ليس في مقدور أحد أن يجزم بالشكل الذي ستكون عليه تفاصيل الدخول المدرسي، الذي تدور رحاه في هذه الأيام، والناس معذورون في هذا الحيص بيص، الذي أصاب ليس فقط نظامنا التعليمي المتذبذب من أساسه، ولكنه امتد ليُصيب أعتى السياسات التعليمية في أعتى الدول. فيبدو أن الوباء ليس إلى زوال، على الأقل في المنظور القريب. ومع هذا الإصرار الغريب، تبعثرت كثير من السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية... وفكُّ الارتباط بين المتعلم ومدرسته كان واحدا من الحلول التي ظهرت نجاعتها المؤقتة في بداية الاجتياح، لكن إلى متى يمكن الإبقاء على التلميذ محجورا وبعيدا عن فصله؟ فكلما طالت المدة انتصر الفيروس وخسر التلميذ. وحلُّ التعليم المبعّد، لم يكن إلا إجراء ترميميا، ظهر تهافته على مستوييْ التقديم والتقويم. سيجرّ كل أولئك الذين صادف مرور الفيروس تمدرسهم في إحدى الدرجات المفصلية في سلّم التعليم، سيجُرّون عَرَجهم، وسيشكون ثقوبا وثغرات ذوات خطر عظيم، ما لم يُدركوا دركا صحيحا ومكثفا. واسألوا كل من فاتته حصة أساس في مساره الدراسي، حصة واحدة أو درس مفقود يجعل الفهم مشوشا والاستيعاب مضطربا. فما قولنا إذا جاوزت المدة الشهر أو السنة أو السنوات، أو إذا لم يلج الطفل المدرسة قط؟ فإذا كان القدْر المحصَّل من السنة الدراسية المنفلتة قد قارب أرباعا ثلاثة بغض النظر عن جودة الأداء وإذا كان الربع المنقوص قدْ أُنزل بالمظلات، عبر جرعات رقمية، لم تشمل الجميع، ولم تكن قطّ تعويضا حقيقيا لعملية التعليم المعروفة. (وهذا الربع المهدور سيظل أصحابه ذوو عوز وفاقة، ترممان في أحسن الأحوال). فما قولنا نحن الشديدي الحرص على تمدرس أولادنا حدّ الهوس في كل تلك الأجيال التي حُرمت التعليم نتيجة الحرب والجوع؟ أولئك الصغار الذين طالما تابعناهم على الشاشات، يحملون ملاعقهم وأوانيهم، وهم يطاردون شاحنات "الأممالمتحدة" في طوافها حول "دول" الخيام المؤقتة الدائمة. وما قولنا في إزاء كل أولئك الصغار الذين حُرموا مقاعد الدرس، بعد أن وهنت بيوتهم من طلاق أو موت أو من عَوَزٍ وفاقة، أو غيرها من عاديات الزمن، أولئك الصغار الذين "نُسرّح" لهم أرجلنا ليُلمّعوا أحذيتنا الموحلة، الذين يغورون تحت عرباتنا المعطوبة، والذين يصقلون أسرّة أرَقِنا الدائم، ويبنون عماراتنا الآيلة للسقوط. تكمن شراسة هذا الوباء العدائيّ المعدي ليس فقط في ما يسقط من وفيات وما يحصد من نفوس، ولئن كان من الممكن تدارك عثرات الاقتصاد ودورات الركود، باعتبار ما يتخلل الاقتصاد من مراحل هبوط وصعود، فإنّ البياض المدرسيّ كارثة عظمى على البلد وأبنائه في مختلف مستوياتهم التعلمية. والآن نفهم لماذا كلف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الأسرى أن يعلّموا صبيان أهل المدينة مقابل حريتهم، في تلك المرحلة الحرجة من الدعوة، ونفهم كذلك لماذا أصرّ الفيتناميون على حفر الفصول الدراسية في أعماق الأرض، والزمن زمن حرب. إنّ قوة الطباشير نظير لقوة الرصاص أو أكثر، والانتصار على العدو يعني أيضا الانتصار على الجهل والتجهيل. وهذا ما "يحاول" فعله هذا الوباء الملغز، الفتك بالناس في جسومهم وفي عقولهم. الأمر أشبه بدائرة مغلقة، فيروس مخرّب للأجسام، معطّل للعقول، ولا سبيل للقضاء عليه، إلا بهذه العقول القارئة المبتكرة، وأول الابتكار إنتاج لقاح مُبطل لفعالية الجائحة المدلهمة.