إهداء خاص: إلى كل المنابر الإعلامية المهنية والأخلاقية إلى كل القراء الأوفياء الذين ألفوا صورتنا ضمن صور كتاب الرأي بعدد من المواقع والجرائد الإلكترونية إلى كل الأهل والأحبة والأصدقاء والزملاء، الذين لم يبخلوا علينا بثمرة الاتصال، استفسارا عن حالتنا الصحية إلى كل من آزرنا باتصالاته واستفساراته وأحاطنا بدعواته الطيبة من أجل صفحات رصعتها بكلماتي على امتداد ثلاث سنوات في عدد من المواقع والجرائد الإلكترونية.. من أجل قراء أوفياء ألفوا صورتي بين صور كتاب الرأي في عدد من المواقع الإلكترونية الأكثر مقروئية على الصعيد الوطني.. من أجل الحرص على العروة الوثقى التي لا انفصام لها بيني وبين عدد من المنابر الإعلامية المهنية والرصينة التي وثقت في أسلوبي وآمنت بخطي التحريري.. من أجل قلم حر ونزيه قادني ذات يوم إلى رحاب صاحبة الجلالة التي باتت ملاذي الآمن للبوح والإفصاح والتعبير عن الأفكار والآراء والمواقف حيال ما يشهده المشهد السياسي والاجتماعي والتربوي من متغيرات ومن دينامية متعددة المستويات، إيمانا مني بقوة الفكر البناء والرأي الخلاق في الارتقاء بمستويات الذوق والنقاش والتحليل والمواكبة والتتبع لما ينسج من خطط وسياسات حكومية، في ظرفية خاصة واستثنائية تستدعي إعلاما قويا يقضا ومواطنا مسؤولا يعي خصوصيات اللحظة ويتفاعل إيجابا مع ما ينزل من تدابير وقائية واحترازية من منطلق المسؤوليات الفردية والجماعية في حماية الصحة العامة.. من أجل كل هذا وذاك، لم أجد بدا وأنا طريح فراش المرض في حضرة كوفيد العنيد، إلا أن ألملم الجراح وأستجمع القوى المنهكة التي انحنت عنوة أمام رياح كورونا التي اجتاحتني ذات مساء بدون سابق إعلان، لم أجد بديلا سوى نفض غبار العجز واليأس عن قلمي الذي هجرته على مضض، بعد أن كان خليلي ومؤنسي ونافذتي التي أطل من خلالها على صاحبة الجلالة وعلى منابر إعلامية مهنية وثقت في منهجية عملي، وعلى قراء أوفياء نسجت معهم علاقات وجدانية عبر المئات من مقالات الرأي التي حاولت وأحاول قدر المستطاع أن تكون مضامينها حرة متحررة من كل ما من شأنه أن يكبح جماح القلم، أو يفرمل عجلة الفكر أو يتحكم في تحديد مسارات سفينة الرأي. بدأت الحكاية قبل حوالي أسبوع، بإحساس بارتفاع نسبي في درجة الحرارة وبحالة غير مألوفة من العياء والتعب وبصعوبات في التنفس وبامتناع تام عن الأكل، كان الإحساس الأول أنها قد تكون أعراض "نزلة برد" خصوصا مع الأجواء التي عادت ما ترافق الانتقال من الصيف إلى مرحلة الخريف، لكن ومع تأزم الأوضاع الصحية (ارتفاع الحرارة خاصة في الليل، صعوبات التنفس، الامتناع التام عن الأكل...) بات من المؤكد أن أعراضا بهذه القوة والحدة والشراسة لن تكون إلا أعراض الفيروس التاجي الذي يكون قد تسلل إلى منظومتي النفسية وعبث بأوراقها، وفي ظل هذا الواقع المحرج، لم يكن أمامي من خيار سوى الاستنجاد المبكر ببعض المضادات الحيوية والفيتامينات، في لحظة كان الإحساس فيها أن المعركة قد بدأت بيني وبين هذا الفيروس التاجي، موازاة مع ذلك، وحتى يتسنى قطع الشك باليقين، كان لا بد من إجراء "التحليلة" بأحد مختبرات التحاليل الطبية المعتمدة (700 درهم)، وبعد مضي حوالي 48 ساعة تم إشعاري بأن النتيجة "إيجابية". نتيجة كانت متوقعة، بالنظر إلى ما وصلت إليه وقتها حالتي الصحية من تدهور وتراجع مثير للقلق بشكل جعلني أقترب من الموت رويدا رويدا، حينها