لم يكن النظام الاقتصادي الإسلامي وسطيا،كما تسعى إلى تكريسه مجموعة من الأطروحات التبسيطية والتلفيقية؛أي لم يكن وسطا بين خياري الرأسمالية والاشتراكية؛يأخذ من الرأسمالية حق الملكية ومن الاشتراكية العدالة الاجتماعية.فالمعنى المحدد لحق الملكية أو العدالة الاجتماعية في النظامين مختلف،من الوجهة المعرفية،بشكل كبير عن المفهوم منهما في النظام الإسلامي.ثم إن أي نظام اقتصادي لا يتشكل من الآليات الاقتصادية وحسب،بل من الرؤى والمفاهيم و النماذج المعرفية.فالاختلاف بين النظامين أو الأنظمة الأخرى المستجدة وبين نظام الإسلام في الموقف من الإنسان أولا ومن موقعه داخل هذا النظام ثانيا.فالنظام الإسلامي يقوم على قاعدة أساسها الإنسان-العائلة وليس النظام أو الطبقة أو الفرد كما في الأنظمة الأخرى.ذلك أن أزمة النظام الرأسمالي اليوم هي في استلابه للإنسان اجتماعيا وسياسيا وفكريا،انتهى بالتطويح به في واد سحيق مملوء بالملل والغثيان والعبث.(راجع كتاب "اللامنتمي"لكولن ولسون). وعليه فإنشاء"صندوق الزكاة" الذي بشرت به الحكومة الجديدة،مع التأكيد على شجاعة الفكرة وإبداعيتها وصدق الداعين إليها،يقتضي التوفر على تصور نظري ومعرفي متماسك يعبر عن التناغم بين الوسائل والغايات،وألا يكون مجرد تلفيق/وسطية بين آليات اقتصادية تنتمي إلى أنساق معرفية هجينة لكنها مختومة بآيات قرآنية ومصحوبة ببراباغندا دعوية وإعلامية للاستهلاك السياسي والتنويم الاجتماعي،وأن يكون السعي ،في البداية،إلى تهيئ الأرضية لبلورة مفردات اقتصاد وطني في اتجاه إنساني يستمد من تربته التداولية وخصائصه الاجتماعية وحاجاته الإستراتيجية واليومية والواقعية،كما يتفاعل مع العناصر الإنسانية في الاقتصاديات العالمية الحديثة والتقليل من مخاطرها وسحقها للإنسان. فلا يمكن تصور تطبيق الزكاة،ولو من خلال إحداث صندوق لها،بعيدا عن نظام تحريم الربا وقواعد الإرث في التصور الإسلامي في إطار منظومة تشريعية متكاملة لتحقيق هدف كبير وسام هو التفتيت الطبقي وعدم تركيز الثروة؛فمفاهيم الزكاة وتحريم الربا وقواعد الإرث هي المدخل لضبط نمو الثروة ومنع تركيزها،ثم العمل على تفتيتها؛فبالإرث،من منظور مقاصدي كلي وليس تجزيئي،يعاد توزيع الثروة على أكبر قاعدة ممكنة.والزكاة تستقطع من الثروة،وتحريم الربا يمنع السطو على قوة عمل الآخرين بما يتجاوز حدود فائض القيمة.ولذلك اعتبرت مجموعة من الدراسات والأبحاث الغربية أن تحريم الربا يعد عائقا مركزيا أما نمو اقتصاد رأسمالي حقيقي في البلدان الإسلامية،بل ذهبت تلك الدراسات إلى أن الاقتصاد القائم على تحريم الربا وعلى المعاملات الإسلامية يصب في صالح المتطرفين هكذا. فالنموذج الاقتصادي الإسلامي،أي الذي يقوم على رؤية كلية أو نموذج معرفي ،من دون تفصيل لأن ذلك من اختصاص الفنيين والمتخصصين،يستمد رهبته من ارتباطه بالدين؛فهو يسعى إلى التصدي لحركات التوالد الطبقي الطفيلية،كما يريد تجاوز أزمة جدلية الصراع،بمفهومها الماركسي،إلى التركيب المفتوح على حركة الكون والغاية الإلهية من الخلق،وذلك من خلال تأطير الدين(الغيب والشهادة) لنظام الحكم وعلاقات الإنتاج.من هنا يتم التحكم في نتاج توزيع فائض القيمة وفي ريع قواعد الإنتاج عبر ترسانة متكاملة من التشريعات القانونية والكوابح الأخلاقية والتربوية والاجتماعية وليس الفردية وحسب؛فالكوابح الأخلاقية أداة فعالة للتصدي للإفرازات الأيديولوجية التي تنشأ عن سيطرة الطبقات المسيطرة على الثروة في مجتمع غير عادل وغير متوازن. إن تأسيس صندوق الزكاة داخل بنية إقتصادية هجينة قد يعرض هذه الإلية الفعالة للابتذال والاستهلاك السلبي،كما قد يمس بالقيمة الاقتصادية والأخلاقية لمفهوم الزكاة.