زادت ظروف جائحة كورونا بتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والصحية من قتامة الوضع العالمي، خصوصا مع تنامي وتصاعد الخطابات الشعبوية بمختلف أنواعها ومصادرها. وما كانت أمريكا لتكون خارج هذا الإطار باعتبارها الدولة العظمى التي كان يحكمها دونالد ترامب، واحد من أكثر الرؤساء "شعبوية" وغرابة، حيث تأثرت طبعا بكورونا وبردود فعل ترامب إزاء الأزمة، وإزاء أمور أخرى رافقتها. في المقال التالي، يحاول الكاتب المغربي رشيد قنجاع رصدَ تأثير أزمة وباء كورونا ودورها في إسقاط الشعبويين الجمهوريين. نص المقال: تابع الرأي العام الدولي باهتمام بالغ الاستحقاق الانتخابي الأمريكي، كما لو يتابع مسلسلا دراميا ببعد سياسي وانتخابي طويل ما زالت أحداثه ومخرجاته تتعاقب يوميا في ظل أجواء الاستقطاب الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين. استقطاب وتجييش وتهييج وضع البلاد في مفترق الطرق على أبواب انفلات أمني وشرخ اجتماعي بارز. زادت من قتامة هذا الوضع ظروف جائحة كورونا بتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والصحية، ناهيك عن تنامي وتصاعد الخطابات الشعبوية اليمينية والخطابات الهوياتية والقومية الشوفينية التي جعلت مكونات المجتمع في مواجهة بعضها البعض. في هذا لإطار، آثرت تناول الموضوع الانتخابي الأمريكي من زاوية دور كورونا في إسقاط الشعبويين الجمهوريين. شكلت جائحة كورونا مستجدا عالميا وأمريكيا بامتياز، حيث لم تترك الجائحة بلدا على وجه المعمورة إلا واجتاحته مخلفة عددا من المصابين وأرقاما كبيرة من الوفيات، كان للولايات المتحدةالأمريكية النصيب الأوفر، بل تصدرت العالم من حيث عدد المصابين الذي يقارب أحد عشر مليون مصاب، وتجاوز عدد الوفيات مائتين وخمسين ألف وفاة. وأمام تحديات هذه الجائحة، ظل العالم يراقب ويتابع الخطوات التي ستقدم عليها الولاياتالمتحدةالأمريكية للحد من هذا الوباء الذي لم تشهد البشرية مثيلا له بحكم سرعته في الامتداد والانتشار والفتك بالبشر، وتداعياته الاجتماعية التي سبق لابن خلدون أن تناولها في مقدمته بخصوص وباء الطاعون حين أكد "في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلص من ظلالها وفل من حدها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن". هذا الوصف والتدقيق الخلدوني في تداعيات الوباء على الأمم والشعوب، لم يحظ بأي اهتمام من الإدارة الأمريكية الترامبية، التي تعاطت معه بتجاهل واستخفاف، وتركت الرئيس دونالد ترامب، زعيم الشعبوية، يتبنى خطاب الاستهجان والتمييع والفوضى، بدل العمل على تسطير برنامج إجرائي للحد من انتشار واستفحال الوباء. حافظ ترامب منذ اليوم الأول للجائحة إلى حينه، على خطاب شعبوي وغريب في تعاطيه مع فيروس كورونا، حيث سارع في البدء إلى طمأنة الشعب الأمريكي في أولى خطاب له بخصوص كوفيد 19، أن لا خوف من الجائحة ولا يجب التهويل من قدرها ولا ينبغي زرع مشاعر الخوف منها، لأنها بكل بساطة ستنقرض وستزول بحلول شهر أبريل 2020 بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وأن لا داعي لتوسيع قاعدة الفحص وإجراء الاختبارات. بل ذهب إلى