يتفق العديد من المحللين والمتتبعين للشأن السياسي في المغرب على أن الحكومة الحالية التي يترأسها حزب العدالة والتنمية والتي جاءت في سياق حراك التغيير الذي عرفته عدة دول في الجوار الإقليمي، هي حكومة خطاب "هوياتي" انبنت مشروعية الحزب الذي يقودها وشعبيته النسبية ورهانه الإيديولوجي على تبني منظور إسلامي أحادي للخيار الهوياتي في المجتمع. ورغم أن تركيبة الحكومة تضم أحزاب من مشارب إيديولوجية وسياسية مختلفة بل ومتباينة، فإن سياق تشكيلها والصفة السياسية للحزب الذي يترأسها، وكما دلت على ذلك العديد من التدابير والتصريحات والنقاشات التي ميزت المائة يوم الأولى من عملها، كلها تؤكد صفتها الهوياتية وما يرتبط بذلك من أسباب ورهانات وأفخاخ كما سنوضح ذلك. فإذا كانت بعض الإشارات الأولية التي حرص وزراء حزب العدالة والتنمية على إطلاقها خاصة فيما يخص محاولة محاربة الفساد واعتماد الشفافية في التدبير القطاعي تستحق التنويه بها، فإنه من الملاحظ أن إطار هذه المحاولات وتابعاتها يرتبط بالخطاب الهوياتي والأخلاقي الذي حاول الحزب أن يبني عليه شرعيته السياسية وعلاقته بالناخبين، مما يطرح عليه وعلى تجربته الحكومية سؤال حدود الخطاب الإيديولوجي على محك الممكن والانتظار السياسي والاجتماعي. تعود أسباب وخلفيات الوضعية الراهنة والردود الأولية التي صدرت عن وزراء ومسؤولي الحزب إلى وضعهم السابق الذي امتد عند بعضهم لأكثر من عشرين سنة كمناضلين ومحتجين ومعارضين وإسلاميين، ومقتضيات صفتهم ووضعيتهم الجديدة كمنخرطي الحزب الحاكم وكمسؤولين وحكام ومدبرين ومسلمين. فعندما يشاهدون اليوم احتجاجات المعطلين والمهمشين وصور قمعهم فهي ضدهم بعد أن كانت قبل أيام لصالحهم، وعندما يضرب رجال ونساء التعليم والجماعات والصحة والعدل...يحرجون لأن في ذلك اختبار لوعودهم وحكمهم بعد أن كان الإضراب يؤجج خطابهم ومعارضتهم، وعندما يلمحون مثلا مشاهد متحررة أو برامج معينة في القنوات التلفزية لا شك أنهم يسرعون في غظ الطرف لأن "صوت الإسلام آت" التي رددوها في حملاتهم التعبوية كانت توحي وتعد "بفتح" الإذاعة والتلفزة والمدارس والأحياء والساحات. انطلاقا من طبيعة هذا الانتقال طفت تجليات الطابع الهوياتي للحزب وخطابه ورهانه السياسي من خلال محاولات بعض وزرائه في الحكومة الحالية الإسراع بإبراز البعد "الإسلامي" لتدبيرهم القطاعي. فوزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن طمأنت المنتظرين بإشارات تنم عن موقفها الثابت من سن الزواج وكان موقفها من ظاهرة الاغتصاب في المجتمع ملتبسا، وقد زاد من تداعيات اللبس تصريح رفيقها في الحزب السيد وزير العدل والحريات خاصة بعد إسراعه بزيارة دعم لرئيس جمعية الدعوة والسنة المفتي بجواز زواج بنت التاسعة، ووزير الاتصال قدم دفاتر تحملات للقطب العمومي تتوخى المهنية والشفافية لكن لا يخفى نزوعها الإيديولوجي والتنميطي، ووزير التعليم العالي سارع بدوره فزف للطلاب المغاربة مشروع