أدركت بما لا يدع مجالا للشك أن الفيروس التاجي متواجد بين ظهرانينا على خلاف ما يعتقد الكثير من المشككين والمتهورين، لكن الخلاصة التي وصلت إليها أن هذا الفيروس المجهري المرعب بقدر "مجهريته" بقدر ما هو "فيروس عملاق" على درجة كبيرة من القوة والفتك والقهر والخطورة والإخضاع، فيكفي قولا أنه يشل الحركات ويعطل التنفس ويفقد الشهية ويعبث بالذوق والشم، رغم أنني حافظت بشكل غير مفهوم على الحاستين معا، ويضعف المناعة الجسمية، ويدخل كل أعضاء الجسم في حالة من العياء والإرهاق والتعب، ويكفي قولا أنه يدخل عنوة الكثير من المصابين مباشرة إلى غرف المستعجلات والعناية المركزة، بل ويضع حدا لحياة الكثير منهم، لكن الأمر الذي يصعب علي تفهمه، هو كيف امتد إلي هذا الفيروس العملاق؟ وكيف تأتى له إخضاعي بالقوة؟ رغم أنني كنت أشد الحرص على التدابير الوقائية والإجراءات الاحترازية إلى درجة أن الكمامة تلازمني في كل تنقلاتي، وأن قنينة التعقيم لا تفارق جيبي، بل ولا أجلس على مكتبي في القسم إلا بعد التعقيم، بل وفي كثير من الأحيان لا أتردد في تعقيم جنبات القسم قبل حضور التلاميذ حرصا على الصحة العامة... أسئلة من ضمن أخرى، تقوي القناعة الراسخة أن هذا الفيروس لم يكشف بعد عن كل أوراقه وأسراره، ومازال حتى اليوم يعبث بأوراق العالم، حاملا هالة من الغموض والحيرة والإبهام. بعد إشعاري بالنتيجة الإيجابية، تم الاتصال بي من قبل مصالح الصحة واستفسرت فيما إذا كنت أفضل تلقي العلاج بالمستشفى أو تتبع البرتوكول العلاجي بالمنزل، لم أتردد حينها ولو لحظة في اختيار البقاء بالمنزل للعلاج عوض المستشفى لاعتبارات ثلاثة، أولهما: أن المنزل تتوفر فيه الشروط المقبولة التي من شأنها مساعدتي على الحجر الصحي وتلقي العلاج الضروري في أجواء لائقة، ثانيهما: إيماني القاطع أن السرير الذي يمكن أن أشغله بالمستشفى ربما هناك من المصابين من هو أحوج به مني، ثالثها: إسهاما مني في التخفيف عن الضغط والأعباء على الأطر الطبية والتمريضية، وفي جميع الحلات وبتوجيه من تلك المصالح الطبية، قصدت أحد المراكز الصحية بالمدينة، بعد أن باتت درجة حرارة الجسم تتراجع إلى مستوياتها الاعتيادية، وبدأت أحس بنوع من التحسن "النسبي" مقارنة مع الأيام السابقة. كان المركز مليئا في الساحة الخارجية بعدد من المصابين (حوالي 30 مصابة ومصابا تقريبا) منهم نساء ورجال وأطفال وشباب وشيوخ، جلست على أحد المقاعد في انتظار دوري، حينها أدركت أن الأرقام التي يتم الإفصاح عنها في نشرة كورونا كل يوم من قبل مصالح وزارة الصحة هي أرقام واقعية بالنظر إلى اتساع دوائر الإصابات في الأسابيع الأخيرة، وربما الأرقام المعلنة قد لا تكون معبرة بشكل حقيقي عن واقع الحال، لاعتبارين اثنين، أولهما: صعوبات الولوج إلى إجراء التحاليل المخبرية المجانية، وثانيها: أن الكثير من الحالات إما لا تظهر عليها أعراض كورونا أو تتكيف مع المرض وتحاول مواجهته باستعمال البرتوكول العلاجي الذي بات رهن إشارة المصابين بمختلف الصيدليات أو الاستنجاد بالعلاج التقليدي (الأعشاب...)