يصعب على الدارس لواقع التعليم ببلادنا حصر مجالات التسيب وعوالم التردي التي تحيط بهذا الواقع، فهناك الهدر المدرسي والاكتظاظ والتخلف اللغوي وظاهرة الغش وتسريبات الامتحانات وإشكالات نقط المراقبة والدروس الخصوصية... وهلم جرا. وما دمنا نعيش موسم امتحانات الباكالوريا فلنتوقف عند موضوع التصحيح الذي نال قدرا مهما من الاستنكار وبعت على طرح جملة من التساؤلات حول واقعه وشروطه ونتائجه، وهذا الأمر ليس بالهين ولا يقبل الاختزال، بل ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد من مختلف النواحي لكونه يهم شريحة من تلامذتنا فاق عددها هذه السنة 400 الف، و اذا اعتبرنا أن كل تلميذ مرتبط بأسرة و محيط اجتماعي، أدركنا أهمية الفئات المتعلقة بهذا الحدث ومن ثمة تكون صفة الاستحقاق الوطني، المنسوبة للباكالوريا، غير مبالغ فيها. 1- تصحيحنا الحالي التصحيح بأسلوبه الحالي "العتيق" يمكن اعتباره الداء الصامت الذي يسري في كيان الباكالوريا، والفيروس القاتل لأحلام عدد من أبنائنا.. فمباشرة بعد صدور النتائج ارتفعت أصوات عدد من التلاميذ رافضة النقط المنسوبة إليهم ومشككة في مصداقية العملية التصحيحية وذلك قياسا لجهود وأداء هؤلاء التلاميذ خلال حصة الاختبار. وإذا كان لا بد من أخد شكايات التلاميذ بكل جدية، فتجدر الإشارة أولا إلى أن هؤلاء ليسوا جميعهم صادقين أو كلهم مبالغين في ادعاءاتهم.. أكيد أن البعض وجد في التصحيح مشجبا مناسبا لتعليق فشله أو لتبرير تراجعه في مواجهة الإحراج أمام ذويه أو أقرانه، لكن الأكيد أيضا أن فئة من تلامذتنا تضررت من هذه العملية بحكم وجود تجاوزات متعددة ومتنوعة منها ما هو موضوعي وما هو ذاتي، وسيستمر هذا الضرر ما لم تتم مراجعة نظام التصحيح برمته من خلال إرساء بديل له يأخذ بعين الاعتبار كل النقائص الحالية.. والغريب أن الوزارة تتلقى كل سنة، عقب صدور النتائج، الآلاف من طلبات إعادة التصحيح .. لكنها، بدل البحث في تطوير العملية من أجل إيقاف هذا النزيف السنوي، تجدها تتجاهل الأمر وتراهن عن هدوء العاصفة.. 2- تصرفات مرفوضة.. يقوم هذا النظام على إسناد كمية من أوراق التحرير للأستاذ (بين 40 و100 أو أزيد) وينعزل هذا الأخير في طاولة تلميذ اعتبرها مكتبا، بمدرسة سميت مركزا، وينتظره بعد يومين أو ثلاثة لإنهاء المهمة رئيس مركز ويساعده عدد من الإداريين، بعدها يغلق ظرف الأوراق المرفق بورقة النقط، المعتمدة من قبل المصحح الوحيد، لينتقل العمل إلى مرحلة المسك على مستوى الأكاديمية، وقد تجددت هذه العملية مؤخرا وأصبح الأستاذ يدخل نقطه مباشرة.. وخلال فترة التصحيح، تحدث من الظواهر ما يندى له الجبين، حيت "تخف" أيادي البعض و"تطحن" ما بينها من أوراق، في زمن قياسي، وتجد أصحابها فرحين ومزهوين، وقد يسخرون من البطيئين "المساكين" الذين يصارعون صعوبات التصحيح، رحمة بالتلاميذ وتوجسا من الوقوع في الأخطاء.. وقد تجد رئيس المركز منبهرا ومستغربا وأحيانا "يحك" رأسه حائرا أمام الفارق المهول بين السرعة الجنونية والبطء الثقيل لممارسي التصحيح، هدا فضلا عن "التطاول المريب" لبعض هواة التصحيح الذين جعلوا منه موسما مربحا حتى لو كان مخزونهم الصحي والنفسي يتنافى مع عدد الأوراق الذي سعوا إليه، حيث يترامون على أظرفة لأساتذة آخرين تأخروا عن الموعد لظروف خاصة أو تكاسلوا عن المهمة، مستغلين تساهل الإدارة مع تغيير اسم المصحح، على اعتبار أن الأساتذة سواسية أمام الواجب.. فلا يهم هل صحح فلان أو علان، ولا وجود لمصحح