تأسيس جامعة سعودية في المغرب. ولعله من نتائج هذه الوضعية تتبع المواطنين والمواطنات للكيفية التي تصرفت بها بعض الأطراف المحسوبة على الحزب الحاكم من أفراد وجماعات في بعض المناطق، معتقدة بأن المسؤولية الحكومية للحزب تخول لهم السيادة المحلية والاضطلاع بمهام الأمن والإدارة في المدن والأحياء والثانويات. والسعي الحثيث لدى بعض أتباع حزب العدالة والتنمية والجمعيات الموالية له والمؤازرة لمواقفه إلى الإسراع بالقضاء على الآراء المخالفة من كيفية التعاطي مع المكون اليهودي والذاكرة الثقافية لهذا الحضور في بعض المناطق بالمغرب، وذلك عبر مطلب تجريم التطبيع. من النتائج الأولية للمحك الذي يتواجد عليه الحزب خلال الأسابيع الأخيرة ظهور بعض أشكال ازدواجية الخطاب والخلافات الداخلية في صفوفه، وهي نتيجة موضوعية ومنتظرة حيث أن انتقال الحزب ومناضليه من الفضاء الرحب والشاسع للآراء والردود المعارضة المكسوة بالقاموس والمظهر الإسلاميين، إلى كراسي المسؤولية والحكم المجلدة برهانات وضوابط السلطة هو انتقال من الخطاب إلى الممارسة ومن الوعود إلى الأعمال ومن إمكانات الخطاب الإيديولوجي إلى ممكنات الفعل وانتظارات المجتمع من التدبير السياسي. ازدواجية الخطاب ستكون نتيجة موضوعية لوضعية مزدوجة : الحكم والرغبة في الحفاظ على المواقف المشكلة خلال المعارضة وما يرتبط بها من مقولات هوياتية ذات مضمون قيمي وإيديولوجي لا يمكن تطبيقه السياسي في مجتمع متعدد ومتحول تمسك السلطة بزمام تناقضاته وخياراته الكبرى. وهذا ما يفسر تقاسم الأدوار الذي شرع الحزب في اعتماده من خلال توظيف ورقة وصوت بعض النواب البرلمانيين والدراع الجماعي والمكاتب المحلية والإقليمية لحل إشكال المصداقية والرهان الهوياتي من جهة، واغتنام فرصة الحكم وعائداته، من جهة أخرى. ولا شك أن مستقبل التجربة الحكومية لحزب العدالة والتنمية على الأمد القريب ونجاحها رهينين بالإقدام الواضح والمسؤول للحزب على حل هذه الازدواجية التي تجد أسبابها ومؤججاتها في ازدواجية الخط الإيديولوجي للحزب وجمعه بين الدعوة والسياسة. وهذا يتطلب الإقرار من موقع التدبير السياسي بأن الخطاب الهوياتي من منظور أحادي لا يمكن أن يشكل عصب البرنامج الحكومي في محيط سياسي متوتر وظرفية اقتصادية جد صعبة وسياق ثقافي كوني مفعم بالانفتاح والتحديث رغم كل مظاهر التقليدانية والردة الحقوقية التي قد تلوح في الأفق. فالانشغال بإجراءات أسلمة الدولة أكثر مما هو حاصل لن تعفي الناخبين وعموم المواطنين والمواطنات من التقييم الموازي والآني لأداء الحكومة والحزب الحاكم على مستوى رفع نسبة النمو وتشغيل المعطلين وصون الحريات ومحاربة الفساد واستصدار القوانين التنظيمية بما في ذلك القانون المنظم لترسيم الأمازيغية وتنمية العالم القروي ورفع الأجور وتوفير الاستشفاء والتعليم والسكن ألائق... ونعتقد أن تلك هي المؤشرات الفعلية التي ستعتمد في تقييم أداء الحكومة الحالية، إن وعت ذلك فعلا.