، وفي هذه الحالة، قد تتكاثر فرص نقل العدوى إلى غير المصابين ما لم يتحل المصابون بما يكفي من المسؤولية والالتزام بالبقاء بمنازلهم والحرص على تدابير الحجر الصحي الذاتي. بعد أقل من الساعة، جاء دوري، تم إخضاعي كغيري من المصابين إلى إجراء تخطيط القلب، وعقبها أخذت لي عينة من الدم بقصد التثبت فيما إذا كنت أعاني من بعض الأمراض أو المشكلات الصحية، في أفق مدي بالبروتوكول العلاجي المناسب الذي تم وضعه رهن إشارتي عشية اليوم نفسه، حينها أدركت بما لا يدع مجالا للشك، حجم المعاناة التي تعاني منها الأطر الطبية والتمريضية وحجم الضغط على البنيات الصحية القائمة في ظل الارتفاع المهول في عدد الإصابات المؤكدة في المغرب كما في العالم، "أرقام مخيفة" قد يفسرها البعض بارتفاع منسوب التراخي وانعدام ثقافة المسؤولية والالتزام والوقاية والاحتراز، ولا يمكن إلا أن نؤيد هذا الطرح، لكن في الآن ذاته، نرى أن الفيروس التاجي مازال مصرا على التفشي وما زال أكثر قدرة على الإصابة والفتك عبر العالم، ونرى في الولاياتالمتحدةالأمريكية خير دليل ونموذج، حيث باتت الأرقام تعد بالملايين رغم ما تتوفر عليه الدولة العظمى من بنيات استشفائية ومؤهلات مالية وقدرات صحية، إلى درجة أن الوباء امتد إلى البيت الأبيض ليتسلل إلى الرئيس الأمريكي "ترامب". في انتظار أن يجودوا علينا بعلاج أو لقاح ناجع، ليس أمامنا أولا سوى الحرص ما استطعنا إلى ذلك سبيلا على الجوانب الوقائية والاحترازية، وليس أمامنا ثانيا سوى استخلاص الدروس والعبر والتحلي بما تقتضي المرحلة من مواطنة والتزام واستحضار للصالح العام، فالوقاية والاحتراز شرطان لا يمكن الاختلاف بشأنهما، لكن في الآن ذاته لا يمكن تسخيرهما أو استثمارهما للهروب إلى الأمام أو إخفاء الحقيقة، فما هو باد للعيان أن جائحة كورونا كشفت بقوة عن سوءاتنا وعرت عن حقيقة سياساتنا التنموية التي كرست أعطابا بنيوية عبر سنوات، وفرضت علينا إعادة ترتيب الأوراق والأولويات والسياسات، وأبانت حجم القصور في قطاعات حيوية واستراتيجية، وعلى رأسها الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، ويفترض الإقلاع عن العادات السيئة التي كرست مقولات "المغرب العميق" و"المغرب غير النافع" وعمقت الفوارق الاجتماعية والتباينات المجالية، من قبيل "الريع" و"إهدار المال العام" يمينا وشمالا بدون حسيب أو رقيب. من غير المقبول ونحن في زمن الجائحة أن نعبث بالمال العام، سواء في إطار الدعم الممنوح إلى الفنانين الذي أثار موجة من الجدل، وقبله التعويضات التي منحت بسخاء لقطاع الصحافة والإعلام ولرئيس وأعضاء المجلس الوطني للصحافة، دون إغفال التعويضات السخية التي منحت لأعضاء "مجلس الهيئة الوطنية لضبط الكهرباء"، وغير ذلك من التعويضات التي يستفيد منها في صمت رؤساء وأعضاء العديد من المؤسسات والهيئات الدستورية، دون أن يكون لمهامهم أثر على مستوى الواقع. من غير المقبول أن "نسد الروبيني" في وجه قطاعات تحت مبرر الأزمة، وفي الآن ذاته نستمر في سياسة "اليد الممدودة" في قطاعات أخرى حتى ونحن في زمن الجائحة، بينما الظرفية الوبائية الاستثنائية هي فرصة سانحة لإحداث ارتقاء حقيقي بمنظومتنا الصحية على مستوى الرفع من المراكز الاستشفائية الجهوية والوحدات الصحية الإقليمية والمحلية، والرفع من الحصيص والوسائل والمعدات وشروط التحفيز، والتأشير على إصلاح حقيقي لمنظومة التربية والتعليم على مستوى المناهج والبرامج وبنيات الاستقبال وبناء مؤسسات جديدة بمواصفات معمارية عصرية تستجيب للتحديات الوبائية، والارتقاء بأوضاع نساء ورجال التعليم باعتبارهم محرك الإصلاح وأساسه، والاهتمام بالبحث العلمي، خاصة في المجال الطبي، والحرص على إرساء