لا يزال الحديث عن رغبة العديد من الدول في وضع قيود على الأنترنيت مما ينهي عصر "الويب المفتوح" محل جدل واسع، حسب ورقة لمركز المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة، ولا سيما مع انتشار الفكر "الطوباوي" السيبراني والفكر "التحرري" السيبراني الذي يرى أن الفضاء الإلكتروني غير قابل للحكم، ومن ثم يجب الحفاظ عليه باعتباره شبكة عالمية لا مركزية. وانطلاقًا من هذا، قدم دانيال لامباش دراسة بعنوان "إقليمية الفضاء السيبراني"، لتقدم إطارًا مفاهيميًّا لإقليمية الفضاء السيبراني، بمعنى تشكيل مناطق ذات سيادة وطنية في الفضاء السيبراني، استنادًا إلى نظرية الممارسة والمفاهيم المزدوجة لإعادة التوطين؛ وهو ما يُعرف ب"الأنطولوجيا الإقليمية"، مما يسمح بالتساؤل عن كيفية إنشاء المناطق وتشكيلها من قبل الجهات الفاعلة، وهو ما يقودنا إلى تقدير الطبيعة الديناميكية العابرة للأقاليم، والتي تعد مناسبة بشكل خاص للفضاء السيبراني وحوكمة الأنترنيت. وأخيرًا، ساهمت الدراسة في توضيح بعض الأسس المتعلقة بالجدل حول "تجزئة الإنترنت"، بالاعتماد على الإطار المفاهيمي "TPSN" (الإقليم، المكان، المقياس، الشبكة). السياسة والفضاء السيبراني تؤكد الورقة أن الفضاء الإلكتروني ليس بيئة ثابتة؛ ولكنه مجال ديناميكي ومتطور تتغير معالمه مع كل ابتكار جديد، لأنه يقوم على تخزين البيانات وتبادلها عبر الشبكات الإلكترونية. وبناء عليه، هناك علاقة تأثير متبادل بين السياسة والفضاء الإلكتروني "السيبراني"، حيث تركز معظم دراسات العلاقات الدولية على الأسئلة المتعلقة بإدارة الأنترنيت أو الحرب الإلكترونية، أو الدفاع الإلكتروني. وأبرز دليل على هذا هو إعلان أجهزة الأمن القومي أن الفضاء الإلكتروني هو "المجال الخامس للحرب" (بعد الأرض، والبحر، والجو، والفضاء). ونتيجة لذلك، وسعت العديد من البلدان أو تعمل على توسيع قدراتها الدفاعية السيبرانية. وفي المقابل، يؤثر الفضاء الإلكتروني على السياسة فيما يتعلق بالديمقراطية أو التعبئة أو المشاركة السياسية، فضلًا عن قضايا الأمن القومي. ومع ذلك، تظل سيادة الدولة من أهم الآثار المترتبة على علاقة السياسة بالفضاء الإلكتروني. وهنا، يؤكد الكاتب على ضرورة البحث عن الطرق والوسائل التي تمارِس من خلالها الجهات الفاعلة (الدول أو غير ذلك) السيطرة على الفضاء السيبراني، كقيام الحكومات بقطع الأنترنيت في أوقات الأزمات السياسية، أو التحكم في التعليمات البرمجية والخوارزميات بتقنيات الذكاء الاصطناعي، أو فرض الرقابة الصارمة على المحتوى، وهو ما تفعله تركيا وتايلاند، وأخيرًا اللجوء إلى القرصنة الوطنية أو فرض قوانين "توطين البيانات" التي تحظر نقل البيانات عبر الحدود. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الدول نادرًا ما تمارس السيطرة على المستخدمين بشكل مباشر، فبدلًا من ذلك، يفضلون الانخراط في قواعد غير مباشرة، مثل التفويض بين المؤسسات والوسطاء، هؤلاء الوسطاء عادةً ما يكونون شركات كبيرة تقدم خدمات متخصصة في الفضاء الإلكتروني (فيسبوك، وغوغل، وأمازون، على سبيل المثال)، أو الاعتماد على التكنولوجيا مثل الحوكمة الخوارزمية. وأحيانًا، تمتد السيطرة إلى خارج الحدود الإقليمية، عندما يرضخ الوسطاء للمطالب دون التمييز بين المستخدمين في البلدان المختلفة. فعلى سبيل المثال، تمتثل معظم مواقع الويب للائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) للاتحاد الأوروبي، وتنشر هذه اللائحة حتى في البلدان خارج الاتحاد الأوروبي. الأنطولوجيا الإقليمية وفقًا للورقة، يتشكل الفضاء السيبراني من مجموعة أقاليم غير حصرية ومتداخلة ومتقاطعة، يتم إعادة التفاوض باستمرار على أشكالها وخصائصها، وتعكس نفس الخصائص التقليدية لأي إقليم؛ فهي تعتمد على ترسيم الحدود الداخلية والخارجية، ويتم الإبلاغ عن حدودها، وهناك محاولات للسيطرة عليها. إذن، فإن الإقليمية هي "محاولة فرد أو مجموعة للتأثير أو السيطرة على الناس، والظواهر، والعلاقات، عن طريق تحديد وتأكيد السيطرة على منطقة جغرافية". نتيجة لهذا، تثير "الأنطولوجيا الإقليمية" أسئلة حول القوة والصراع، وهو ما يساهم في تحليل ممارسات صنع الفضاء والحدود، على سبيل المثال، من خلال أسئلة: من يفعل ماذا بالفضاء؟ ومن يضع الحدود؟ ومن يطالب بالسيطرة؟ وكيف يتم تفعيل هذه المطالبات؟ وكيف يتفاعل المستخدمون مع التكنولوجيا؟. نظرًا لهذا التعقيد، لا ينبغي النظر إلى الفضاء الإلكتروني على أنه فضاء فريد ومنفصل؛ فهو يتداخل مع العالم الحقيقي ويؤثر فيه ويتأثر به، حيث يمكن إحضار الفضاء الإلكتروني إلى العالم الحقيقي من خلال الهواتف الذكية وشاشات العرض الضوئية وأجهزة إنترنت الأشياء (IoT) وغيرها. في المقابل، يتم إحضار العالم الحقيقي إلى الفضاء السيبراني من خلال تقنيات تحديد الموقع الجغرافي، والتي غيّرت بشكل جذري طابع الأنترنيت. وهنا، تعرف الورقة تحديد الموقع الجغرافي بأنه "أي وسيلة لاكتشاف الموقع المادي لمستخدمي الأنترنيت"، كالاعتماد على التقنيات القائمة على اللاسلكي (عبر اتصال الهاتف بشبكات واي فاي أو البلوتوث)، أو ترجمة عناوين IP الثابتة إلى مواقع فعلية، ناهيك عن دور أجهزة ال(GPS) في هذا الإطار. وعليه، تظهر أهمية تحديد الموقع الجغرافي في العديد من المجالات، "كالحجب الجغرافي"، أي رفض الوصول إلى المحتوى بناءً على الموقع الفعلي للمستخدم، أو إعادة توجيه المستخدمين إلى محتوى خاص بالمستخدم أو خاص بالبلد، وأخيرًا السماح للحكومات بتطبيق اللوائح والقوانين المحلية؛ لكن بالرغم من الإمكانيات والفوائد الهائلة لتقنيات تحديد الموقع الجغرافي، فإنها تنطوي على العديد من المخاطر، وهو ما عبر عنه الكاتب يساور سفانتيسون قائلًا إن انتشار تحديد الموقع الجغرافي سيدمر حتمًا "الطبيعة بلا حدود". ومع ذلك، يمكن التهرب من تحديد الموقع الجغرافي باستخدام أدوات إخفاء الهوية، كخوادم الوكيل -على سبيل المثال- من خلال برنامج VPN، أو عن طريق إيقاف تشغيل الوظائف اللاسلكية والهاتفية والبلوتوث للهاتف الذكي، مع العلم بأن قلة من المستخدمين لديهم القدرة على القيام بذلك. باختصار، علينا تجنب التفكير في الفضاء الإلكتروني (أو المناطق السيبرانية) كشيء منفصل عن "العالم الداخلي"، أي ستتلاشى حدود الأنترنيت/الأشخاص، حيث ستصبح الأنشطة عبر الأنترنيت جانبًا أكثر انتشارًا وطبيعيًّا من حياة الناس اليومية. الممارسات الإقليمية يُتيح لنا التفكير في الممارسات الإقليمية في الفضاء السيبراني أن نسأل: كيف تشكل الممارسات المناطق؟ وكيف تؤثر هذه المناطق على الممارسات المستقبلية؟. وهنا تحدد الورقة خمسة عناصر للممارسة: (1) الممارسات كأداء. (2) الممارسات كأنماط منتظمة دون تحديد السلوك. (3) تفسير الممارسات وفهمها في إطار العلاقات الاجتماعية. (4) ممارسات الاعتماد على المعرفة التي تعطي غرضًا معينًا. (5) ممارسات ارتباط الخطابات مع العالم المادي والتي تعطي معنى للفعل. نتيجة لهذا، فإن أي ممارسة يهدف أداؤها إلى تفكيك الأراضي الموجودة أو (إعادة) إنشاء مناطق جديدة، تعتبر ممارسة إقليمية. وهو ما يتعلق بالحديث حول "السيادة الإلكترونية"، أو "السيادة على البيانات"، أو "السيادة الرقمية"، والتي تدعمها بشكل أساسي روسياوالصين، ولكنها تجد أيضًا بعض الزخم في دول مثل فرنسا وألمانيا. في هذا السياق، اقترحت الورقة تصنيفًا ثلاثي الأبعاد للممارسات الإقليمية ليتم من خلاله إعادة إنتاج الأراضي، وهو: إعادة إنتاج الأراضي، والاتصال بالحدود، وإظهار القوة بشكل منتظم. هذا التصنيف حيادي فيما يتعلق بنوع الفاعل، سواء أكانوا دولًا أو شركات أو مستخدمين / مبتكرين، على الرغم من أن هؤلاء لديهم قدرات مختلفة ويعملون على مستويات مختلفة. انطلاقًا من هذا، تشير الورقة إلى قدرة كل من الدول والشركات على إنشاء مناطق أو أقاليم في الفضاء السيبراني؛ فهناك العديد من الأدوات المتاحة للدول التي تسعى إلى إعادة إنشاء أراضيها الوطنية في الفضاء السيبراني، كحجب IP، والبحث عن الكلمات الرئيسية لمراقبة المناقشات حول الموضوعات الحساسة، ومنع الوصول إلى مواقع الويب التي تعتبر تخريبية. وهو ما تم تطبيقه في العديد من الدول، كالجدار الناري العظيم في الصين، ونظم الرقابة الحكومية الصارمة على الأنترنيت في كوريا الشمالية. وعلى الجانب الآخر، ستخلق الشركات الكبرى (مثل: غوغل، وآبل، ومايكروسوفت) مناطق في الفضاء السيبراني، من خلال ابتكار منتجات تحدد منطقة في الواقع الافتراضي والتي سيتعين على المستخدمين الآخرين المرور من خلالها، كما ستستخدم الشركات برامج إدارة الحقوق الرقمية والتراخيص المحدودة وملفات تعريف الارتباط ومتطلبات التسجيل لإنشاء حدود تسمح بجمع البيانات، ومراقبة المستخدمين، وتحقيق الدخل من الوصول إلى المحتوى الرقمي. أخيرًا، ستعتمد بعض الشركات على التحديد الرمزي للمناطق من خلال التصميم والشعارات والتكرار المستمر لأسماء العلامات التجارية. باختصار، سترغب الشركات في إعادة توطين الفضاء الإلكتروني لدعم أنشطتها الريادية. ويرجع ذلك جزئيًّا إلى موقف العديد من الشركات المتضارب تجاه السياسة والقانون. فمن ناحية، ستمتنع الشركات عادةً عن خرق القانون بشكل صريح لتقليل مخاطر العمل. ومن ناحية أخرى، ستعمل على تحدي الدولة بسبب العداء المتأصل في الشركات ضد ما تعتبره تدخلًا غير شرعي أو غير فعال للدولة الذي يحجب الآثار التحريرية والتمكينية للتكنولوجيا. ولعل ما فعله مارك، مؤسس تطبيق "فيسبوك"، في الآونة الأخيرة، والذي جعله محل اتهام أمام المحكمة، أبرز مثال على تحدي ومقاومة الدولة. ختامًا، توصلت الدراسة إلى عدد من النتائج؛ أهمها أن الحدود في الفضاء الإلكتروني إلى حدٍّ ما سهلة الاختراق، وأن المناطق في الفضاء الإلكتروني نادرًا ما تكون ثابتة ولكن يمكن تكييفها وتحويلها وحتى نقلها، ناهيك عن تداخلها مع العالم الخارجي. نتيجة لهذا، من الممكن إعادة تقييم أطروحة "تجزئة الأنترنيت"، كتحذير بشأن إعادة التوطين المتزايد للأقاليم الوطنية في الفضاء السيبراني، وهناك بعض الأدلة التي تدعم هذه الأطروحة، مثل المكافآت الوطنية، وقوانين توطين البيانات، وتطبيق تقنية تحديد الموقع الجغرافي لفرض الرقابة أو حظر المحتوى المرفوض.