يعتبر شهر رمضان الفضيل وأجواء الحجر الصحي فرصة سانحة للتعرف على العديد من نخب المغرب العلمية من خلال كتاباتها واجتهاداتها، خصوصا وأن المتلقي متلهف لقراءة الكلمة العالمة الموجهة والصادقة والصادرة عن أئمة العلم ورموزه. وسنلتقي طيلة شهر رمضان المبارك مع مقالات قاصدة وموجهة، عكف الدكتور إدريس ابن الضاوية على كتابتها بلغة علمية رصينة وبيان عربي قلما تجده اليوم، يذكرك بالأصيل من الكتب والمؤلفين. الإنصاف من النفس ومقصد التخلق المزين للتدين (الجزء الثاني) إن التخلق المنصف يضمن محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ويورث القرب منه الموجب للجنة المستحق بأحاسن الأخلاق الموجهة، ومكارم الشيم المقومة، في قوله الشريف: "ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أحاسنكم أخلاقا، الموطؤون أكنافهم، الذين يألفون ويؤلفون، ثم قال: ألا أخبركم بأبغضكم إلي وأبعدكم مني؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الثرثارون المتشدقون المتفيهقون، قالوا: يا رسول الله، قد عرفنا الثرثارون المتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون ". كما يكون مستحقا لثناء الناس الذي يجعله الله تعالى شفاعة له، يمحو بها بفضله ما بينه وبينه، لقيامه بما يجمل الإسلام ويزين صورته بين الأنام. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت. ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال: وجبت، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض". وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أهل الجنة من ملأ الله أذنيه من ثناء الناس خيرا وهو يسمع، وأهل النار من ملأ أذنيه من ثناء الناس شرا وهو يسمع ". ولا يحظى بشرف هذه المنزلة إلا من جمع أصل الإحسان بالأخلاق والأعمال والأقوال، وبذل الأموال، وإسقاط الحقوق، وإباحة المنافع، والإعانة على الطاعات، والإفادة بكل نفع مندرج في المبرات، والدعاء القاصر الدافع لاحتياجات النقص، والمتعدي الناتج عن حب الغير بلا نكص. ولا يقوم الإحسان إلا بقيام مبادئ العدل أفضل الخيرات، ولا يصلح إلا بالقسط أم المكارم وأُسِّ المبرات، ويبرهن إلى كمال الشريعة بسببه، ويصدق مقصديتها بسنده، ولذلك نوه الله تعالى به في قوله: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز". ودعا نبيه صلى الله عليه وسلم إلى التحقق به في قوله: "فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير". في أفق أن يدخلوا بحق في قوله تعالى: "وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ"، وينالوا الجزاء المستحق لهم بقسطهم الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "أهل الجنة ثلاثة: إمام مقسط ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، ورجل غني عفيف متصدق". وقال فيهم: "المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم وما وَلُوا". وقد جمع الله كل ذلك، وأكثر منه لنيل ما هنالك في قوله: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون"؛ وجعله النبي صلى الله عليه وسلم من فرائض الأعمال المختلفة التي يتعاطاها الإنسان في تطبيق القرآن، أو في التفاعل مع الكون لتحقيق فرض العمران، المحقق للاستخلاف في الأرض، والضامن للنجاة يوم العرض. وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم فرضا لازما في كل تصرفات المكلفين، وحقا قائما في سعي المستجيبين، الذين يتشبهون بالله تعالى في خلق الإتقان الذي طبع الله به الوجود، وجعله وصفا ظاهرا في كل صنعه بالإنسان ومحيطه الذي يتقلب فيه فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته". والإحسان في أعمال الدنيا صنو الإحسان للحياة العليا، التي تقوم بها العمارة المرادة من الاستخلاف، ويتأسس عليها الإسعاد بالتعاون والائتلاف، باستجلاب مواجب إتقانها، وإجادة أوجه استخراجها، بما يميزها عن غيرها، ويعلي من شأنها، ويجعلها تحظى بالقبول، وتفوز بالرضا عن الجهد المبذول، الذي يُنَفِّق المنتوج المنظوم، وَيُرَوِّجُ المصنوع المزموم، ليتناسب ظهوره الفني الصناعي، مع الإتقان الخِلْقِي الإلهي الذي يُلْحَظُ في كل