ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي؛ وعلى رأسها "فيسبوك"؛ خلال السنوات القليلة الأخيرة في إثارة ملفات كثيرة تحولت إلى قضايا رأي عام، ودفعت الدولة إلى التعاطي الإيجابي مع نبض الشارع الافتراضي والتدخل لتصحيح بعض الاختلالات التي أثيرت من طرف رواد هذه المواقع... ومع ذلك فإن تأثير "فيسبوك"؛ باعتباره الأكثر انتشارا واستعمالا؛ ظل محدودا رغم أنه تحول إلى وسيلة للمراقبة والرصد والكشف وإثارة الانتباه. وهو ما يضع الجهات المسؤولة موضع إحراج، ويدفعها إلى التفاعل بشكل أو بآخر مع ما يثيره من وقائع وقضايا اجتماعية وسياسية واقتصادية وأخلاقية... هذا الدور التنبيهي والتوجيهي - والرقابي أيضا- كان إلى وقت قريب موكولا لوسائل الإعلام والجمعيات الحقوقية والنقابات والأحزاب السياسية، نظرا لدور هذه المؤسسات في توجيه وتأطير الرأي العام... لكنه أصبح خلال السنوات الأخيرة في متناول أي شخص يمتلك مادة توثيقية لنشرها على مواقع التواصل الاجتماعي... وهذا يعني أن هذ العالم الافتراضي ساهم إلى حد بعيد في تخليص الأفراد من التبعية لسلطة المؤسسة الإعلامية والحقوقية والنقابية والسياسية، فقد منحت الشبكة العنكبوتية الفرصة للفرد لكي يمارس حقه في التعبير بجرأة قد يفتقدها واقعيا بغض النظر عن مقامه الاجتماعي أو مستواه المعرفي... وأصبح بالإمكان اليوم أن يطلق أي مواطن صرخة أو نداء أو رسالة، فتتلقفها صفحات التواصل الاجتماعي لتشكل قضية رأي عام بسرعة كبيرة. وهذا ما ينطبق على كثير من الحوادث والوقائع التي نالت اهتماما كبيرا عند رواد الوسائط التواصلية. وسأتوقف هنا عند ثلاثة أمثلة لوقائع، يتعلق أولها بنقاش عمومي ارتبط ببعض السلوكات التي تنامت مع بداية انتشار كورونا ببلادنا. أما المثالان الثاني والثالث فيرتبطان بالممارسة السياسية وتدبير الشأن العام... وقد عرفت هذه الوقائع تفاعلا واسعا في أوساط "شعب الفيسبوك" خلال الأسابيع والأيام الأخيرة... - المثال الأول يعود بنا إلى المرحلة التي بدأت فيها جائحة كورونا تنتشر ببلادنا، حيث ظهرت قراءات وتحليلات خرافية للوباء، ومواقف حاولت التمرد على التدابير الصحية والوقائية التي تنصح بها الجهات المختصة لمواجهة هذا الوباء، وقدمت وصفات علاجية في بعض الأحيان من طرف أشخاص لا يمتون بصلة لمجال الطب وعلم الفيروسات... وقد تحول "فيسبوك" إلى منصة لمحاكمة هذه السلوكات الغريبة، وبدا واضحا أن فئات واسعة من أبناء هذا الشعب أصبحت واعية بخطورة هذه الممارسات وعبرت عن استنكارها ورفضها. - المثال الثاني يرتبط بمشروع قانون تكميم الأفواه 22.20 المتعلق ب"استعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة" الذي حول الفضاء الأزرق إلى منصة للتنديد والاستنكار والرفض، لأن تسريب بعض مواد هذا المشروع المثير للجدل أثبت أن صانعي القرار يدركون تأثير سلطة مواقع التواصل الاجتماعي ودورها في تشكيل رأي عام يمارس الفعل الاحتجاجي بدون ضوابط واضحة، لكنه يحقق نتائج مؤثرة واقعيا... هذا التأثير تجلى بوضوح في إسراع وزير العدل إلى التراجع عن مشروع القانون المثير للجدل، وخلق نقاشا سياسيا كشف عن حربائية بعض التشكيلات الحزبية التي خرجت علينا ببيانات وبلاغات توضيحية