يطرح النقاش الجاري حول دفتري تحملات الشركة الوطنية للإذاعة و التلفزة و شركة صورياد دوزيم أسئلة تاريخية و نظرية- علمية و مهنية متداخلة تصب كلها في استجلاء اللحظة التاريخية و السياسية المغربية الحالية في إطار الانتقال التدريجي نحو الحداثة. لقد سبق لي شخصيا أن تناولت موضوع الإعلام العمومي السمعي البصري من زوايا متعددة و وقفت على مدى تعدديته و ديموقراطيته. في الهوامش الموالية ساحاول ا ن ابين الوجه المشرق و الداعي للتفاؤل من كل هذا التكالب غير المسبوق على مسؤول حكومي جاء عبر صناديق الاقتراع. إننا نعيش لحظة مخاض في طريق طويلة لاحترام " المنهجية الديموقراطية" و إقرار " المجتمع الديموقراطي الحداثي" و إعمال مبادئ المسؤولية و حكم القانون و العقلانية و حماية الحريات الفردية و الجماعية...و كلها شعارات رفعت قبل الربيع العربي و بعده. لكن عندما يجد الجد و تقع الواقعة، يتبين لنا الخيط الحداثي من الخيط الريعي المحافظ على مصالحه و لو بمحاولة تمزيق الدفاتر و إعادة " دمص الكارطة" من جديد. -1- مكنت الدفاتر من تسريع حصول تحول أساسي و حاسم في علاقة أجهزة الإعلام العمومي ( على الورق و الرسمي فعليا إلى أن يحصل تحول حقيقي) مع المؤسسات الدستورية عامة و الحكومة بصفة خاصة. فمنذ إنشاء الإذاعة و التلفزة المغربية، ظل مسؤولو الجهاز يعتمدون على التوجيهات و التعليمات الشفوية المنبثقة مباشرة من محيط المؤسسة الملكية أو أجهزة أم الوزارات في الحقبة الشهيرة للراحل إدريس البصري. لم نكن نسمع لهم حسا و لا خبرا كما يقول المصريون. كانوا صامتين ابد الدهر ينفذون ما يؤمرون. كانت صحافة الاتحاد الاشتراكي و حزب الاستقلال تقيم الدنيا و لا تقعدها في أعمدتها و أركانها و صفحاتها الإعلامية... و لا حياة لمن تنادي، و لا " مقاربة تشاركية" و لا " عبو و الريح". -2- بعد التحولات التنظيمية و التدبيرية للمشهد السمعي البصري منذ بداية العهد الجديد،و على الرغم من اصدار دفاتر التحملات الأولى التي – يا حسرة على العباد- بقيت أسيرة الموقع الالكتروني للهاكا و لم يتنبه لوجودها إلا المهتمون أو الباحثون، ظلت العلاقة بين المؤسسة الحكومية و الجهاز شبه ثابتة، على الرغم من " الصواب و الأدب" و اللقطات المصورة هنا أو هناك التي كانت تخفي الستاتيكو التارخي، حيث يلعب كل طرف أمام " باب منزله" و لا سبيل للوزير الوصي أن يدق الباب و يدخل دخول الخلفي. كانت دفاتر شبه ميتة لا يطبق منها بالحرف و النقطة و الفاصلة إلا ما يتعلق بالمؤسسات الدستورية في موضوع نقل الخطب و تغطية الأنشطة الملكية و الوزارية و البرلمانية. كما تبين تقارير الهاكا بعض الاختلالات في إقرار التعددية السياسية . -3- جاءت دفاتر الخلفي لتملأ الدنيا و تشغل ناس التلفزيون العمومي، حتى حسبت أن الرجل قد ارتكب خطيئة لا تغتفر أو ضل ضلالا مبينا. و الحال انه كان يسابق الزمن لإصدار الدفاتر حتى لا يحصل فراغ تنظيمي بعد متم شهر مارس المنصرم- تاريخ انتهاء الدفاتر السابقة التي لا نكاد نجد من يذكرها بالخير او بالشر و كأنها لم تكن موجودة أصلا. سيذكر التاريخ أن هذه الحكومة - بواسطة الدفاتر اياها- قد أطلقت رصاصة الرحمة على عهد " الشفوي" و الغموض و اتساع هوامش المناورة ( غير المهنية للأسف)، و أدخلت الإعلام العمومي عهد " المكتوب" و " العقد الملزم". لقد ولى زمن الاختباء وراء " المقدسات" و جاء زمن الاحتكام إلى النصوص و الوثائق الملزمة. لقد حصل تحول نوعي مهم في علاقة بعض النخب بالإعلام العمومي، حيث لم يعد يكفي تدبيج مقالات الرأي في الصحف و المجلات أو حتى طرح الأسئلة البرلمانية على الوزير الوصي، و إنما صار دفتر التحملات بمتابة تفاحة نيوتن التي غيرت البراديجم المهيمن. -4- ما سيذكره التاريخ ايضا لمسؤولي القطب العمومي أنهم ساهموا في تحديث العلاقة بين الاعلام العمومي و السلطة السياسية( و لو عن طريق الخطأ): الإعلام العمومي شأن سياسي بامتياز، و السلطة المنتخبة من الشعب هي تحدد مبتداه و خبره بتشاور مع من يهمهم الامر. إنها طريق طويلة نحو حداثة الإعلام العمومي، بدل سلطويته أو ريعيته أو تبعيته لمراكز نفوذ غير مرئية تتكلم من وراء حجاب. فطوبى للخلفي الذي أراه أكثر حداثية و ديموقراطية من الكثير من " الأصوليين الحداثيين" الذين يرفعون " الحداثة" شعارا للاسترزاق و التحياح، في حين أنهم يخدمون أنواعا من التقليد و الريع و الإقطاع و الاسعباد و احتقار الشعب لا أول لها و لا اخر. -5- ليست الحداثة هي معارضة " الخلفي و من معه" و لو طارت معزة. ليست الحداثة هي تجفيف الخطاب الهوياتي و الديني المحتمل للعدالة و التنمية و السكوت عن الاصل الهوياتي و الديني لنشوء و تطور الدولة المغربية من مولاي ادريس الى دفاتر الخلفي. ليست الحداثة هي معارضة السلطة الوصية باستعمال سلاح الإعلام ضد الوزير الوصي على الإعلام لأنهم مسؤولو إعلام. ليست الحداثة هي ادعاء وجود هوية تاريخية دائمة و مهددة لشعب او قناة تلفزيونية. كونوا حداثيين بالفعل. "مارسوا" حداثتكم في كل وقت و حين، و في كل الملفات و مع جميع المسؤولين و المؤسسات، و لا تتعلموها فقط فوق رأس الخلفي أو رؤوس البي دي جي. كونوا حداثيين على الأقل داخل قلاعكم الحصينة و في علاقاتكم و قراراتكم " المهنية" التي صارت باطلا يراد به باطل( كما قال محمد العربي المساري في مقال صدر اليوم 23 ابريل 2012 في جريدة "أخبار اليوم المغربية"؛ و هو الذي غادر سفينة الإعلام ايام حكومة اليوسفي بعد ان ذاق سم حداثتكم المزعومة). لا حداثة لمن تنادي للأسف.