أغرب من ذلك، حين حث على إمكانية حقن المرضى بمعقمات التطهير، مادام جميع المختصين يوصون بأهمية استعمال المعقمات وغسل الأيدي كوسيلة للوقاية من الفيروس. منذ الوهلة الأولى لوصول الجائحة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، فضل دونالد ترامب عدم غلق الحدود البرية والجوية على غرار باقي دول العالم، كما تماطل في فرض الحجر الشامل، مرجحا كفة البعد الاقتصادي على المنحى الإنساني. وكمحاولة منه لفرض هذا المنظور، دخل في صراع مباشر وعلني مع حكام الولايات الذين اتخذوا وفق الاختصاصات الفدرالية المخولة لهم ودون انتظار أو تشاور مع الرئيس إجراءات الحجر الشامل بكل تدابيره المعلومة. اعتبر ترامب هذه الإجراءات مع طول مدة الاغلاق، إجراءات غير وطنية نظرا للضرر الذي ستلحقه بالاقتصاد الأمريكي ومكانته على الصعيد العالمي، وأنه لا بديل عن فتح المجال للاقتصاد وفتح المدارس في وجه الأطفال. بل الأدهى من ذلك، دخل دونالد ترامب بنرجسيته ومزاجه الخاص في صراع علني مع كبير إدارة الأوبئة بالولاياتالمتحدة السيد فاوتشي، الذي عارض تدابير الرئيس للجائحة، مما عرضه للإقالة وتعويضه بدكتور مختص في قراءة صور الأشعة ولا علاقة له بعلم الأوبئة، كما أصر ترامب طيلة هذه الجائحة على الظهور في لقاءاته وأنشطته دون ارتداء الكمامة، ودون الحرص على التباعد الجسدي، بل ذهبت به شعبويته إلى الإلحاح في الطلب من أحد الصحافيين في إحدى ندواته الصحافية خلع الكمامة إن أراد طرح السؤال عليه. لم تقف القفشات الشعبوية لترامب عند هذه الحدود، بل عمد إلى نقل الصراع إلى داخل أروقة منظمة الصحة العالمية، معتبرا إياها منظمة تخدم أجندة جمهورية الصين الشعبية، وهو الذي أكد وجدد التأكيد، ومازال يؤكد أن فيروس كوفيد 19 فيروس صيني، مستعملا هذه العبارة بلغة عنصرية مقيتة، مما دفعه إلى سحب عضوية الولاياتالمتحدةالأمريكية من هذه المنظمة الأممية. بحكم التقارير اليومية عن الحالة الوبائية التي ترفع إلى إليه والتي كانت صادمة، اتخذ ترامب منهجا آخرا، تمثل في توجيه الرأي العام الأمريكي للانشغال والاهتمام بالصراع الدائر بين الولاياتالمتحدةالأمريكية وجمهورية الصين الشعبية، جاعلا منها عدوا حقيقيا ينبغي التصدي له ومجابهته، وهو ما خلق داخليا وخارجيا أجواء مماثلة لما عاشه العالم إبان الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفياتي، وأهمها التجاذبات القطبية. أجواء أضفى عليها ترامب سمات التجسس والتخابر المهددين للأمن القومي الأمريكي، وذلك من خلال سلسلة من الأزمات المتتالية كانت عناوينها: أزمة هاتف هواوي وتطبيق التيك توك في الهواتف النقالة، وأخطرها اعتباره العمل القنصلي الصيني عملا استخباراتيا، ترتب عنه أزمة دبلوماسية غير مسبوقة بين البلدين بعدما أصدر ترامب قرارا بإغلاق القنصلية الصينية بالتراب الأمريكي، قابله بندية قرار الصين إغلاق القنصلية الأمريكية بترابها. لم يكتف ترامب بهذا المسار، بل زاد من تأزيم العلاقة مع الصين من خلال التدخل لدعم دعاة الانفصال في تايوان واللعب على ورقة حقوق الإنسان التقليدية والمشروخة، والمبالغة في التهويل والتخويف من القدرات