لتبرئة ذمتها، على الرغم من أنها صادقت على مشروع القانون في المجلس الحكومي. - المثال الثالث يتعلق بمجال محدود ومحلي، لكنه تحول بدوره إلى قضية رأي عام... حيث تداول رواد "فيسبوك" صورا للوحات تتضمن تسميات لأزقة بأحد أحياء مدينة تمارة أثارت سخطا عارما، لأنها تحتفي بأسماء غريبة عن المجال والوجدان المغربيين، ولا تحمل أية رمزية علمية أو أدبية أو سياسية أو حقوقية، بل هي محسوبة على تيار ديني متطرف لا يمكن أن يشكل جزءا من ذاكرة وعينا الجمعي. وبالرغم من أن تلك اللوحات كانت موجودة منذ عدة سنوات إلا أن تحولها إلى موضوع للتداول "الفيسبوكي"، وردود الأفعال الرافضة ل "دعشنة" الفضاء العمومي دفع السلطات المحلية إلى التدخل الفوري لإزالتها. هذه الوقائع ( وغيرها) تؤكد أن "فيسبوك" يمنحنا فرصة كبيرة للترافع والدفاع عن قضايانا، وهو يمتلك قدرة عجيبة على التأثير في صانعي القرار، كما يساهم في تشكل وعي اجتماعي جديد؛ يمنح لكل المواطنين إمكانية المشاركة في تخليق الحياة العامة، وتنوير الرأي العام، وفضح التجاوزات، وكشف الاختلالات في مختلف تفاصيل حياتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية... وهذا يعني أن هذا الفضاء الإلكتروني ليس مجرد وسيلة للترفيه والتواصل فحسب، بل بالإمكان أن يتحول إلى منصة للتثقيف والتوعية والحوار البناء، واحترام الآخر، وتقبل الاختلاف، وبث الفكر النقدي. وهو ما ينبغي أن تحرص عليه كل القوى الحية والمتنورة في هذا البلد من خلال التصدي لبعض الجهات المؤطرة إيديولوجيا، والتي تجيش ذبابها الإلكتروني لتضليل المغاربة واستقطابهم عبر دغدغة مشاعرهم الوطنية أو الدينية في سبيل تحقيق مآرب خاصة... لقد تحول "فيسبوك" عمليا إلى سلطة رابعة جديدة تعوض الصحافة التقليدية، نظرا لسرعة انتشاره وتأثيره. أما الوظيفة الأساسية التي يمارسها، فإنها تكمن في نقل أصوات المواطنين في فضاء يتسع للجميع بشكل ديموقراطي، لأنهم يعرفون حقيقة واقعهم أكثر من غيرهم، لذلك فهم وحدهم يملكون القدرة على تغيير هذا الواقع، مادامت النخب السياسية والمثقفة معزولة عنهم، ولا تؤدي مهمتها في الدفاع عن قضاياهم. وبالتالي فإن نفوذ وسائط التواصل الإلكترونية بدأ يتنامى في ظل تراجع دور مؤسسات الوساطة. ولأن الشعب يجد آفاقا واسعة من الحرية في التعبير والاحتجاج على المستوى الافتراضي أكثر من الواقعي، فإنه يجد في منصات التواصل المذكورة بديلا ديموقراطيا يسمح له بالتأثير في الواقع بنقرة على شاشة حاسوبه أو هاتفه النقال. من الواضح إذن أن مستقبل إدارة الشأن العام لا يمكن أن ينفصل عن التأثير المتزايد الذي تفرضه وسائل التواصل الاجتماعي. وفي هذا السياق؛ ومن خلال الأمثلة المذكورة أعلاه؛ يبدو أن سلطة العالم الافتراضي على العالم الواقعي أفرزت درسين أساسيين: يتجلى الأول في كون هذه الوسائل ليست مجرد منصات للتعبير عن الرأي فحسب، بل هي أيضا بمثابة مراكز لممارسة الرقابة الأخلاقية والحقوقية في تتبعها للشأن العام... أما الدرس الثاني الذي يمكن استخلاصه من هذا الدور الذي تؤديه وسائل التواصل الاجتماعي عموما؛ و"فيسبوك" على وجه الخصوص؛ فيتمثل في أن الأفراد لم يعودوا في حاجة إلى توكيل وسطاء للحديث نيابة عنهم.