الكل يعلم أن طبيعة الرواد المؤسسين للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حولت هذا الحزب إلى فضاء سياسي بأرضيات تطورت عبر الزمان، محتكمة دائما إلى أهم ما زخر ويزخر به التاريخ البشري عبر العصور من دروس وعبر. فأطروحته الاشتراكية المتطورة شكلت باستمرار إبداعا فكريا غنيا، شارك ويشارك في تحيينها نجوم في الفكر والمعرفة بتخصصاتهم المختلفة، وعلى رأسها الفلسفة والاقتصاد والمالية والتاريخ والفقه والأدب والفن والرياضة. لقد تمحورت باستمرار حول قضايا أساسية وجوهرية متعلقة بالأسئلة الوجودية للشعب المغربي بشقيها المادي والروحي. وعليه، نظرا لدقة منهجيته وخطاباته، فكرا وممارسة، تحولت مقرات الحزب الترابية إلى أقطاب سياسية ذات جاذبية عالية، إلى درجة شكل حدث وفاة المرحوم سي عبد الرحيم بوعبيد محطة تاريخية بارزة، اجتمع من خلالها، في موكب جنائزي جماهيري ضخم، كل الطاقات والنخب المغربية، بمشاربها السياسية والمؤسساتية والنقابية والجمعوية والفكرية. لقد برز بالواضح أن محطة التأسيس، وما تلاها من أشكال نضالية قوية بمآسيها ومكتسباتها، جعلت هذا الحزب حكيما ومتبصرا في اقتراحاته الإصلاحية، إلى درجة أصبحت كل مذكرات وتصريحات قياداته مرجعا ثريا بالمصطلحات التي أغنت القاموس السياسي والحقوقي بالبلاد. لقد فطن وأدرك رواد هذا الحزب مبكرا أهمية الشغف الديني بالنسبة للمغاربة. لقد اتخذوا جميع التدابير اللازمة لترسيخ الإيمان المستوحى من العقل، حريصين كل الحرص على تقوية التقابل الموضوعي، بأبعاده الفكرية، ما بين الله والأديان والعلم من خلال التفكير والاجتهاد الدائمين، طامحين بذلك جعل الإسلام دين تسامح وسلام وخلاص وعقيدة لإنتاج معنى المعاني الوجودية والقيم التقدمية. إنهم لم يدخروا أي جهد لتحويل التواصل الاجتماعي والثقافي والنضالي بالبلاد إلى آلية لإنتاج معنى وإحساس حقيقيين وموضوعيين للحياة، موضحين باستمرار أن الاستحضار الدائم لهواجس الخوف من الموت، كحقيقة حتمية بالنسبة للبشر، ما هو في العمق إلا شعور مصطنع، يحمل بين طياته الباطنية هدف حرمان الأفراد والجماعات من متعة العيش بشكل لائق. إن استحضار الحاجة إلى الله يجب أن تكون مصدر قوة للعمل المتواصل والبحث العلمي والفكري للدخول إلى فضاء المنافسة الاقتصادية العالمية ذات الوقع الإيجابي المتواصل على مستوى عيش الشعب المغربي، وتحويل الاعتقاد إلى روابط اجتماعية وإنسانية منفتحة، تناهض الطائفية والتعصب والتطرف، وما ينتج عن ذلك من صراعات وحروب دينية فتاكة. إن العودة إلى التعصب الديني عربيا ومغاربيا، وظهور منظمتي القاعدة وداعش كنموذجين ميزا نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، يعتبر في المنظومة والمرجعية الفكرية الاتحادية اعتداء على مستقبل شعوب المنطقة والدين الإسلامي نفسه. فإيهام البسطاء بإحياء الخلافة، تحت شعار "العودة إلى الدين"، وبهذا الشكل العنيف، لا يمكن اعتباره إلا دوغماتية عقائدية، سيترتب عنها، بلا شك، خريطة سياسية مشرقية جديدة، سيكون سياسيوها تابعين للقوى العالمية ومركزها دولة إسرائيل. إن التطرف الديني في المنطقة يعتبر آفة سياسية مصطنعة، تم الترتيب لها في زمن التراجع السياسي الفكري في حياة الشعوب العربية والمغاربية. لقد تميز توقيت تنفيذ هذا الترتيب بحدث تاريخي هام جدا، قطع فيه الغرب أشواطا كبيرة في مجال مصالحة الدين مع الديمقراطية والعلم. لقد عاشت الدول الغربية في القرن العشرين حدثا بارزا على المستويات الفكرية والروحية والأخلاقية، حدث اخترق الطبقات الاجتماعية (الأغنياء، الطبقة الوسطى، الفقراء، الأقوياء، الضعفاء، النساء، الرجال، الأطفال، الشباب،...) وتجاوز الحدود (الفرنسيون، الألمان، الإيطاليون، والبريطانيون، الأمريكيون،...)