شكلت مقولة الاصلاح في اطار الاستقرار محور الخطاب الذي أطر المرحلة الجديدة من الزمن السياسي المغربي، فعلى مستوى الممارسة يبدو المشهد المغربي مترددا في مواضيع واشكالات عديدة ومتنوعة، يكشفها الوقوف عند ملمحين رئيسين ظهرا مع مرحلة حكومة الربيع الديمقراطي. فقد عرفت المرحلة فورة في الطلب الاجتماعي من مختلف الفئات، كتعبير طبيعي عن الفجوة العميقة التي انتجتها عقود من التبعية والفساد والاستبداد، وبالنظر لفائض الحرية ومساحات الفضاء العمومي المتاحة للاحتجاج في زمن الربيع الديمقراطي، فقد أدى ذلك إلى تطور بعض هذه الاحتجاجات وعرفت انزلاقات في مناطق عدة، فكشفت عن عودة مقاربة أمنية تنتمي للزمن الماضي مشرعنة لسلوكها القمعي بشعار الحفاظ على "هيبة الدولة". أما المشهد الثاني فيتعلق بكشف لائحة المستفيدين من العطايا والهبات " لكريمات" من قبل وزير النقل والتجهيز، والتي أكدت نمط اخر من التدبير السياسي في مملكتنا الشريفة والقائمة على العطايا والهبات لضمان الولاءات وصناعة مواطنة الكريمات لعدد من المحظوظين من المغاربة. تشكل اللقطة الاولى آلية لتدبير الدولة للمطالبة بالحقوق من خلال إعمال القمع والخوف، والذي انعكس على المشهد السياسي بعملية التحكم المستمر في العمل السياسي، أما اللقطة الثانية فتكشف عن سياسة العطاء والسخاء المخزني لضمان الولاء، وبالتالي إعادة إنتاج نفس الواقع السياسي والاجتماعي، وضمان الاستمرارية وتأبيد السيطرة. إنها سياسة العصا والجزرة التي ظل النظام المغربي يشتغل بإحداهما، أدى ذلك إلى بروز ممارسة سياسية هشة، اثبتت فشلها الذريع والمأساوي -مثل شبيهاتها- في عالمنا العربي والاسلامي، بحيث تم بناء علاقة هجينة بين المجتمع والدولة، هذه الاخيرة التي تغولت وانتشرت في كل تفاصيل الحياة المغربية، وجعلت المواطن المغربي محكوم بمعادلة التقرب من المخزن والتعبير عن الولاء في مقابل الحصول على العطايا والهبات والهدنة. كما شكلت طرقيتين مناسبتين لاستيعاب النخب والاحزاب والهيئات المعارضة له، فمن لم تستوعبه "لكريمة" يستوعبه القمع حتما. لما فاجأتنا الموجة الرابعة للديمقراطية، اتفق المغاربة – ملكا وحكومة وشعبا- بضرورة التغيير والتخلص من هذه الوضعية المخزية والمزرية، والتي شكلت معيقا حقيقيا لأي عملية تقدم أو إصلاح، واتفقت الأغلبية بعد انتخابات 25 نونبر2011 على ضرورة اعادة التوازن للعلاقة بين المجتمع والدولة، على اعتبار أن هذه العلاقة هي مفصل عملية التغيير والاصلاح، وبناء المغرب الجديد التي ينتقل فيها المغاربة من وضعية الرعايا إلى وضعية المواطنين، وينتقل فيها الملك المقدس إلى الملك المواطن. إن التأسيس للعلاقة الجديدة له مجموعة من المقدمات سواء في الوثيقة الدستورية الجديدة أو في التصريح الحكومي، بحيث نجد مجموعة مفاهيم جديدة من قبيل الديموقراطية التشاركية والحكامة الجيدة و المجتمع المدني ... غير انه على مستوى الممارسة، فإننا بحاجة إلى مجهودات ضرورية لتحقيق التوازن في علاقة المجتمع والدولة، بما يسمح للمجتمع أن يكون مصدر للسلطة والسيادة ويجعل من الدولة خادمة للمجتمع. وتحقيق هذا التحول الذي يمكننا من الانتقال إلى الديمقراطية المجتمعية، له مجموعة من المقتضيات مرتبطة بالدولة من جهة وبالمجتمع من جهة ثانية. فالنسبة للدولة، مادام المغرب ينهج الإصلاح التدريجي لبنية الدولة، وبالنظر لتمترس العهد القديم – ثقافة ومؤسسات