جيد وآخر سيئ، ما دام التصحيح يتم بكيفية فردية وسرية ومراقبة جد محدودة.. عكس عملية التدريس حيت تستحضر الإدارة الفوارق البيداغوجية بين الأساتذة ومدى الأهلية والكفاءة لتدريس هذا القسم أو ذاك. طبعا، كل هذا، من شأنه أن ينعكس سلبا على مصلحة التلميذ التي تقتضي الاستحضار الأقصى للضمير التربوي.. وهو الأمر الذي ما زال متوفرا لدى غالبية الأساتذة وإن انعدم عند أقلية.. ومن عجائب المصححين ما يتذكره بعض زملائي كنكتة حقيقية مؤسفة، قبل 5 سنوات، مصحح الفلسفة المغوار (صاحب الرقم القياسي العالمي!) الذي تغلب على ألف ورقة في أقل من3 أيام.. حيث أنجزها، بالتمام والكمال، بسرعة 48 ثانية للورقة، والعهدة على بعض الظرفاء من الراسخين في الحساب والتدقيق!! يلاحظ أيضا كيف يسعي البعض بكل الطرق الملتوية، لتصحيح أوراق عادة ما تكون منعدمة أو قليلة الإجابة، كما هو الحال بالنسبة للرياضيات، امتحان الجهوي، أو الثانية باك أحرار /مادة الرياضيات، فهده الأوراق شبه الفارغة تسيل لعابا سيئ الذكر لأن تعويضها المادي يساوي قيمة نفس عدد الأوراق في مادة ما يكتب بها التلميذ أزيد من 6 أوراق كاملة.. (علوم رياضية مثلا).. بل كنا نشاهد أحيانا مفتشين يستفيدون منها ! كما لم يسلم بعض رؤساء المراكز من فعل التجاوزات، حيت يتصرف هؤلاء بأساليب غير سليمة حركت حفيظة عدد من المصححين وأثرت عل نفسيتهم، مما دفع البعض من هؤلاء إلى تقديم شكايات للنيابة المعنية وبالمقابل يستهجن عدد من هؤلاء الرؤساء تمرد "عدد من المصححين وتراخي بعضهم وانتقاصهم من قيمة مسؤوليتهم. أما الرافضون/المترفعون عن التصحيح بدون أسباب موضوعية، فعددهم لا بأس به، بعض هؤلاء أساتذة مشهود لهم بالكفاءة داخل القسم وصيتهم منتشر، لكنهم ينظرون باستصغار لعمل التصحيح إن لم نقل باستهجان خاصة عند مقارنة المجهود بالتعويض الهزيل،،، وكأن لسان حالهم يقول للآخرين: مقابل المادي للثلاثة أيام التي تشقون خلالها، يساوي مقابل درس خصوصي واحد.. !! 3- تفاوت الضرر وفي ضوء هذا الغيض من الفيض، نجزم بوجود أخطاء عديدة، لكنها متفاوتة من حيث الخطورة والتأثير على نتيجة التلميذ النهائية، وهذا ما يجعل البعض لا يشتكي، ومن بين هؤلاء تلاميذ من يترقبون النجاح فقط، سواء ب 10.01 أو 11.99وحتى من ينتظر معدل 16.50 مثلا وجاءت نتيجته 16.36 فلا فرق لديه، لكن المسكين الذي وعد أهله و ينتظر 18 في الفيزياء مثلا ليجد 10، لا يمكن تحديد تداعيات هده النقطة على مستقبله.. والمتضررون من عملية التصحيح متنوعون والأمثلة التالية نماذج لهؤلاء: تلميذ رسب بمعدل 9.96 مثلا مع تشكيكه في بعض نقطه، واستنفد حقه في التكرار، تلميذة نجيبة تحلم طيلة السنة بدخول كلية الطب، وبفعل خطأ محتمل أو أكيد، خلال التصحيح نزل معدلها عن العتبة المطلوبة لاجتياز المباراة ، تلميذ متميز بمعدل جيد لكن نقطة الرياضيات كانت غير متوقعة، أبعدته عن الأقسام التحضيرية لمدارس المهندسين، فلجأ والداه إلى مؤسسات خاصة لاستكمال دراسته، تلميذة انهارت للنقطة الغريبة في الامتحان الجهوي واستغرب لنقطتها أيضا أساتذتها وأصبحت تحتاج لمجهود خارق بالسنة الثانية لتحقيق معدل التميز. كل هذا يتم في غياب مراقبة جدية ومتابعة دقيقة للعملية درءا لهذه الأخطاء غير المتعمدة في غالبيتها.. بالمقابل لا يفوتنا التنويه ببعض الضمائر الحية التي تعطي لكل مسؤولية حقها سواء خلال التدريس أو كل إجراءات الامتحانات، بفضل هؤلاء تجد تلامذتنا مرتاحين لنقطهم، وبوجود هؤلاء يبقى نزيف تعليمنا بطيئا، لأنهم يقدمون الجودة في واقع التردي ويستحضرون الضمير وسط طغيان الإسفاف ويرتقون باليقظة بدل السقوط في اللامبالاة... 