لم يحدث شيء!! أحيانا تكون هواجسنا ومخاوفنا أقوى من الواقع نفسه. بين نبضات القلب ورعشات الجسد قضيت رحلتي من لندن إلى الدارالبيضاء ثم طنجة. لم أشعر بالاطمئنان إلا وأنا أدخل على شروق ووالدتها وأرتمي في حضنهما معا ثم أقبل رأس وكف والدة شروق التي أناديها "خالتي رحيمو". أخيرا، انتهت رحلة العذاب، أو هكذا بدا لي. رغم تعب السفر كان بي فضول كبير لمعرفة محتوى الكتاب. شروق أيضا تذوب شوقا لذلك. كنا قد تواعدنا على ألا تلمسه حتى أعود لنكتشف أسراره معا. قلت لشروق أنني لم أعد مهتما ببيعه لأية جهة. سأكون سعيدا جدا وهو يقبع في متحف القصبة. ما دامت طنجة بخير، سأكون بخير. تغيرت أشياء كثيرة منذ عثرت على الكتاب إلى الآن. فرق كبير بين "عماد" المتشرد الذي يبحث عما يسد به رمقه، وبين "عماد الطنجاوي" الذي لم تعد ضروريات الحياة تشغله، والفضل لشروق طبعا. أفكر كيف يغير واقع الإنسان رؤيته ونظرته للأمور. لا تحدّث إنسانا جائعا عن التاريخ وعن القيم وعن المشاعر. كل ما ستقوله سيعتبره جنونا. هذا ما حدث معي. كنت أرى في الكتاب منجاة لي من دنيا الفقر والحاجة (وليس من دنيا التشرد بالضرورة)، بينما كانت شروق تحدثني عن طنجة وتاريخها. الآن، في وضعي الحالي، أستطيع أن أفهم كلام شروق وأن أستمع له. سألتُ شروق إن كانت قد لاحظت أي شيء أو حركة غير عادية في الجوار، فأكدت لي أن الأمور هادئة. لم أستبعد أن يحاول عبد القادر رشيد من جديد خطف شروق أو إيذائها لذا أوصيتها بأخذ الحذر. أمد قدميّ على حاجز الشرفة وأغمض عيني طالبا من شروق أن تقرأ وتترجم. اتفقنا على أن نقرأ في كل يوم بضع صفحات حتى ننهي الكتاب الذي يقع في حوالي 200 صفحة. كانت اليوميات ممتعة جدا. يحكي الراوي بالتفصيل عن أيام تواجده بطنجة تزامنا مع الحرب العالمية الأولى. يحكي عن طنجة حينا وعن أخبار الحرب حينا آخر. فاجأتني معلومة أن واحدة من أسباب الحرب العالمية الأولى وقعت في طنجة، وكانت تعرف ب"أزمة طنجة"، وكان ذلك بين سنتيْ 1905 و1906، حيث ساءت العلاقة وقتها بين الألمان من جهة وفرنسا وبريطانيا من جهة أخرى. أشياء غريبة ومثيرة أسمعها لأول مرة، وأفهم من جديد أنني أعيش فوق أرض ليست ككل الأرض، مكان ليس ككل الأمكنة. وأنا الأحمق الذي كنت أريد أن أبيع هذه الثروة مقابل حفنة ملايين؟ الآن أفهم لماذا كان مزاد آلفي على الكتاب مستعرا لا يتوقف. في كل مرة يظهر من هو مستعد لدفع ملايين اليوروات أو الباوندات، وفي كل مرة يكشف لهم آلفي عن صفحة تدير رؤوسهم من غرابة ما تحفل به. وكأنني أستيقظ من حلم. أفتح عيني لأجد أن شروق قد أخذ منها الإنهاك والتعب مبلغه فسقط الكتاب على حجرها بينما أغلقت عينيها وغطت في نوم عميق. شعرت بشفقة كبيرة عليها. ما مرّت به يصعب أن تمرّ به أي فتاة أخرى. كل هذا تنفيذا لوصية والدها وحبا في طنجة.. أي جوهرة نادرة أنت يا شروق؟ أحملها إلى الفراش وأعود لأتأكد من إغلاق النوافذ بكل حرص. بعناية فائقة أضع الكتاب في ركن ركين.. لازلت غير واثق مما قد يحدث في قادم الأيام. يتواصل معي خالد ويخبرني برغبته في كتابة موضوع، في صحيفته الإلكترونية، عن حكاية استعادتنا الكتاب ورغبتنا في منحه هدية لمتحف القصبة. أفكر مليا في الموضوع. لو تعامل معه خالد بذكاء فسيكون نشره في صالحنا. لكن لو تم ذكر كل الأحداث والتفاصيل، فقد تصل المعلومة بشكل ما لآلفي أو حتى للشرطة الدولية ونعود لنقطة الصفر. فما فعلته في لندن لم يكن بسيطا.. بل هناك محاولة اقتحام أولى، ثم اقتحام فعلي وسرقة كتاب نادر من منزل آلفي. أنا أعرف أنني على حقّ لكنهم لا يعرفون، وسيطبقون القانون بحذافيره.. وآه ثم آه من تطبيق القانون الأعمى دون النظر إلى عدالة القضية من عدمها. في الصباح، على مائدة الإفطار، جلسنا أن وشروق نفكر في خطواتنا القادمة. كان أهمها أن عودتنا للعمل مقهى الإنترنت ستكون محفوفة بالمخاطر، لذا أفضل حلّ هو بيعه، والابتعاد عن الأماكن التي تعوّدنا التواجد فيها ولو مؤقتا. في الغالب، "الدندول" ومنير لن يعودا إلى طنجة بعد فقدانهما لشروق لأن العقاب بالتأكيد سيكون قاسيا من طرف من كلفهما بالمهمة. هذا يعني أن طرف الخيط قد ضاع من يد عبد القادر رشيد. لكن لا أحد يدري.. سدّ الذرائع هو الحلّ. مسألة نشر خبر استعادة الكتاب قد تعيدنا إلى الواجهة بقوّة ونصبح مكشوفيْن أكثر لكل لطنجاوي، بل وكل مغربي، وليس لعبد القادر رشيد فقط. لكن، سنعتمد على مسألة أن المتشردين لا يقرأون الجرائد وبالتالي لن يصلهم الخبر بالتأكيد، كما أن عبد القادر رشيد لن يربط بيننا وبين من يبحث عنهما. هو لا يعرف ملامحي ولا ملامح شروق لحسن حظنا. بعد أخذ وردّ، قررنا أنا وشروق أن نفعلها. طلبنا من خالد أن يكتب الخبر ويطلعنا عليه ولا ينشره قبل أن نمنحه الموافقة النهائية. الحقيقة أن خالد كان موفقا جدا في كتابة الموضوع، وأوصل الفكرة العامة دون دخول في التفاصيل، بل إنه قام بتحريف بعضها إمعانا في التضليل، كحديثه عن "دولة أجنبية" دون ذكر بريطانيا بالضبط. ماذا عن نشر صورنا؟ ! خالد يقترح أن أظهر أنا على الأقل. تجربتي في نظره تستحق أن يعلم بها الجميع وأن أصبح وجها معروفا. يقول إن ذلك في صالحي وسيمنع أي شخص من الاقتراب مني بسوء. بل على العكس، سأصبح وجها محبوبا ومعروفا، على الأقل لمثقفي وعشاق طنجة بكل أنواعهم. وافقنا أنا وشروق. إن كان لعبد القادر رشيد سلطة، فينبغي أن تكون نحن لنا سلطة من نوع آخر إن كنا سنجابهه ، وهو الأمر الذي أكدت لي شروق أنها لازالت على وعدها بخصوصه، وأن الدّين ينبغي أن يردّ لذاك الحقير، بعز عزيز أو بذل ذليل. آخر خطوة قمنا بها أنا وشروق هي نسخ الكتب من أجل ترجمته فيما بعد، قبل أن نقوم بإهدائه للمتحف. خالد نشر الخبر. التجاوب كان كبيرا والبحث عن شخصي كان محموما، لكنني بقيت مختفيا حتى حين.. والآن، جاء دورك يا عبد القادر رشيد... أكنت تعتقد حقا أنك نجوْت؟ رواية "المتشرد" 24 : استعادة الكتاب أخيرا والتخطيط للعودة إلى طنجة