منظومة ناجعة للحماية الاجتماعية والصحية... الأزمة الكورونية تفرض الإصغاء لصوت الوطن واستثمار كل الطاقات والقدرات لإعادة البناء، في زمن لم نعد نحتمل فيه "الترميم" أو "الروتوشات" أو "الرقص على إيقاع" الأرقام الخادعة، كما تفرض "حماية المال العام" الذي يتربص به بعض المتربصين والمتهورين والعابثين، الذين يختزلون علاقتهم بالوطن في تلك البقرة الحلوب التي لا تصلح إلا للسلب والنهب والحلب... إصابتنا المؤكدة تنضاف إلى الآلاف من حالات الإصابات المؤكدة التي طالت العديد من نساء ورجال التعليم عبر التراب الوطني، وهي لحظة مفصلية لمساءلة واقع حال الشغيلة التعليمية بكل فئاتها ومستوياتها داخل الفضاءات المدرسية، خدمة لرسالتها النبيلة في هذه الظرفية الخاصة والاستثنائية، ويصعب علينا النبش في حفريات واقع الحال تاركين لكل أستاذ(ة) الحرية الكاملة لمساءلة واقعه المهني من حيث مدى حضور ظروف الوقاية والاحتراز، لكن في الآن ذاته نشدد على ضرورة الالتزام بالبروتوكولات الصحية على صعيد المؤسسات التعليمية في العالمين الحضري والقروي، ولا نقصد هنا التشوير أو التعقيم، بل الحرص المستدام على تنظيف وتعقيم الفضاءات المدرسية والمرافق الصحية والحجرات الدراسية والفضاءات الرياضية، والحرص على العناية بالفضاءات الخضراء وإزالة الأتربة والأنقاض وتبليط الجدران وصباغة الأقسام وتشذيب الأشجار، ووضع الكمامات والمعقمات رهن إشارة التلاميذ والمدرسين، والرهان على الجوانب التواصلية توعية للتلاميذ بخطورة الوباء وبأهمية الوقاية والاحتراز، حرصا على الصحة العامة لكافة المتدخلين في الوسط المدرسي، مع ضرورة تقريب "التحاليل المخبرية المجانية" من نساء ورجال التعليم، من منطلق أنه كلما كان "الكشف مبكرا" كانت فرص السيطرة على الفيروس كبيرة، والعناية بالمصابين منهم وإحاطتهم بما يكفي من الدعم النفسي والمساندة المعنوية، ومن غير المقبول أن يترك "الأستاذة(ة)" المصاب(ة) يواجه مصيره بنفسه، في لحظة عادة ما يتم التموقع فيها بين "الموت" و"الحياة". في خاتمة هذا المقال، مازلنا في حضرة كوفيد العنيد، ومعانقتنا للقلم لبناء جسر تواصلي مع عموم القراء الأوفياء عبر ما ألفناه من مواقع وجرائد إلكترونية، معناه أننا بصدد العودة من معتقل كورونا حيث واجهنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا خصما تاجيا "عملاقا"، نعترف بأنه أرهقنا وأتعبنا ولخبط حياتنا، وجعلنا في لحظة من اللحظات نقترب من دائرة الموت، لكن بفضل الله عز وجل، وبفضل الدعم الأسري والعائلي، وبفضل ما تلقيناه من اتصالات هاتفية يومية من زملاء أساتذة وأصدقاء ومحبين ومن فعاليات نقابية محلية، استطعنا الوقوف واستجماع القوى، وها نحن نتحسن يوما بعد يوم في أفق أن نسترجع عافيتنا كاملة بحول الله وقدرته. فألف شكر وامتنان لكل من اتصل بنا هاتفيا ونحن في صلب هذه المحنة الصحية الحرجة، ليستفسر عن حالنا والاطمئنان عن أحوالنا، فالفيروس العنيد قد يتم قهره بالدواء والمضادات الحيوية والنظافة والاستحمام والتغذية السليمة، ويتم قهره أيضا بأقراص الدعم والمؤازرة والمساندة حتى لو كانت "عن بعد" من جانب الأصدقاء والزملاء والمحبين، فعشتم جميعا وأحاطكم الله بموفور الصحة والعافية، عسى أن يزيل عنا سبحانه وتعالى "وباء" كشف عن سوءتنا ونحن غافلون وأبان لنا نحن بني البشر كم نحن ضعفاء... كم نحن ضعفاء جدا... [email protected]