"وْقَفْ، أَرَا السْوَارْتْ، حْيَّدْ مْنْ هْنَا!" الأربعاء 16 غشت.. عقارب الساعة تجاوزت الخامِسة مساءً بالغابة المُحاذية لمطار الرباط- سلا. بعدها بهُنَيْهة صوتٌ عالٍ للمَدافع الرشاشة يخترق صفوف الأشجار. السائق قلِقٌ جداً، وكان يَهم بمغادرة عربته البنّية اللون. أربعينيٌ يقترب منه، مُتعب، مكدّر الوجه، سرعان ما استجلى ملامحه، فصاح قائلا: "الله يْبَارْك فْ عْمْر سِيدي!".. إنّه الحسن الثاني، الذي فرّ هارباً من المطار الذي قَصفته الطائرات الحربية. لم يكن عمر فائق يعلم أن خروجه ذلك اليوم الحارّ سيكون مخالفاً لكل خرجاته السابقة، إذ أنقذ الحسن الثاني إبّان انقلاب "البوينغ الملكي" عام 1972، حينما انسلّ الملك الراحل من المطار الذي قَنْبَله "رفاق أوفقير"، وهرع إلى الغابة المُجاورة، مُتطلّعا بتساؤل وحيْرة نحو الطريق الفرعية، وهو يُواجه المجهول الأسود، آمِلاً أن يعثر على مُفشل التمرّد العسكري في اليابسة بعدما حالفه الحظ في الأجواء المغربية. مُنقذ الحسن الثاني في الانقلاب العسكري هو فلاح بسيط، قدِم من عمق جبال الأطلس، تحديدا من وسطها، ليُصبح محور الوسط الذي تدور حوله المحاولة الانقلابية، لكن أسراره ظلّت خلف السّتار، وبقيت أحاديثه مع الملك الراحل طيّ الكتمان، فيما لا يزال قرّاء الرواية التاريخية يتساءلون: أين هو مالِك السيّارة الذي أنْقَذ الحسن الثاني من انقلاب "16 غشت" الموؤود؟ على حافّة "التّيه الأَزِيلاَلِي"! ظلّ الثمانيني يقطن بمدينة أزيلال طيلة العقود التي تلَت العملية الانقلابية، بعدما اختار العزلة الاختيارية في قرية معزولة، تقع بين ثنايا جبال الأطلس المتوسّط، مُفضّلا الرجوع إلى بلدته الأم، عندما ألمّ به مرض تنفسي شديد الوطأة، حيث أعاد ترميم منزل أبويه المتهالك، وتكتّم على القصة الفريدة التي بَقيت مخفية عن أقاربه. وقد علّق صاحب ال83 سنة على ذلك قائلا: "اعتبرت الأمر موضوعا ملكياً لا ينبغي إخراجه إلى العلن". رأى عمر فائق النور بمنطقة آيت عتاب، المدفونة وسط أعالي سلاسل جبال الأطلس، التي تبدو من بعيد على شكل جدار ممتد من الشرق والغرب بهاماتها المجلّلة بالبياض. وما إن فتح عينيه على الحياة حتى انغمس في العمل الفلاحي مع باقي إخوته، لكن مع بداية الأشغال في سد آيْت وَعْرْضَى، الذي توافد عليه العمّال، قرّر امتهان التجارة، وهو اليافع الذي كابد شظف الحياة القروية القاسِية. تواصلت أعمال تشييد السّد إلى غاية 1953، قبل أن يُدشّنه القائد أكْلَاوُو، مما أفقده مورد رزقه، غير أنه عقد العزم على شدّ الرحال إلى بني ملال حتى لا يعود إلى ماضيه المرير، فاستقرّ رأيه على شراء مطحنة قمح تقليدية، واتفق مع يهودي مغربي على سَومة كراء المحلّ. أشهر قليلة كانت كافية لازدهار تجارته، التي تنامى نشاطها سنوات، لكنها توقّفت قسْرا في حدود عام 1963، بعدما أجبره باشا المدينة على إفراغ المحل الذي باعه اليهودي استعداداً لموسم الهجرة إلى إسرائيل. "رفعتُ يدي إلى السماء، ودعوت الله ليُخرجني من هذه الأرض التعيسة، بعدما تخبّطت في مهاوي اليأس القاتل، وأضعفت المعاناة إرادتي"، يقول فائق، الذي غاصَ بعدها في مستودع ذكرياته لحظات قليلة، قبل أن يضيف بلغة ملؤها الاستياء: "جمعت حقيبتي السوداء