ويقتضي الأمر،بنظرنا،تدشين حملة واسعة للتنوير والتعريف الثقافي بالمفاهيم الإسلامية في الاقتصاد والاجتماع،وإخراجها من النقاش الدعوي المحدود إلى المقاربة المعرفية ثم الاقتصادية النافعة؛أي ربطها بنظام القيم والنموذج الثقافي الذي يراد التمكين له والمنغرس في المجال التداولي للمجتمع؛نموذج يقوم على الثقة في الذات والاستفادة من الاخر،مع الإلحاح على النظر شرقا بتعبير محمد محاضير رئيس وزراء ماليزيا السابق في كتابه"أنظر شرقا"،وبذل الجهد لتحقيق أعلى درجات الإبداع والتمثل الخلاق للمفاهيم والتطبيق العاقل والواقعي لها. إن نقاش نظرية فائض القيمة من منظور قراني قد يشكل مدخلا مناسبا لتداول معرفي في القضايا المحيطة والمؤطرة لقضية الزكاة كآلية اقتصادية وأخلاقية فعالة؛فقد جاء في القران الكريم:"والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون"(النحل/71)؛فالتفضيل في الآية ليس تفضيلا مطلقا وهو تفاضل طبقي لكنه لايدرك إلا ضمن رؤية القران الكريم لمفهوم فائض القيمة والنشوء الاجتماعي والتاريخي للطبقات،والذي يرفض فيه القران الكريم العبودية للبشر"ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون."،وقوله تعالى:"فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وانتم لاتعلمون." (النحل/74)وقوله:"ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لايعلمون.وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم."فمن خصائص عبودية الإنسان لله أن الله هو مصدر العطاء والإنتاج،والإنسان العابد لله يأخذ ويمتلك وينفق بقوة التملك.أما العبد المملوك للبشر فلا يملك حرية التصرف في عائد إنتاجه عكس عبد الله المالك الحر التصرف في إنتاج مصدره الله.إن رسالة السياسة الاقتصادية،من منظور القران الكريم،هي تحرير الإنسان؛فالعبد المملوك للبشر مستلب الحرية(أبكم)،ولايملك حرية التصرف(لايقدر على شيء)،وعلاقته بمولاه علاقة تبعية(كل على مولاه)،(يراجع كتاب المفكر السوري الثائر جودت سعيد بعنوان"الإنسان حينما يكون كلا وعدلا.")؛فالمالك يصادر رأي مملوكه ويكبت نزعاته ويستلب عائد إنتاجه.إن عادة الملاك الأرضيين أن يستحوذوا على مملوكيهم-عبيدهم؛هؤلاء العبيد يفقدون الاستعداد والطاقة على العطاء لأنهم فقدوا إنسانيتهم(أينما يوجهه لايأت بخير)،لذلك ارتبط مصدر العطاء في المنظور الإسلامي بالله.وجاء التفاضل في الرزق مقيدا إلى سببية نشوء الطبقات القائمة على تركز فائض القيمة بيد الملاك على حساب العبيد والمنتجين.إن علاقات الإنتاج القائمة على العبودية والاستحواذ تحد من قدرة الإنسان على تدبير شؤونه والتحكم في مصيره.فمشروع صندوق الزكاة لا يمكن فصله عن فلسفة اقتصادية واجتماعية ونموذج معرفي ممتد في الزمان،لتفتيت تركز فائض القيمة والحد من استفحال التفاوت الطبقي الفاحش،ومقاومة اقتصاد الريع وثقافة الإحسان والمساعدة السلبية(اليد العليا خير من اليد السفلى)،في إطار سياسة اقتصادية مندمجة ومتكاملة.وعليه يخشى أن يوظف صندوق الزكاة داخل بنية اقتصادية غير مستعدة بعد للتجاوب مع هكذا مفاهيم واليات؛بيئة مفتقدة للعدالة والحرية والتوازن مما قد يؤدي إلى مزيد تركز الثروات وتدويرها لفائدة فئة مالكة ومستحوذة بما يناقض غايات الزكاة ومقاصدها،وهي غايات تتحقق داخل بنى ومؤسسات ديموقراطية قائمة على الشفافية والمحاسبة. إن تجربة البدائل الإسلامية سيف له أكثر من حد؛فقد تتحول إلى تقنين فعال وجديد للوجود الطبقي لفائدة فئة معينة مهيمنة على مقدرات المجتمع وسالبة لقوى إنتاجه ولحريته؛الحرية التي لاتحدها إلا قدرة الله المطلقة.فالتبشير بالنموذج الإسلامي يقتضي إخراج مفاهيمه من دائرة الالتزام الأيديولوجي إلى دائرة الفكر المنهجي النقدي التحليلي في إطار توجه روحي يعرفه العالم اليوم والمقاوم لتوحش الليبرالية،للمساهمة في بناء نموذج إنساني مشترك ومقنع وفعال وعلى مهل ودون استعجال مما قد تدفع إليه الالتزامات السياسية الظرفية.