بسم الله الرحمن الرحيم المطلب الشرطي لأي دولة مدنية عادلة تعتمد الآليات الديمقراطية الحقيقية هو ضرورة الفصل بين السلطات الثلاث:التنفيذية والتشريعية والقضائية،فلماذا عندما نأتي إلى الحديث عن العلماء نسمع كلاما مُكرَّرا مؤداه أنهم مُندمجون في الإمارة،وأنه " لم يبق للعلماء والدعاة والأئمة إلا استعادة وظيفتهم النبيلة، وهي النيابة عن الإمامة العظمى،والوفاء لعقيدة البيعة والإمارة"1 ،وأن الحرج الذي يستشعرونه "أمام ممارسة الحرية التي لا تزينها الأخلاق ولا يزجرها القانون لا يمكن أن يُخفِّف منه إلا تصبرهم على الأذى"،مع العلم أنهم نظريا يُشكِّلون جزءا من السلطتين التشريعية والقضائية،فهل الوفاء المطلق وبدون شروط والتصبر على الأذى يدخل في معنى الميثاق،والإجابة على هذا السؤال تقتضي استنطاق النصوص واستقراء الواقع،لأن ثمة مؤشرات تحمل على الاعتقاد أن ثمة مخططا رهيبا لتمييع اسم "العالِم". قال الله سبحانه:" وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيِّنُّنه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلاً فبئس ما يشترون "2،فالآية تشرف بالمتدبِّر فيها على عدة أمور: 1. الميثاق هو العهد المؤكد بيمين. 2. قال جمهور العلماء: الآية عامَّةٌ في كلِّ من علَّمه اللَّه عِلْماً، وعلماءُ هذه الأمَّة داخلُونَ في هذا الميثاقِ،فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. 3. البيان هو تفصيل المجمل والإفهام والإعلان والتعليم،قال علي كرم الله وجهه:" ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يُعَلِّموا" 4. الكتمان هو الإخفاء، وقد ورد الوعيد الشديد بشأنه "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون،إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم"3، و قال صلى الله عليه وسلم: " مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَار"4، 5. نبذ الكتاب وراء الظهر هو إهماله وعدم إعماله،أوعدم الالتفات إليه أصلا. 6. (اشتروا به ثمنا قليلا) قال صاحب التحرير والتنوير:" والاشتراء هنا مجاز في المبادلة والثمن القليل، وهو ما يأخذونه من الرُّشَى والجوائز من أهل الأهواء والظلم من الرؤساء والعامّة على تأييد المظالم والمفاسد بالتأويلات الباطلة، وتأويل كلّ حكم فيه ضرب على أيْدي الجبابرة والظلمة بما يُطلق أيديهم في ظلم الرعيّة من ضروب التأويلات الباطلة، وتحذيرات الذين يصدعون بتغيير المنكر". إذا فالميثاق المأخوذ من العلماء هو "فريضة البيان" التي تتنافى مع : 1. الاكتفاء بالإجمال والتغطية على الحقائق بالخوض في العموميات 2. النقد العام الغامض للمنكر مادام المُنكِر لا يسمي أهل المنكر وسدنته وبؤرته،وإغفال التنبيه على درجات المسؤولية في إشاعة الفساد والظلم :هل يتحملها من هم في أعلى هرم السلطة أو من هم في وسطها أو من هم في أدناها أو هم جميعا. 3. استعمال النصوص الشرعية في غير محلها ليستفيد من مقتضياتها غير المعنيين بها،كاللجوء دائما لضمان طاعة مطلقة وقمع المعارضة إلى قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"5،أو الاستنجاد بحديث " من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"6 وتعمد الخلط بين البيعة الدينية التي كانت لا تعني أكثر من الدخول في الدين الجديد والالتزام بأحكامه،والبيعة السياسية التي تتعلق بمنصب مدني تختلف بشأنه وجهات النظر،ولا يتهدد الرافض لها وعيد الميتة الجاهلية. 