البالية، واقتنيت تذكرةً إلى مدينة واد زم، ومنها توجهت إلى العاصمة الرباط، أَمَلاً في تغيير واقعي البئيس والكئيب أيضا". واقفٌ عند "تْوَارْكَة الرّبَاط" غادر فائق بني ملال المُثْقلة بماضٍ أنْهك أعصابَه، مُدركاً أن ما سيأتي هو الأصعب. ومع وصوله إلى "رباط الأنوار"، كَبرت مطامحه وتناسلت أحلامه. وكانت الخطوة الأولى في رحلة البحث عن موطئ قدم له في العاصمة هي إيجاد ابن بلدته، الذي كان يعمل بائعاً للخضر في سوق "التْوارْكَة" بجوار القصر الملكي، فاقترح عليه اكتراء محل فارغ منذ أشهر، ثم توجّها إلى عمالة التْوارْكَة للحصول على الترخيص القانوني. ويحكي الثمانيني، الذي يرتدي جلباباً أبيض، ويضع طربوشاً أبيض اللون، ولكنه يميل إلى الاصفرار، عن تفاصيل ذلك اليوم قائلا: "استقبلني الخليفة عبد الخالق في العمالة، وطلبت منه اكتراء الدكان رقم 31، فمنحني ورقة صغيرة، وأمرني بالذهاب إلى شارع علال بن عبد الله من أجل الحصول على الترخيص النهائي من لدن الشركة الفرنسية المشرفة على تدبير الحَوانِيت، فسلّمتهم سومة الكراء التي ناهزت 20 درهماً آنذاك". بعد ذلك بأيام نالَ فائق مفتاح المحل، فتوجه مباشرة إلى "باب الأحد" قصد اقتناء ما يلزمه من منتجات. ويتعلق الأمر ببذور عباد الشمس وعرق السوس والحمص وبذور اليقطين والفول السوداني وحلويات الأطفال. وقد لقِي ذلك رواجاً كبيراً بين صفوف "مْخازْنِيَة" القصر الملكي، الذين بدؤوا يتوافدون عليه يومياً، ثم زاد الإقبال بعدما أضاف اللوازم المدرسية والحقائب الجلدية إلى نشاطه التجاري. هل كنت تَعرِفُ الحسن الثاني قبل الانقلاب؟ يرد ابن آيت عتاب قائلا: "بين الفينة والأخرى كان يأتي القَايْد الصديق، الذي كان يحمل المظلة السلطانية فوق رأس الملك، إلى المتجر قصد تذوق شاي أزيلال". توقّف قليلا لأخذ رشفة من الماء، ثم مضى مسترسلا، بعدما اتّكأ على كرسي بلاستيكي: "ذات يوم حلّ الحسن الثاني بعمالة التْوَارْكَة، فطلب منّي القايْد إعداد الشاي للضيوف". وبعد ثوانٍ توقّف لتناول رشفة ثانية من الماء، قبل أن يستطرد قائلا: "شرب الحسن الثاني كأس الشاي، وتساءل مبتسما عن مُعدّه، فأجابه حامل المظّلة: هَدَا أَتَايْ عْتَابِي سِيدِي". "مطارٌ غائم" في يومٍ مشمس كان النهّار قد طلع بحرارة مبكّرة يوم الانقلاب. خرج فائق من منزله بدوار "الحَاجَّة"، وهو يقود سيارةً بنّية فاتحة من طراز "سِيمْكَا"، قاصداً "باب شالّة" وسط الرباط، حيث أوْصَل زوجته إلى بيت قريبتها، ثم أكْمل المَسِير إلى الغابة المُجاورة لمطار الرباط- سلا، بمعية ابنته التي لم يكن عُمرها يتعدى السَّنتين. ظل هُنَاك ساعاتٍ حتى اقتربت الشمس من مغادرة كَبِدِ السَّماء، قبل أن يسمع ضجيجاً متواصلاً، فرفع بصره إلى الأعلى، وأبْصَر طائرة "بْوينْغ" يتصاعد دخانٌ أسودٌ كثيفٌ من أجنحتها. توقّف صاحب السيارة عن تناول مشروبه الغازي مذعوراً. ولكن سرعان ما خيّم هُدوء مَشُوب بالاستغراب على المكان، فعَاد الثمانيني إلى المركبة، معتقداً أن الأمر يتعلق بعطب تقني. وبعد وقت يسير لَمَح شخصاً يركض مندفعاً نحوه. بَقِي فائق مذهولاً داخل سيارته بعدما اقترب منه الحسن الثاني، الذي لم يتبيّن ملامحه بعد، حيث كان شَاحب الوجه، وطلب منه الترجّل من السيارة. ويتحدث مُنقذ الملك عن هذه اللحظة قائلا: "كان شعره مشعّثاً، ووجهُه مُصْفرّا، يُحاول إخفاءه أثناء الركض". وفي تلك الأثناء اخترق صوتٌ عالٍ للمدافع الرشاشة جذوع الأشجار، فارتعش الحسن الثاني، الذي اقترب أكثر من باب السيارة الأمامي. لقد أدرك فائق هويته بعد ثوانٍ معدودة، فنظر إليه بدهشة، ونَبَسَ قائلا: "الله يْبَارْك فْ عْمْر سِيدي!"