"ولكن الحقيبة وحدها وليس الحياة في الحقيبة هي التي تبقى دائما" فرناندو بيسوا في بداية شتنبر الماضي، أعلنت مؤسسة "واشنطن بوست" بشكل مفاجئ وقف إصدار الصحيفة الورقية المجانية "إكسبريس"، التي كانت توزع بشكل أساسي على ركاب المترو المسافرين في أنحاء العاصمة الأمريكية على مدار ال16 عامًا الماضية، وكانت توزع منها حوالي 190 ألف نسخة.. وقد تصدّر الصفحة الأولى للطبعة الأخيرة من الإكسبريس عنوان: "نتمنى أن تستمتعوا بهواتفكم النّتنة"..لم يكون ذلك إلا حلقة من سلسلة من النهايات الحزينة لجرائد دولية ورقية كانت تزهو بيننا بكامل بهائها وأناقتها.. وسيكون علينا - بعد زمن فيروس كورونا، حين يصحو العالم ليُعد خساراته التي ستكون فوق ما جنته البشرية من الحربين العالميتين، ليس في الأرواح بل في انهيار نظام اقتصادي وقيمي برمته- أن نعد جنازة تليق بموت الصحافة الورقية التي تبدو اليوم مثل فارس أخير سيعجل باستشهاده فيروس كورونا. أتوقع أن ما تبقى من قراء الصحف المطبوعة ممن حافظوا على نخوة التقاليد الأصيلة لملامسة الجريدة مثل جسد أنثى بفرحة العشاق وقيم النبلاء، سيندثرون تباعا، وكلما طال انتشار الوباء المعولم سيزداد كسل مقتني الصحف الورقية والمطبوعات عموما، وسيعتاد القراء وصولها إليهم على شكل "بي دي ف"، حتى قبل موعد الصدور العادي، وستضطر المقاولات الصحافية، إن أرادت لنفسها الاستمرار، أن تكيف نفسها مع سبق الصحافة الإلكترونية، رغم البون الشاسع، على اعتبار أنها أصبحت مجانية وتصل القارئ بلا أدنى مشقة عبر الديجيتال، أي عبر نفس الحامل الإلكتروني الذي صرعت به الصحف الإلكترونية شقيقتها أو ضرتها الورقية.. إن ما أكلته المقاهي من حصص مقتني الجرائد الورقية بالمغرب ستُتمه جائحة كورونا، وعلى المقاولات التي تصدر الجرائد الورقية أن تعي اليوم حجم التأثير الذي سيمارسه عليها فيروس كوفيد 19، خارج تدني صبيب الإشهار؛ فهناك الاندحار المفجع للجرائد الورقية الذي أتوقعه، لاعتبارات عديدة بعضها سابق على جائحة كورونا، ويتمثل في تقلص مساحات الغابات وانخفاض نسبة الخشب التي تعتبر المصدر الأساسي لورق الجرائد، بالإضافة إلى فورة وسائط التواصل الاجتماعي التي اختزلت الزمن المخصص لميلاد وموت المعلومة التي أصبحت أكثر سرعة للتلف وأكثر انتشارا في زمن الإعلام الرقمي...وبدل الطلب المخجل من الدولة- في عز هذه الجائحة- التعويض عن الخسائر كما اقترح بعض ناشري الصحف الورقية في اجتماع لفدرالية ناشرين الصحف، بما قيمته 70 بالمائة من رقم المعاملات التجارية لشركتين كبيرتين، وهو ما ينم برأينا عن انتهازية غير مسبوقة في ظرف سارعت فيه الدولة- رغم إكراهاتها الاقتصادية - للتعبير عن تفهم حقيقي لأزمة المستضعفين ممن فقدوا عملهم بسبب الجائحة.. والذي يساوي مجموع تعويض مائة عامل براتب 2000 درهم ممن فقدوا وظائفهم أجرا شهريا لمدير