العسكرية الصينية. كل ذلك رغبة منه في تطبيق استراتيجية الاحتواء وتنزيلها على الصين وفق نموذج الاحتواء الذي مورس بنجاح على الاتحاد السوفياتي، وهو في ذلك يريد تفعيل شعار التفوق الأمريكي الذي صاغه الجمهوري تشارلز كروتهامر في كتابه "عقيدة بوش" والذي ينبني على: "ليست أمريكا مجرد مواطن دولي. إنها قوة مهيمنة في العالم أكثر هيمنة من أي قوة أخرى منذ روما. بالنتيجة، فإن أمريكا هي في موقع يمكنها أن تعيد تشكيل القواعد، وتغيير التوقعات، وخلق حقائق جديدة. كيف؟ بإبراز إرادتها دون تبرير ولا عناء". إن تنزيل هذا الشعار في السياسة الخارجية الأمريكية في عهد دونالد ترامب، يجعلنا نفهم العديد من القرارات المتخذة على الصعيد الدولي من قبيل الانسحاب من منظمة الصحة العالمية واتفاقية المناخ والخروج من الاتفاق النووي ومن مجلس حقوق الإنسان والأزمة مع المحكمة الجنائية الدولية. ويجعلنا نفهم أيضا التعاطي مع القضية الفلسطينية بعنجهية وتعال وإقصاء، دون أي اعتبارات للمسارات التاريخية والتراكمات الدبلوماسية والتفاوضية، ضاربا عرض الحائط كل الاتفاقات السابقة التي تحققت منذ اتفاق أوسلو الذي ارتكز على قاعدة اتفاق "الأرض مقابل السلام"، لينتقل إلى تنزيل قاعدة اتفاق جديدة قديمة "السلام مقابل السلام"، التي نظر لها كبار موظفي البيت الأبيض في عهد جورج بوش الأب، الذين عارضوا عملية اتفاق أوسلو ونصحوا حكومة إسرائيل بالتخلي عنها، وذلك من خلال ورقتهم لسنة 1996 المعنونة "بالفرصة الأخيرة" ضمن مشروع "القرن الأمريكي الجديد"، حثوا فيها حكومة بنيامين نتنياهو الإسرائيلية على التخلي عن عملية أوسلو وفكرة الأرض مقابل السلام والإصرار على السيطرة الدائمة على الأراضي المحتلة. وجاء في الورقة، حسب أناتول ليفن في كتابه "أمريكا بين الحق والباطل: تشريح القومية الأمريكية": "مطلبنا الأرض-التي تمسكنا بالأمل من أجلها مدة 2000 سنة-وهو مطلب شرعي ونبيل ... القبول غير المشروط من العرب بحقوقنا، خصوصا فيما يخص الأراضي، السلام مقابل السلام، هو الأساس الصلب للمستقبل"، وتعني قاعدة السلام مقابل السلام، الضغط على الأنظمة العربية من أجل القبول بحكم إسرائيل كل أراضي فلسطين. عصفت جائحة كورونا بكل الإنجازات الترامبية الداخلية والخارجية، وخصوصا الإنجازات الاقتصادية التي تحققت في السنوات الثلاث من حكم ترامب، وبشهادة الخصوم قبل الأصدقاء، حيث حقق الاقتصاد الأمريكي نموا هائلا تجاوز كل الرؤساء السابقين، وخصوصا سلفه باراك أوباما، كما حققت بورصة وول ستريت مؤشرات جد إيجابية وغير مسبوقة، مما انعكس إيجابا على تقليص معدلات البطالة. إلا أن رياح كورونا أتت بما لا يشتهيه ترامب، حيث كباقي الاقتصاديات العالمية، تضرر الاقتصاد الأمريكي من جراء إغلاق الوحدات الصناعية والخدماتية، وتضررت المقاولات الصغرى والمتوسطة وحتى الكبرى، من قبيل شركات الخطوط الجوية وشركات النفط، والوحدات الإنتاجية التسويقية، من قبيل شركات السيارات، وما ترتب عنه من تسريح للعمال وفقدان الملايين لوظائفهم، ناهيك عن انعدام شبكة الأمان للرعاية الصحية والاجتماعية بالمقارنة مع ما وفرته بقية الدول المتقدمة، زد على ذلك