4. التحريف في تأويل النصوص،وهو مناقضة صريحة للبيان والتبيين،وإسهام في تغميض الأحوال على الناس،وقد وقع الكثير من هذا التحريف في التاريخ القريب والبعيد،ولقد سمعت أذناي أحد رؤساء المجالس العلمية الذين استضافتهم التلفزة المغربية في نشرتها المسائية في بداية الحراك الشعبي الفبرايري فأفاض في التحذير من الفتن ومِمَّن يسعون- في رأيه- إلى إثارة الفتن،وذكَّر بواجب الدولة في الحفاظ على الأمن،وبسرعة البرق أقحم حديث" من جاءكم وأمركم جميعا على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه"7 فيما يعتبر فتوى صريحة تجيز قمع الاحتجاجات ولو وصل الأمر إلى حد القتل،والرجل نسج - مقلدا تقليدا أعمى- على منوال ابن العربي الذي تكلف الدفاع عن قتلة الحسين إلى حد القول:" طلب (أي الحسين رضوان الله عليه) الابتداء في الانتهاء، والاستقامة في الاعوجاج، ونضارة الشبيبة في هشيم المشيخة (...) وما خرج إليه أحد إلا بتأويل، ولا قاتلوه إلا بما سمعوه من جده المهيمن على الرسل"8 وهو يقصد حديث "من جاءكم وأمركم..)،وقد رد ابن تيمية على هذا التعسف في التأويل فقال:" وصار الناس في قتل الحسين - رضي الله عنه- ثلاثة أصناف: طرفين ووسطا، أحد الطرفين يقول: إنه مات بحق، فإنه أراد أن يشق عصا المسلمين ويفرق جماعتهم،وقد ثبت في الصحيح عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال:من جاءكم وأمركم على رجل واحد، يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه،قالوا:والحسين جاء وأمر المسلمين على رجل واحد،فأراد أن يفرق جماعتهم، والطرف الآخر قالوا: بل كان هو الإمام الحق طاعته، الذي لا ينعقد أمر من أمور الإيمان إلا به (...) وأما الوسط فهم أهل السنة الذين لا يقولون هذا ولا هذا، بل يقولون: قتل مظلوما شهيدا، والحديث المذكور لا يتناوله "9. 5. الإدلاء بآراء فتوائية تفتعل معارك وهمية وتُشغل الناس عن القضايا الجوهرية والرئيسية،وتقدم صورا كاريكاتورية عن الدين وأهله،وتداري عجز الذين يدلون بها. 6. التوسع في الرقابة الذاتية والحديث بمقدار، والحرص على إعطاء الانطباع عن الولاء والإخلاص،وتَوهُّم المراقبة والمتابعة في كل ناد ومجلس من "المْقْدم" إلى من فوقه،والخوف من المحاسبة التي تؤدي إلى فقدان المنصب،وتجلب سخط الناس. 7. السرية تنافي البيان،ففي غَلَس التَّخفِّي تتضخَّم الأخطاء ولا يتاح تصحيحها وتجاوزها،فلا أثر يُرجى لرأي علمائي يُهمس به بين الجدران ولا يتم إطلاع الناس عليه،لا سيما في زمان انتزع فيه عامة الناس حقهم في التعبير عما يعتقدونه بكل حرية على نحو لم يعد من المقبول أن يظل الجسم العلمائي متخلِّفا عن الركب ومترددا ومتوجِّسا. أما الكتمان فيمكننا أن نَعُدَّ من صوره: 1. عدم تقدم العلماء بآرائهم في القضايا التي تستأثر باهتمام عامة الناس. 2. الروغان لتلافي الإجابة عن الأسئلة الحرجة المتصلة باحتكار الثروة الوطنية من طرف أقلية حاكمة،وتبديد الأموال العمومية،ولوبيات الاختراق الثقافي والهوياتي... 3. تزييف الوعي الديني بالترويج لمقولات ترسخ القابلية للخضوع والعبودية وتصوير تلك المقولات في صورة "ثوابث" لا يمكن تغييرها ولا حتى بيان معانيها الحقيقية. 4. الإنكار على من يُبيِّن وينصح ولا يكتُم مخافة الاتهام بموافقتة وإقراره على ما يقوله. ويتنزل نبذ الكتاب وراء الظهر واشتراء ثمن قليل به على معاني: 1. عدم العمل بالعلم واتخاذه لمجرد الزينة وتصدر المجالس والحصول على سلطة رمزية تلبي الطموح إلى الرئاسة والزعامة . 2. اعتبار الإسلام شيئا من الماضي الذي يتعين تجاوزه وفي أحسن الأحوال التبرك به. 3. اتخاذ العلم وسيلة لاستجلاب أموال المستضعفين وإيثار المصالح الشخصية على المصالح العامة،ومراكمة التعويضات والمأذونيات و"لاكريمات" والبقع الأرضية وأضحيات العيد والأوسمة،مما يُعسر على العلماء مهمة التحرر من رق إحسان "اليد العليا" فيردون الجميل بالسكوت أو ببذل الفتاوى وتكثير سواد الملتحِقين "بالمخزن" بعد إقناعهم بتبريرات دينية تقضي على "تأنيب الضمير" وتحل محله "التلذذ بالخضوع". إن السلك العلمائي مدعو إلى الوفاء بمقتضيات الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليه،ومدعو إلى الانعتاق من أسباب العجز،والانخلاع من ربقة التقليد،لاسيما العاملين في المؤسسات الدينية الرسمية الذين تمنعهم الحاجة من الاستقلال في الفكر والحركة،وإدراكا منا لتعقيدات الواقع الذي يعيشون فيه نقول:إنها لمثالية حالمة أن نطلب إلى العلماء أن يكونوا كلهم ممن يجهر بالحق مهما كانت التبعات،ولكن لا أقل من أن يعملوا بقاعدة:"قد لا يقول المرء الحق كله ولكن لا يقول باطلا"،أو بتعبير آخر"لا تقل الحق ضربة لازب،ولا تؤاكل ولا تشارب،ولكن سدد وقارب"10، وإن مهمة البيان - التي تعد من أهم مشمولات الميثاق- يجب الا تترك عرضة لتقلبات المزاج النفسي والتقدير الشخصي لكل عالم،وإنما يجب أن تصاغ في قواعد وبنود: 1. قابلة لقياس جدواها وتطبيقها في الواقع. 