واحد من هذه الجرائد الإمبراطورية.. يجب على المؤسسات الإعلامية التفكير بالأحرى في التحول السريع من الورقي إلى الرقمي، أي تعويض ذات الجريدة المطبوعة بمنتجات رقمية، بتأسيس مواقع إلكترونية للجريدة وإنتاج نسخ سهلة التحميل على موقعها المخصص للجوال، والوسائط التطبيقات، والنشرات الإخبارية، والبث الصوتي الرقمي، والفيديو.. لأن الصحافة في حاجة إلى خبرة ومهنية الصحافة الورقية وصحافييها، وإعادة تكوين الصحافيات والصحافيين وفق هذا التطور الذي سيعمقه فيروس كورونا، الذي سيخلق قارئا كسولا يجب أن تصل إليه بدل أن يأتي إليك.. انتهى الزمن الإمبراطوري للصحيفة الورقية التي كانت تتزين كل صباح بأبهى الألوان لتغري مريديها، وتعرض كامل أناقتها وكبريائها في المكتبات وأكشاك الصحف، وتفرض على خطاب ودّها أن يأتوا إليها ويقتسموا ثمن شرائها مع قوت عيالهم. ومع الصحيفة الورقية تأتي عادة شرب القهوة وباقي الطقوس.. ذاك زمن ولّى.. إن لم تذهب إلى القارئ فستعاني الصحيفة من العنوسة والموت.. لا كبرياء مع الصحافة الإلكترونية..لعل هذا ما سنخطه يوما على صدر صفحاتنا الأولى لطبعتها الأخيرة بنوع من الغيظ والأسى: "نعم سنموت، فتمتعوا بهواتفكم النتنة أو البليدة". لقد آن الأوان لتبحث الجرائد المطبوعة عن جنازة تليق بها في زمن الرقمنة والعمل عن بعد، وتقلص مساحة التعامل مع الورق في الإدارات وفي الحياة اليومية، فهذا هو المستقبل..ومن يريد معاندة هذا الواقع المؤسف حقا سيجد نفسه ينتج منتوجا لا يشتريه أحد، والاستنجاد بالدولة قد يؤجل الموت الوشيك لا غير...والحل الجذري يتجاوز تسول الدولة التي لها إكراهات أخطر من التفكير في دعم الصحافة الورقية إلى حين الأجل المحتوم فقط، بل يستدعي فتح نقاش حقيقي بإشراك المعلنين والوزارة الوصية وكل من يتدخل في صناعة الصحافة الورقية، بما فيها المطابع وشركات التوزيع... لقد كنا نسير بخطى حثيثة نحو نهاية المطبوعات وظللنا فقط كمن يعتقد بوجود قوة قدرية يمكن أن تنقذ ما تبقى من أوفياء هذه الصحافة.. لكن اليوم مع وباء كورونا، انتهى كل شيء وبشكل غير مسبوق، وبيننا الأيام!. لقد سيطر العمالقة القادمون من وادي السليكون: غوغل، فايسبوك، تويتر ويوتوب... على سوق إنتاج الأخبار وتسويقها واستقطاب الزوار والمشاهدين بالملايين، ومعها بدؤوا يقتلون جزءا كبيرا من الصحافة المهنية لأنهم "لا يفتقرون فقط إلى شغف الأخبار، ولكن يتجنبون بنشاط مسؤوليات الناشر" في ما ينشرونه على خلاف الأخلاقيات المؤطرة للفعل الصحافي. إنها بالفعل خسارة كبرى أن يساهم فيروس كورونا في تهشيم مرآة المجتمع التي يرى فيها نفسه، لأن لكل واحد اليوم مرآة هاتفه النقال. يقول الصحافي الأمريكي دوغلاس ماكلينان مؤسس ومحرر Arts Journal وجاك مايلز الحائز على جائزة بوليتزر في مقال لهما بجريدة الواشنطن بوست: "لأجيال عديدة، أطلقت العديد من