ورجال- وتحصينها لقلاعها المحفوظة منذ عقود، يستعدي من الفاعل الحكومي الجديد أن يكون –أولا- مبادرا في تفعيل الصلاحيات الدستورية الممنوحة له، وعدم ترك هوامش فارغة يمكن للعهد القديم الزحف عليها ما يعرقل اي تنزيل ديمقراطي للدستور، كما أنه مطالب –ثانيا- تحرير العقل الرسمي من الثقافة التقليدية في التعامل مع المجتمع، يكون عماده اعتبار المجتمع ليس فقط مستهدفا بالسياسة العمومية بل مشاركا أساسيا في صناعتها، إذا كانت الشهور الأولى من العمل الحكومي قد أبانت عن تجاوز بعض القطاعات الوزارية للمنطق القديم في الاشتغال من خلال فتح الحوار والتناول المشترك لقضايا القطاع المعين، مثلما تابعنا مع وزير الاتصال ووزير التربية الوطنية... فإن تدبير قطاعات وزارية اخرى لازال يكرر المنطق القديم ويتضح هذا بشكل جلي مع قطاعات ذات علاقة بالشباب – التشغيل والتعليم العالي- بالرغم من الحضور القوي لهذه الفئة في صناعة الربيع الثوري بالمنطقة كلها، فمن الغريب أن لا يتم تشكيل اي لجنة للحوار مع جمعيات ومجموعات المعطلين لحدود اليوم وكذا من الغريب ألا يتم الى حدود اليوم اجراء اي حوار رسمي مع الطلبة، إن استمرار المنطق القديم في التدبير يغذي أكثر الانحباس الاجتماعي وخاصة في مجال الشباب وأعطى اشارات دالة، – احداث تازة ناتجة عن نضالات المعطلين مع نضالات طلابية، حادثة احراق زيدون، القمع العنيف مع مجموعات الاطر العليا المعطلة- وقابلة للتطور نتيجة لغياب الاستيعاب والتواصل وحضور المنطق الأمني الضيق، مما يضيف له جرعات من فقدان الثقة، ويخدم أطروحات سياسية رافضة للتجربة الجديدة. غير أن واجب الدولة على المبادرة وتحرير منطق اشتغالها إلى منطق الدولة المواطنة وفق خيار الديمقراطية التشاركية ومقتضياته، لا يعفي المجتمع من دوره في تحقيق الانتقال إلى ديمقراطية حقيقية، من خلال تحرير عقليات العمل الجمعوي والقطع مع منطق الجمعيات المذللة أو الجمعيات الفلكلورية والشكلية، ويجعل الجميع متساوي امام القانون، مع المحاسبة والمراقبة من طرف هيئات الحكامة من اجل عقلنة وترشيد عمل المجتمع المدني، كما يفترض في المجتمع المدني بنخبه وأطره وهياكله التجديد في المبادرات والمقترحات من أجل اغناء مغرب الربيع الديمقراطي وكذا دوره في حماية المجتمع من أي ردة محتملة ومتوقع أو أي انقلاب على مكتسبات الربيع الديمقراطي. ذلك أن دور قوى المجتمع ليس تزيين وجه الدولة من اجل عطاءاتها وريعها، بل دورها في تقوية المجتمع وصيانة مقوماته الثقافية والاجتماعية الضامنة لهيبة الشعب وأصالته، ثم في الاستفادة من هامش الإصلاح الدستور، والتحول في الشعور النفسي المجتمعي والسياسي تجاه الفاعل المدني، لترسيخ وتقوية هيبة المجتمع وتقوية مشاركته ورقابته . لقد تغير العالم من حولنا وليس لنا الحق في التراجع او التوقف، ويتحمل الجميع مسؤولية الانتقال والتحول والمضي نحو الديمقراطية بلا رجعة، ونعيد التوازن للعلاقة بين الدولة والمجتمع بما يجعل الامة هي الأصل، ويجعل الدولة وأدواتها هي افراز للمجتمع وتوازناته، ولا نسمح للدولة بصناعة المجتمع الذي تريد، بل المجتمع هو من ينبغي ان يصنع الدولة التي يريد، من أجل تجاوز مشكلاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وبناء نهضة حضارية راشدة تعيد المغرب إلى مستوى العطاء الحضاري المعبر عن قيمته التاريخية واسهاماته الإنسانية. *باحث جامعي/فاعل جمعوي