ارتفاع عدد الوفيات والإصابات بفيروس كورونا في صفوف الطبقات الفقيرة وانتشارها في أحياء الأمريكيين من أصول إفريقية ولاتينية وفي صفوف المهاجرين. كل هذا زاد من واقع تمزق النسيج الاجتماعي الذي أخرجه للعلن مقتل المواطن الأمريكي من أصول إفريقية جورج فلويد على يد عناصر من الشرطة، وما أفرزه من احتجاجات عمت كل الولاياتالأمريكية، وما تولد عنها من أعمال عنف أفرزت تنظيما شعبيا حمل اسم حركة "حياة السود مهمة"، وخلقت في المقابل رد فعل يمينيا عنصريا وجد سندا سياسيا من الرئيس دونالد ترامب الذي أدان حركة الاحتجاجات ووصفها ب"المعادية لأمريكا" وأن أعمال العنف التي تخللتها "إرهابا محليا". هذا الانقسام أسس لبروز ميليشيات وفصائل مسلحة، حيث تشير الاحصائيات إلى ارتفاع معدل تسلح المواطنين، إذ بيعت 20 مليون قطعة سلاح في الأشهر الأخيرة. في ظل تداعيات جائحة كورونا، وأمام هذا الانقسام والاستقطاب المجتمعي، وفي ظل واقع اقتصادي متضرر، وأزمة بنيوية حادة تجلت في التمايزات الاثنية، وأمام فقدان البوصلة الأمريكية، وفشل البوتقة الأمريكية في تحقيق الانصهار المجتمعي، ومع بداية العملية الانتخابية، سارع ترامب إلى تبني نظرية "سياسة الشيطان"، التي تقول إن هناك قوى شريرة في الداخل والخارج تتزعمها نخب ليبرالية ويسارية وأقطاب إعلامية وحلفاء مزعومون في أوروبا وآسيا، يمثلون الشياطين المسؤولة عن إفشال أي تدبير سياسي، وهو بذلك أراد تصدير سوء تدبيره إلى الأطراف المتصارعة معه، نظرا لوقوفه على حقيقة وضعه الانتخابي الصعب، في مواجهة خصمه الديمقراطي الذي بدا من الوهلة الأولى يخاطب كل التيارات والتكتلات والمكونات الرافضة لسياسة ترامب، ويغازل أيضا فئة جديدة كانت غائبة عن المشهد الانتخابي وهي فئة الشباب المستقلين وفئة المسنين المتضررين من الجائحة. وهذا ما دفع بترامب إلى التشكيك في العملية الانتخابية قبل بدئها، ورفضه لآلية التصويت بواسطة البريد، لعلمه وقناعته وعبر التجربة الانتخابية الأمريكية، بأنه كلما كانت نسبة التصويت ضعيفة كانت فرصة الجمهوريين في الفوز أكبر، وهو ما وقع في نوفمبر 2002 حيث حقق الجمهوريون نتائج باهرة في مجلسي الشيوخ والنواب بمشاركة اقتصرت على نسبة 15% من مجموع عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية. ظلت كورونا في تصاعد مخيف في موجتها الثانية، ومرت عملية الاقتراع، وصوت ما يقارب 100 مليون أمريكي عبر البريد في سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ الأمريكي بسبب الخوف من الجائحة وتفادي التجمعات ضمانا للسلامة الصحية، وضدا على دعوة ترامب للجمهوريين للتصويت المباشر يوم الاقتراع. وضدا على شعبويته، صوت اليهود والسود واللاتينيون الأمريكيون بكثافة للحزب الديمقراطي وبرنامجه الاجتماعي القائم على اقتصاد عادل مع الزيادة في الرواتب والقضاء على الفقر وتحقيق مجانية التعليم والصحة، وتوحيد المجتمع الأمريكي الذي لا تظهر في الأفق ملامح توحده، ما دام ترامب وشعبويته وشعبوية أتباعه ترفض نتائج الانتخابات وتريد تحويل الصراع من حقل السياسة إلى الشوارع والميادين والمواجهات التي إن بدأت لن تعرف طريقها إلى النهاية.