الصحف على نفسها اسم المرآة The Mirror أو المرآة اليومية The Daily Mirror أو مرآة مدينتناThe Hometown Mirror أو ما شابه.. تخيل منزلك بدون مرآة أو أي مرآة بديلة، مثل كاميرا الهاتف المحمول. تخيل أنك لا تستطيع أن ترى انعكاسك الخاص. تخيل الآن أن بلدك فقد مرآته الوطنية، ولا يمكنك أبدًا رؤية انعكاس صادق لما يبدو عليه". وستكون النتيجة أسوأ بكثير مما نتخيل، فقد ظل توماس جيفرسون يؤمن بأن الصحف مؤسسة ديمقراطية أساسية إلى درجة أنها كانت البديل الوحيد للثورات العنيفة المتكررة: "إن هذا الرقيب الهائل للموظفين العموميين، من خلال استدعائهم اليومي إلى محكمة الرأي العام، ينتج إصلاحًا سلميًا، كان مفترضا أن يتم من خلال ثورة". واقع الصحافة الورقية اليوم أسِمهُ بسِمة الاحتضار.. إن الصحافيين الذين يعملون بالصحافة الورقية يعيشون وضعا صعبا مع ظهور الحامل الإلكتروني، ليس في المغرب وحده، بل على المستوى الدولي.. إنه قدر أعمى وأحمق الخطى؛ ذلك أن التطور الذي عرفته الوسائل التكنولوجية الحديثة ووسائط الاتصال الجماهيري، وشيوع الإنترنت التي وصلت إلى أبعد الدواوير في المغرب.. جعل المطبوع بشكل عام يشهد انتكاسا بينا لا تخطئه العين، وبالتالي يبدو لي أن مدراء نشر الصحف الورقية والصحافيين العاملين بها مثل فرسان دونكيشوتيين، يريدون الموت بشرف في معركة يعرفون أنهم سينهزمون فيها حتما، والدليل وجود صحف عالمية عملاقة اضطرت إلى إغلاق جرائدها المطبوعة.. إنه قدر لا نستطيع أن نغالبه أبدا!. في موطن تقاليد قراءة الصحف الورقية والمطبوعات يحدث النزيف، فقد أنجزت الحكومة الكندية عام 2012 تقريرًا يتكهن بما قد تبدو عليه الديمقراطية في عالم ما بعد الصحف الورقية، وفي بريطانيا حذرت رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي من أن إغلاق الصحيفة بعد الصحيفة يشكل "خطرا على الديمقراطية".. رغم تقدمها مازالت الصحافة الإلكترونية موضع شك، لا من طرف الصحافيين التقليديين فقط، بل أيضا لأن التوازن والموضوعية وصياغة الأخبار من المعلومات المتداولة في وادي السليكون بمعايير مهنية مازال غائبا عند أغلب المواقع الإلكترونية، وكل ما فكرت فيه الدولة هو الجانب الأمني من ترويج الأنباء الزائفة والكاذبة أو تلك التي تضر عميقا بمصالحها، ولم نفكر كمجتمع في أي صحافة إلكترونية نستحقها كمغاربة، لأن الصحافة ستستمر والحامل الورقي هو الذي سينقرض. الصحافة ابنة عصرها وستظل قائمة، بل إنها تعرف قمة انتشائها الكوني.. فكل شيء يمر بالصحافة، التي أصبحت عصب الاقتصاد والسياسة وشؤون المجتمع والإدارة، إنها قائمة، بل زادت اتساعا. لقد أصبحنا نتكلم عن صحافة مواطنة وصحافة الموبايل، وعن تحول كل مواطن إلى صحافي؛ فما إن يقع الحدث حتى ترى كل الناس يحملون شاشات هواتفهم ويسجلونه لحظة وقوعه طريا طازجا، ويتداولونه على فيسبوك وتويتر ويوتوب