون على مائدة الدار، بعد أن يطبخ كل فرد طعامه، ويتناقشون عن أحوال البلد وجماله، ثم يعرجون بعدها على موضوع الدين والإسلام، ويحللون السياسة الأمريكية ذات النزعة العنصرية وينتصرون للرئيس "الأسود" وهم يفتخرون به باعتباره ظاهرة وضعت حدا للعنصرية الأمريكية ولسياسة بوش المعادية للإسلام والمسلمين..!! ثم بعد أن ينهوا وليمتهم يصبون جام غضبهم على الهجرة والاغتراب، معتبرين أن محن الوطن وترابه، أجمل من ذهب بلاد المهجر؟!! قال لي أحدهم ذات يوم: "إن هؤلاء الكفار عنصريون.. أنت لاتعرف سمومهم، خصوصا السود منهم.." قلت له "ما العنصرية؟" قال لي: "تصور أنني كنت متزوجا بأمريكية "سوداء" وكانت تتصرف كما لو أنها أميرة؟!" أجبته " هي ذي العنصرية؟!" قال: "إنهم أنانيون، والمرأة هنا لها حقوق كثيرة، وإذا ضربتها فإنها تزج بك داخل السجون، وكم من أمريكية حطمت زوجها العربي لسبب واه قد يكون مجرد صفعة على خدها، وكم شخصا سجن بسبب شتمه لشخص ونعته بأنه أسود (رغم سواد بشرته؟)"؟! فالعنصرية هي ألا يضرب الزوج زوجته، وأن يتساوى الناس في القانون، وأن يهتم الناس بأحوالهم الصحية..!!! لذلك يمزقهم الحنين إلى"الطست" البلاستيكي المربوط إلى "الخابية" في الأزقة والدروب، وقد تراكمت فيه كل جراثيم الحي، ويشعل فيهم كل ألوان النوسطالجيا والاغتراب..أما قاموس الشارع المغربي "عزي (الأسود) -بالدارجة المغربية-" و"الهجالة (المطلقة)" و"الشارفة (العجوز)" و"العروبي (البدوي)" و"الجبلي (البدوي)" فهي مجرد كلمات يتغنى بها الأفراد للدلالة على الاختلاف والتنوع وليست عنصرية..! مادام أن أفراد المجتمع يشربون من كأس واحدة، ويتناوبون على سجارة واحدة، ويأكلون بملعقة واحدة ويدسون الذبابة كلها في الطعام حتى يقتل جناح سم جناح آخر كما ورد في الصحيح..! هي ذي العنصرية..أن يتزوج المهاجر بامرأة أمريكية سوداء أو بيضاء (على السواء) ويستخرج أوراق الإقامة وتساعده على الحصول على الشهادات والعمل ثم يلفظها "ليستورد" امرأة من بلده بعد أن تتكفل أمه أو أخته بانتقاء "ابنة الناس" التي يصادق عليها مجلس العائلة وتمنح تأشيرة الرحم الصالح لاستمرار السلالة..دون أن يكون لها الحق في أن تستفسر فيما إذا كان هو ابن الناس..!! لقد سمعت من عبارات السب" والشتيمة من المهاجرين في هذه البلاد، ما لم أسمعه من قبل، وقد أرقني كثيرا هذا السلوك العدواني، الذي هو نتيجة طبيعية لعدد من العوامل، غير أنني حين سألت أحدهم: "ومن أرغمك على البقاء هنا؟" رد بتفاهة "هم الذين جاءوا بي واختاروني في القرعة"!؟ وقد فاجأت شخصا في لقاء عابر، حين كان يمدح الرئيس الجديد ويعتبره انتصارا للدم الإسلامي العربي، وانتصارا على العنصرية الأمريكية، وسألته: "هل تظن أن أوباما أسودا كما تعتقده؟" رد "هل صبغوه؟" قلت "لا..لقد تم اختياره..لأن السياسة الأمريكية ليست كما تسمع عنها في النشرات العربية التي تلحنها بكل ألات العزف الحماسي الرديئة..والدول الغربية لا يحكمها الأفراد كما الحال في البلاد النامية، وإنما الذي يحكمها هو مشروع الوطن الذي يخطط له.. إن الغرب يحقق انتصارات من نوع لانعرف عنه شيئا نحن العرب..إنهم تجاوزوا الأعلام والأحزمة المكتوب عليها عبارات النصر المسبق.. لقد تركوا لنا النصر لنحتفل به ونشهر البنادق التي تلعلع في الفضاء بعد أن صنعوها وهرّبوها إلينا لكي نقاوم العنصرية والأعداء..!".. إن العنصرية في المجتمعات الغربية لاتقل حدة عن مثيلاتها في المجتمعات العربية..بل إن عنصرية الغرب -وهي من نوع آخر- تظل أهون وأقل قساوة من العنصرية التي يمارسها المجتمع والأفراد (في البلاد العربية)، وقد ورثوا قاموسا وصنعوا مماليك تزدهر فيها الطبقية والسب والحط بالكرامة.. ليس هناك من عنصرية أشد مضاضة مما يحمله القاموس الشعبي عن "الأسود" و"الهجالة" و"العانس" و"الأجنبي [أهل الذمة]".. وليس أكثر عنصرية من تلك الصفقات المشبوهة التي تهدى على طاولات المسؤولين على المال العام، وليس أكثر عنصرية من هؤلاء الذين يتحدثون عن النضال والصمود ويقفون في مقدمة التظاهرات المتضامنة مع مشاريع "الأوهام" التي لاتزيد العربي إلا تخديرا وسباتا و"إلهاء"، وليس أكثر عنصرية من أولئك الذين تجندوا لخدمة "الشباب والمستقبل" و"المرأة"، وهم يبيعون الجثث بعد أن يخلصوها من أرواحها ببرودة دم لاتطاق، وهم يجلسون من وراء مكاتب فاخرة وبأجور يصعب كتابة أرقامها المتعددة، والشباب الجميل يحتضر أو يتعفن بعد أن تخلى عن الأمل والحلم والحياة.. لا عنصرية إلا تلك التي نتجرعها صباح مساء ونحن نمر عبر الشوارع... ونحن نلج الإدارات العمومية، كما الخاصة، مسلحين بالأوراق النقدية التي وحدها تمنحنا تأشيرة قضاء مصالحنا، وليس أكثر عنصرية من نظرة العربي المسلم إلى الأسود الذي لايرى فيه غير آلة صالحة للاستعباد..ولاعنصرية إلا العنصرية التي يعيشها الوطن العربي، من الدين إلى الجنس!!!