، قبل أن يصيحَ العاهل في وجهه: "أَرَا السْوَارْتْ، وْحَيَّدْ مْنْ هْنَا!"، ثم أسْرع بركوب السيارة، وقادها بسرعة جنونية، واختفى وسط الغبار الذي خلّفته. ونحن نجوبُ أطراف مطار العاصمة، بعدما تنقّلنا من جبال أزيلال إلى سهل الرباط، تذكّر ابن آيت عتاب بعض تفاصيل الانقلاب، مورداً بكثيرٍ من الشوْق للماضي: "لم تعد الغابة مثلما كانت". بعد فرار العاهل من قلب الغابة، حمل فائق ابنته على كتفيه، وسار قرابة ساعة ونصف حتى وصل إلى قنطرة مولاي الحسن، فإذا به يَلْمح الجنرال أوفقير حاملاً جهازاً لاسلكياً. وحينما اقترب من القنطرة سمعه يسبّ الجنود: "أَشْ دَرْتُو أَلْكْلاَبْ! رَاه هُوَ فْ الصْخِيرَاتْ". تسمّر في مكانه لحظة، قبل أن يستدير، ويعود أدراجهُ، باحثاً عن طريق فرعية للوصول إلى منزله. عَتَمَة القصر البَاهِرة لمّا خَفَّت أثْقالُ الانقلاب، وخَلُص منه الحسن الثاني بمشقّة، بعثَ "العيون الثّاقبة" لإحضار بطل "16 غشت" إلى الصخيرات. لم تمضِ سوى ساعات حتى وجَد فائق نفسه في حُجْرَة فسيحة بالقصر. ولم تكد تمرّ دقائق حتى دخل الملك الحُجرة، فرفعَ عينيه مُتمتماً: "سِيدْنَا"، وانحنى على يده مسلّما، فدعاه الملك إلى الجلوس، وهو يسأله باسماً: "أَشْ خَاصْكْ؟، فأجاب: "بَاغِي الرْضَا دْيَالْكْ نْعَامْ سِيدِي!" أشعل الحسن الثاني سيجارةً، وأخذ نفساً عميقاً، فسأله عن عمله، وحينما أدرك أنه يشتغل في "سوق التْوارْكَة"، طلب منه أن يلتقيَا في السوق يوم السبت الموالي في الساعة ال11 ليلا، وسلّمه مفاتيح السيارة، ثم نادى على حارسه الشّخصي ليُرافقه إلى مكان ركنها. بعد ذلك غادر فائق القصر الملكي باتجاه دوار "الحاجّة" للاطمئنان على زوجته التي كانت خائفة بسبب غيابه. حلّ يوم السبت المنشود، وظلّ فائق في مَتْجرِه إلى غاية الساعة الحادية عشرة، فإذا بالملك يقف أمامه، حاملاً معه بعض الأموال التي سلّمها له، ثم طلب منه الالتقاء به في التوقيت عينه يوم السبت الموالي أيضا. مرّت الأيام ثقيلة عليه حتى جاء اليوم الموعود، ورأى الحسن الثاني مرة ثانية، فسلّمه تصريحَ مُرور (لِيسِي بَاسِّي) يُتيح له ولوج القصر الملكي وقتما شاء، ولكنها ستكون المرة الأخيرة التي يراه فيها. بعد ذلك بأشهر باعَ فائق سيارة "سِيمْكَا"، التي أنقذت الملك بمبلغ مالي يُقارب خمسة آلاف درهم. حين عاد فائق إلى بيته القصْديري بدوار "الحَاجَّة"، وكان مُفعَما بالأمَل الممزوج باليأس لِلقاء زوجته المتوجّسة من "الآذان المُرْهفة" التي ظلّت تراقب تحركاتها، لم يعثر لها على أثر، فغادر المنزل في خطوات مسرعة باتجاه جاره، فأدرك بأنها تمكُث في المشفى، بعدما تسبّبت لها نوبة الهلع في سقوط الجنين. لم تلبث فرحة فائق بالاستقبال الملكي في الصخيرات أن تَحوّلت إلى كُرْبَة.. تدهورت صحة زوجته ورحلت دون رجعة بعد أشهر.