وباقي مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية ودمه على خده، حتى دون أن يمر من معمل الصياغة الصحافية. يمر المغرب من تقاليد الشفوي إلى تقاليد التقني/ الإلكتروني، دون المرور بتقاليد المقروء. لقد كانت، في الحقيقة، مرحلة ضيقة تلك التي عرفت فيها الصحافة الورقية ازدهارا، لأن الصحافة المطبوعة كانت صحافة نخبة منذ بدايتها في المغرب، النخبة المتعلمة هي التي كانت تقرأ هذه الصحف؛ أما الباقي، وبسبب الأمية، فلم يكن يجد إلى المطبوع طريقا، ما يعني أن هناك ملايين المغاربة ظلوا محرومين من الصحافة الورقية ومن المطبوعات بشكل عام على خلاف الرقمي اليوم.. لم نرسخ بتاتا عادات القراءة والصحافة لم تصل بيوتنا حتى لدى النخب المتعلمة.. إن تقاليد قراءة المطبوعات ذاتها آخذة في التلاشي، وكل يوم نفقد فيه قارئا للصحافة المطبوعة لا نحلم بتعويضه، فجيل اليافعين القادمين لم يكتسبوا تقاليد القراءة الورقية وهم أميل إلى الأنستغرام والسناب شات. إن ميلاد الكائن الرقمي يحدث بيننا ونحن على عتبة توديع الإنسان الجوتنبرغي الذي خُلق مع المطبعة!. أظهر تحليل "تحالف بيو للإعلام المدقق" Pew-Alliance for Audited Media (AAM)، وهو أشبه بمكتب للتحقق من توزيع الصحف أشبه بojd، أنه في عام 2016 انخفض توزيع المطبوعات بنسبة 10 في المائة - السنة الثامنة عشرة على التوالي من الانخفاض. في الوقت نفسه، نمت الاشتراكات الرقمية بشكل مثير للإعجاب لدى "نيويورك تايمز". يوجد الآن أكثر من 2.5 مليون اشتراك رقمي بالجريدة.. وقد تنبأ ناشرون بارزون، بمن في ذلك آرثر سولزبيرجر، ابن مؤسس صحيفة "نيويورك تايمز"، أنهم يمكنهم رؤية يوم، ليس بعيدًا جدًا، عندما تختفي النسخة المطبوعة... "وعلينا التحول إلى الصحافة الرقمية كحل جوهري.. كل شيء عن مستقبل الصحف مشرق باستثناء مستقبل الإمساك بالجريدة في أيدينا". أي خطوة نقوم بها لدعم الصحف الورقية هي فقط تأجيل للموت الحتمي. يجب أن نلتفت إلى دعم حقيقي لمهنية الإعلام الرقمي، وأن نغير من مواد وديداكتيك وبرامج معاهد الصحافة لاستيعاب هذه التحولات. يجب أن نتساءل عن الدور الذي يجب أن تلعبه هذه الصحف التي نتعمد إطالة عمرها بالدعم العمومي، لتعوض تراجع المبيعات، وانكماش وتقلص سوق الإشهار الذي أصبح يتجه إلى الرقمي/ الديجيتال... يجب أن نفهم أن الصحافة الورقية انتهت.. يجب أن نجلس ونتدارس الأمر بموضوعية. هناك أزمة هيكلية وحقيقية. على المعاهد التي تخرج الصحافيين أن تُبقي الصحافة الورقية كتراث نبيل وجميل للإنسانية، مثل ما فعلته مطبعة جوتنبرغ مع المخطوطات التي أصبحت نوعا من التحف النادرة، جزءا من التاريخ لن يعود إلى الحياة أبدا، وتنكب على تغيير المخارج التي يأتي منها الصحافيون المهنيون للعمل في الصحافة الرقمية.. لأن لدينا مشاكل حقيقية، مشاكل ذات طابع قانوني، مهني، مادي ومؤسساتي.