النعم المندرجة في عطاء التسخير، وَيُبْصَرُ في جميع الآلاء التي لا يخطئها النظر الحسير. وفي هذا ورد الحديث المشهور الحسن المعنى بتعدد شواهده: "إن الله عز وجل يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه". وقوله صلى الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكمتم فاعدلوا وإذا قتلتم فأحسنوا فإن الله عز وجل محسن يحب المحسنين". ولذلك قال أبو عبد الله لحارث بن أسد المحاسبي رحمه الله: "اعلم أن كل عقل لا يصحبه ثلاثة أشياء فهو عقل مَكَّار: إيثار الطاعة على المعصية، وإيثار العلم على الجهل، وإيثار الدين على الدنيا. وكل علم لا يصحبه ثلاثة أشياء فهو مزيد في الحجة: كف الأذى بقطع الرغبة، ووجود العمل بالخشية، وبذل الإنصاف بالتباذل والرحمة". وهذا الإنصاف المبذول الذي أسسه المربون لصلاح أنفسهم، وارتكبوه لضبط صنوف معاملاتهم، هو الإنصاف في إيمانهم بوعي غاية ما خلقوا له، والقيام بحق معاملة ربهم بالوجه الذي عينه، عن طريق من اجتباه من رسله، واصطنعه من خيرة نُذُرِهِ، وما رسمه لهم لحسن الصلة بخلقه، وما شاءه من قسمة في بَرْئِه؛ حتى تُعْطي العبودية حقها في المكرمات، ويُسَلَّمَ بها لمعاني الصفات بترك المحرمات، التي لا تليق بالعبد أي عبد، ولا تناسب ذا الكد أي كد، لاختصاص ربنا وحده بالعظمة، والكبرياء، وانفراد مولانا بحق الجبروت وعلو الاستعلاء. ومن إنصاف العبد لربه أن يعترف بنعمه عليه وفضله، فلا يرى سوى أياديه وطوله، ولا يحمد أحدا من خلقه على رزقه، مستعينا به على مراضيه، حذرا أن يتعاطي به معاصيه، ملاحظةً لخيره المنشور، واستبصارا لرزقه المشكور، وحياء من الذنوب الصاعدة، وخجلا من الآثام الزائدة، وحَشْماً من التقصيرات الحائلة، واعترافا بالافتقار إليه، وإقرارا بالاحتياج لما لديه، واستشعارا لسعة رحماته، واستذكارا لتواتر خيراته، واستبصارا لتجدد جزاءاته، واستحضارا لتنوع إمداداته، وتتابع عطاءاته، التي ترعاها قيوميته، وتخدمها مسخراته، وتحفظها ملائكته القائمة بحق أمره الذي لا مرد له. ورأس ذلك كله أيها الأصفياء مراقبة الله في جلاله، واستشعار اطلاعه في كماله، إعمالا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". الذي يدعو إلى تعظيم نظر الله بخوف مقامه، وتكبير علمه بتبين قدر اطلاعه، والحياء منه بإدراك سعة عز نظره، الذي لا يعزب عنه مثقال حبة في مجرة، ولا يخفى عليه في خلقه جزء من ذرة. كما يسفر عن ذلك قول الله تعالى: "ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الارض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم". "فهو سبحانه لا يخفى عليه شيء من أحوالنا، ولا يعزب عن سمعه وعلمه شيء من أقوالنا وأعمالنا، فطوبى لنا إن أطعناه، والويل لنا إن عصيناه، إذ لا نصح أنفع من نصحه، ولا وعظ أنجع من وعظه، ولا أدب أكمل من أدبه، ولا طلب أفضل من طلبه، وقد أمرنا أن نحسن إلى عباده كما أحسن إلينا، وأن ننعم عليهم كما أنعم علينا"... إن عاقبة الإنصاف الذي تدور عليه شعب الإيمان، وغاية العدل الذي ترجع إليه مقامات الإحسان، أنها تفضي إلى روح الله وريحانه، وتوصل إلى جنته محل رضاه ورضوانه، حيث تتجلي الصور المنتهية في الكمال والجلال، وتبصر الجزاءات المكتملة في خاص الرونق والجمال، الذي وعد الله به أهلها، وأسعد بها خاصتها، ممن سعى للأخرى سعيها، وأقام لها بحق شرطها، فتزين بمحاسن الأفعال، وحقق المرتجى من الآمال، ليدخل بفضل الله عما قريب إلى جمالها، ويلج إلى حضرة بهائها الذي أشرقت بهجته، ولمعت زهرته، وراقت نضارته، التي سيلحظها إن شاء الله في مساحتها وبنائها، وشجرها وثمرها، وفراشها ولباسها، وقصورها وحورها، وخدمها، وحليها، وسوقها وخُزَّانها، وبساتينها وأوانيها، وأجناسها وألوانها، ولذاذتها واختلاف طعومها وخاصة أهلها التي لم تعهد ولم تشهد. فاللهم تلقنا بالأمل فيك، وبشرنا بالوصول إليك، ومتعنا بالنظر إلى نور وجهك، وأسبغ علينا من خاص نعمك، ونجنا من المهالك، واصْحَبنا في جميع المسالك، واكشِف عنا كل بلاء وعناء، واعْمُمْنا بكل عطاء وحِباء، وصِلْ بيننا وبينك بلطفك وعَلائك، وارسُمْنا في زمرة أوليائك وأصفيائك. والحمد لله رب العالمين.