، ويتجلى في الترسيخ الثقافي للثورة العلمية وثورات الأنوار في أذهان الشعوب. فعلا، لقد ارتقت ثقافة شعوب الحضارة الغربية، بكشوفاتها العلمية والتكنولوجية وبأسلحتها المتطورة الفتاكة، إلى مستويات جعلت العلم والفكر مرتكز الوجود الفردي والجماعي. لقد طوت شعوب العالم المتقدم الصفحة نهائيا عن الأحداث التاريخية المؤلمة التي أتاحت للكنيسة التسلط بعنف شديد على المفكرين والفلاسفة والعلماء، بحيث عبرت كنيسة اليوم عن مواقف صريحة مؤيدة للبحث العلمي والحرية في التفكير والإبداع، مع القيام بتعبئة شاملة لمناهضة القراءة الحرفية والسطحية للنصوص الدينية. وكإشارة قوية معبرة على هذا التوجه الجديد، عبر البابا جان بول الثاني بشكل صريح وواضح في سنة 1996 أن نظرية التطور الدروينية تفوق بحقائقها مستوى الفرضية، وأن الكنيسة اليوم تؤيد حرية البحث والتفكير، ولا تعارض أي اكتشاف علمي كيف ما كان نوعه، لأنها اليوم تؤمن بأن الحقائق العلمية هي الأقرب إلى الحقائق الإلهية الكاملة (parfaites) واللامتناهية (infinies). بفعل التفاعل القوي وشجاعة المؤرخين والمفكرين والعلماء، وتسليطهم الانتقادات اللاذعة إلى الكنسية، اندثر الصراع الديني مع العلم، بحيث تمت الدعوة في كل مناسبة في العصر الحديث إلى الحد من التضييق على العلماء والبحوث العلمية. لقد اعترفت الكنيسة بذلك بمأساة الماضي، التي كان أبرزها محاكمة جاليليو جاليلي ونظرية التطور. لقد توج تاريخ صراع الدين والعلم، والتفاعلات السياسية المرتبطة به، بختم قصة صراع البابوية مع التنوير الثقافي والعقائدي ببداية عهد جديد قضى نهائيا وتماما على المفاهيم الخاطئة والوهمية. إن الاستباق الاتحادي في مجال التوقعات المستقبلية جعل قياداته، منذ تأسيسه، مؤمنة بحاجة البلاد إلى ترسيخ قيم إسلام الأنوار الموطد للخصوصية الثقافية المغربية، الذي يركز على العقلانية كآلية وحيدة للتقرب من الله عز وجل، صانع هذا الكون الجميل بتصميمه المبهر بتجلياته وخفاياه، والضروري في حياة البشر بصفاته وأسمائه الحسنى اللامحدودة. إن الاعتقاد بالتطور الفكري والعلمي، بجدليته المستمرة، المنفتح على الانتقادات العقلانية، هو بالنسبة للاتحاد فضاء للنقاش والجدال والتجارب والبرهان المطور لجودة الأفكار والمعارف والحقائق. فالتقرب إلى الله في أدبيات الاتحاد لا يمكن أن يتم إلا بالعلم والبرهان العقلاني، تقرب لا يجب أن يشغلنا عليه التفكير في تبرير وجوده وذاته، لأن توهم النجاح في هذا التبرير هو مرادف لتحطيم الإيمان والأماني في غد أفضل زاخر بالحب والإنسانية. في الأخير أقول، فإذا كان الله، الكامل واللامتناهي، لا يحتاج لشيء، وليس في حاجة إلينا، فإن رغبات الإنسان لا حدود لها ومستويات تلبيتها تبقى دائما غير مكتملة، ليستمر العلم والبحث والفكر لتطوير الحاجيات والرفع من مستويات تلبيتها دنيويا، وليبقى واجب ومسؤولية غزو الأغوار اللامحدودة للحقائق المطلقة من خلال الكشف عن الحقائق النسبية رسالة يتحملها الإنسان كونيا من المهد إلى اللحد.