2. ينهض بها "مجلس علمائي منتخب" ومستقل عن السلطة السياسية حتى لا يخضع أي عالم فيه لضغط الشعور بمنة الاصطفاء والاختيار من الحاكم،أو لضغط "شارعي" غير مؤسس على مطالب معقولة وشرعية. 3. وتُفعَّل وتُجدَّد باجتهاد جماعي يشترك فيه أهل الشرع والعقل لا يستحضرون إلا رقابة خالقهم ورقابة المجتمع،ويَنتُج عنه عمل،فلا خير في علم ليس تحته عمل يراه الناس ويُشَم ويُفرك "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"11. آل عمران/187 - التحرير والتنوير - وقد أخذ عليهم الميثاق بأمرين: هما بيان الكتاب أي عدم إجمال معانيه أو تحريف تأويله، وعدمُ كتمانه إي إخفاء شيء منه. - فالتعقيب الذي بين أخذ الميثاق عليهم وبين نبذهم إيّاه منظور فيه إلى مبادرتهم بالنبذ عقب الوقت الذي تحقّق فيه أثر أخذِ الميثاق، وهو وقت تأهّل كلّ واحد من علمائهم لتبيين الكتاب وإعلانه فهو إذا أنس من نفسه المقدرة على فهم الكتاب والتصرّف في معانيه بادر باتّخاذ تلك المقدرة وسيلة لسوء التأويل والتحريف والكتمان - وهذه الآية وإن كانت في أهل الكتاب إلاّ أنّ حكمها يشمل من يرتكب مثل صنيعهم من المسلمين لاتّحَاد جنس الحكم والعلّة فيه. - الكشاف - أكد عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه كما يؤكد على الرجل إذا عزم عليه وقيل له. آلله لتفعلنّ { فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } فنبذوا الميثاق وتأكيده عليهم، يعني لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه. والنبذ وراء الظهر مثل في الطرح وترك الاعتداد. ونقيضه جعله نصب عينيه وألقاه بين عينيه، وكفى به دليلاً على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه وأن لا يكتموا منه شيئاً لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة، وتطييب لنفوسهم. واستجلاب لمسارّهم أو لجرّ منفعة وحطام دنيا، أو لتقية: مما لا دليل عليه ولا أمارة أو لبخل بالعلم، وغيرة أن ينسب إليه غيرهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم (234) " من كتم علماً عن أهله ألجم بلجام من نار " وعن طاوس أنه قال لوهب: إني أرى الله سوف يعذبك بهذه الكتب. وقال: والله لو كنت نبياً فكتمت العلم كما تكتمه لرأيت أنّ الله سيعذبك، وعن محمد بن كعب: لا يحل لأحد من العلماء أن يسكت على علمه ولا يحل لجاهل أن يسكت على جهله حتى يسأل. وعن علي رضي الله عنه:. وقرىء: «ليبينَّنهُ». ولا «يكتمونه». بالياء لأنهم غيب - فتح القدير للشوكاني - والظاهر أن المراد بأهل الكتاب: كل من آتاه الله علم شيء من الكتاب، أيُّ كتاب كان، كما يفيده التعريف الجنسي في الكتاب. - قال الحسن، وقتادة: إن الآية عامة لكل عالم، - ، - تفسير التستري - { فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } [187] أي: لم يعملوا بالكتاب - السرية تنافي البيان - تزوير الحقائق .... ***** - وما هو التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر إلا حق المعارضة، بل واجب الاعتراض.حوار مع الفضلاء 90 - 1 حوار وزير الأوقاف مع جريدة"الاتحاد الاشتراكي" أكتوبر 2005،نشر كاملا بموقع الوزارة في 12/3/2010 2 آل عمران/187 3 البقرة/159-160 4 رواه أحمد والحاكم وابن ماجة 5 النساء/59 6 رواه مسلم 7 نفسه 8 ابن العربي،العواصم من القواصم،ص 173 9 ابن تيمية،منهاج السنة،2/247-248 10 عبد السلام ياسين 11 التوبة/105