4- الالتفاف على حق إعادة التصحيح إن ما يؤكد وجود أخطاء بالجملة في أوراق التصحيح. ما أسفرت عنه نتائج إعادة العملية بالنسبة لتلاميذ الامتحان الجهوي، في سنوات سابقة حيث استفاد عدد من التلاميذ وتم تعديل نقطهم، على الرغم من أن المراجعة تمت بطرقة تقنية، أي التحقق من مجموع النقط الجزئية والأسئلة المهملة أو المنسية والتأكد من مسك النقطة، ويتم إخبار المعنيين بالأمر بعد مرور عدة أشهر، وما دام الأمر كذلك بالنسبة للجهوي، فالامتحان الوطني مرشح لنفس كمية الأخطاء على الأقل، وفي ضوء هذه التجاوزات يمكن لنا أن نتخيل كم من متضرر سقطت أحلامه بالقلم الأحمر وأجهضت آماله التي ظل ينسجها طيلة سنة دراسية. وتنص مذكرة وزارية على حق التلميذ المتضرر في التظلم لدى الأكاديمية، إلا أن بعض الأكاديميات تحاول الالتفاف على هذا الحق من خلال التسويف والمماطلة، بدعوى أنه لو فتح المجال للجميع "فلن نستطيع إغلاقه"، وحتى عندما تتم الاستجابة لطلبات إعادة التصحيح، تحت ضغط بعض الحالات، فإنها تسند لهيئة التفتيش التي عادة ما تكون منهكة بالمهام الموكولة لها خلال إعداد وتنفيذ الامتحان، كما أن عملية مسك النقط على مستوى منظومة مسار وجاهزية بيانات النقط وشهادات الباكالوريا، كلها أمور تضاف إلى معيقات الالتزام بمراجعة دقيقة استجابة للمتضررين، حيث لا تركز العملية على مدى سلامة توزيع النقط على إجابات التلميذ بشكل صحيح وصائب، كون الأمر قد يستغرق وقتا طويلا! هكذا تضيع حقوق التلاميذ وتصبح مطالبهم غير ذات جدوى.. 5- التصحيح الجماعي هو البديل يذكر الأساتذة المغاربة الملحقون بدول الخليج سابقا، كيف مارسوا مهمة تصحيح أوراق الثانوية العامة (الباكالوريا) حيت طبقوا نظام التصحيح الجماعي للورقة الواحدة (نظام مستورد من مصر)، يعتمد مصححا ومراجعا للتمرين الواحد، وهكذا تحتاج الورقة الواحدة مثلا في الرياضيات المكونة من 5 تمارين إلى عشرة أساتذة فضلا عن جامع للنقط ومراجع عليه، وهكذا تخرج الورقة، بعد سلسلة الأيادي المتعددة، بريئة من كل شبهة كانت عمدا أو خطأ، ويستحيل أن يوجد مشتك واحد يطعن في أزيد من 10 مصححين !! هذا العمل الذي تقوم به وزارة في دولة كسلطنة عمان، حديثة في مجال التربية والتعليم، لعله يسائل فينا، نحن في البلد العريق، مصداقية تصحيحنا الفردي الذي يعتمد السرعة أسلوبا والإنهاء هدفا والثقة العمياء في الأستاذ مبدأ.. وبالمناسبة فأخطاء التصحيح، ليست بأي حال من الأحوال مقصودة (لا بوجود مصحح فاقد لقدراته العقلية) ومن ثم فحديثنا هنا حول الأخطاء العفوية.. ولا ننكر أنه بالثانوي الإعدادي اعتمدت سابقا بعض مديرياتنا مبدأ التصحيح بالورشات، لكن حسب عدد من الأساتذة فالعملية غير منظمة وتشوبها مشاكل عديدة، ليس وقت الحديث عنها.. خلاصة: ليس وحده أسلوب التصحيح الذي يحتاج لإعادة النظر، بل كل مراحل هذا الاستحقاق الوطني. والكل يشهد أن تعليمنا يعاني من أمراض مزمنة توارثناها كأجيال متلاحقة، ولم تملك الوزارات المتتاليات الشجاعة على إصلاح حقيقي يروم استئصال عدد من الأورام الخطيرة.. ولعل مسألة من حجم مشكل التصحيح وشكايات التلاميذ الدورية سنويا لا أعتقد أنها داء مزمن سيكلف الوزارة أكثر من قرار بسيط.. فهل سياتي اليوم الذي يتحرك فيه ضمير صاحب هذا القرار ويقول تعالوا نفكر في التجديد والتطوير؟؟ *أستاذ مادة الرياضيات